الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
وما نشاهده من قلة البركات في التجارات، والبيوع والمشتريات والرواتب والعقارات لما يحدث من الكذب والخيانة والتدليس وأكل أموال الناس بلا أمانة وعدم القيام بالوظائف والأعمال كما هي أمانة. فمَن أخذ مالًا بغير حقه كمَن أخل بعمله أو وظيفته أو تجارته أو ما أوكل إليه كالوصية والوكالة أو باع ما حرم الله أو أكل الربا بشتى صوره؛ لاسيما في هذا الزمان الذي كثر فيه أكل الربا، وتساهل الناس في المساهمات المحرمة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله أقصى مبلغ الحمد | والشكر لله من قبل ومن بعد |
الحمد لله عن سمع وعن بصر | والحمد لله عن عقل وعن جسد |
الحمد لله في سري وفي علني | والحمد لله في حزني وفي سعدي |
الحمد لله عما كنت أعمله | والحمد لله عما غاب عن خلدي |
الحمد لله مَن عمّت فضائله | وأنعم الله أعيت منطق العدل |
فالحمد لله ثم الشكر يتبعه | والحمد لله عن شكري وعن حمدي |
وأشهد أن لا إله إلا الله هو معبودي لا رب لي سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عبده ومصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم لقاه..
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله جلَّ في علاه.
أيها المسلمون حديثنا إليكم تابع لما سبق معكم وتشنفت به أسماعكم، وهو الحلقة الثالثة من التذكرة في موانع البركة، وسبقت الأولى أهمية البركة، وتاليتها أسباب البركة، وثالثتها اليوم موانع البركة.
ومن المعلوم أيها الأخ المسلم أن معرفة الضد للتوقي والحذر، وكما أن الشيء له أسباب وموانع؛ فإذا اجتمعت أسبابه وانتفت موانعه؛ أينعت ثمرته، وحلت بركته، وحصل مطلوبه، ونال مرغوبه، وزال مرهوبه، فلما ذكرت الأسباب فدونك الموانع والحجاب، وذكر الأسباب؛ بمعنى: ترك ضدها وهي الموانع، وذكر الموانع؛ ذكر للأسباب.
الأول: فمنها وهو أعظمها وأولها وأساسها وأكبرها؛ عدم الإيمان: فعدم الإيمان وتحقيقه نقص للخير والبركة، قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف:96]، وعدم الإيمان تارة يذهب بالكلية وتارة تنقصه المعصية.
الثاني: الإخلال بالتقوى والنقص من تحقيق التقوى: فقد قال عز وجل وعلا: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف:96]، فالمعاصي؛ تزيل الخيرات وتذهب البركات وتحل النقمات والحسرات، فعليه كل معصية تمحق البركة وتنزع الخير والثمرة.
قال ابن القيم -رحمه الله- على قوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41]، قال: "ومن عقوباتها أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة وبالجملة: إنها تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممَن عصى الله وما محيت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف:96]، وقال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:16].
وإنما كانت معصية الله سببًا لمحق بركة الرزق والأجل؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، فسلطانه عليهم وحوالته على هذا الديوان وأهله وأصحابه وكل شيء يتصل به الشيطان ويقاربه، فبركته ممحوقة.
والمعصية تحرم الرزق والبركة، فعند أحمد في مسنده: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"، وكل معصية فهي داخلة في هذا الباب، وإذا كانت المعصية الواحدة تحرم الرزق والبركة؛ فكيف بالمعاصي المتتالية؟!
ومنها: الحلف وكثرته لاسيما في البيع والشراء، وبعض الناس لا يتكلم إلا بحلف، ولا يدعو صاحبه إلا بحلف، ولا يبيع سلعته إلا بحلف، ولا يشتري إلا بحلف؛ هذا إذا كان صادقًا في حلفه أما إذا كان كاذبًا؛ فهذا عقوبته أخرى مغلظة، فالحلف وإن أنفق السلع وروج البيع والقطع؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة" وربنا يقول: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) [المائدة: 89].
ومن الموانع وقبيح الذنوب الشنائع: الكذب والتدليس والغش والخداع والتلبيس، ففي الصحيحين عن سيد الثقلين: "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما".
وما نشاهده من قلة البركات في التجارات، والبيوع والمشتريات والرواتب والعقارات لما يحدث من الكذب والخيانة والتدليس وأكل أموال الناس بلا أمانة وعدم القيام بالوظائف والأعمال كما هي أمانة.
الخامس: الإنفاق من المال الرديء والتصدق بالخبيث الوبي، روى النسائي -رحمه الله- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث ساعيًا؛ فأتى رجلًا فأتاه فصيلاً مخلولاً؛ أي: مهذولا، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهم لا تبارك فيه ولا في إبله" فبلغ ذلك الرجل فجاءه بناقة حسناء فقال: أتوب إلى الله وإلى نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم بارك فيه وفي إبله". فكل مَن تصدق بالتالف والرديء والخبيث والحقير؛ فله من الدعوة بعدم البركة نصيب، وربنا يقول: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) [البقرة:267].
وبعض الناس إذا تلف ما عنده وفسد ما في بيته من أكل أو شرب أو لباس أو طعام قال: هذا لا يصلح إلا للصدقة وإطعام الطعام فتصدقوا به. سبحان الله! أين أنت قبل فساده ودماره وخرابه وهلاكه! أترضى أن تعطى ما تلف وخرج عن صلاحه؟ أو انتهى تاريخه أو فسد أكله وشربه أو انتهت صلاحيته؟
ومن الموانع حفظكم الله من الفواجع: بيع البيت والعقار، والمقصود: البيت الذي يسكنه الإنسان؛ فبيعه يعرضه للدمار والخسارة والديون والمسائلة، لما روى أحمد في مسنده عن سعيد بن حوريث -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "مَن باع دارًا أو عقارًا فلم يجعل ثمنها في مثله كان قمنًا ألا يبارك له فيه"، قال صاحب الفتح الرباني: "لما كانت الدار كثيرة المنافع قليلة الآفة لا يسرقها سارق ولا يصيبها ما يصيب المنقولات كره الشارع بيعها؛ لأن مصير ثمنها إلى التلف إلا إذا اشترى به غيرها فلا كراهة".
ويشبه هذا ما حدث في الفترات الماضية أيام الأسهم والمساهمة؛ عندما باع بعض الناس بيوتهم وعقارهم وأموالهم وأرضهم ووضعوها في الأسهم والمساهمات؛ فكانت إلا ما شاء الله النتيجة الفشل والخسارة وتحمل الديون والكارثة، فبيع المنزل أو العقار ربما المرء أكل ثمنه وأضاع عياله وتلف ماله وتعسرت حاله وكثرت ذنوبه وكثرت ديونه.
ومنها أيها المسلمون: أكل المال الحرام بشتى صوره وتنوع أسبابه، وأعظم ذلك وأكبره أكل الربا، قال جلَّ وعلا: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة:276].
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم: "فمَن يأخذ مالًا بحقه يبارك له فيه، ومَن يأخذ مالًا بغير حقه، فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع"، فمَن أخذ مالًا بغير حقه كمَن أخل بعمله أو وظيفته أو تجارته أو ما أوكل إليه كالوصية والوكالة أو باع ما حرم الله أو أكل الربا بشتى صوره؛ لاسيما في هذا الزمان الذي كثر فيه أكل الربا، وتساهل الناس في المساهمات المحرمة والأسهم المشبوهة والتعاملات الربوية..
فالحذر الحذر والنذر النذر من أكل الربا خلص مالك وما تغذي به عيالك قبل رحيلك وانتقالك، فالمرابي وإن كثرت أمواله وزادت أرصدته فهو ممحوق البركة.
ومن موانع البركة ونزع الخيرات والحركة: الطمع والحرص في طلب الدنيا؛ فيرغب لها ويحب لها ويبغض لها ويضيع ما أوجب الله عليه لها، ويرتكب ما حرم الله عليه لها؛ حتى ربما ناله من غير حله لطمعه وجشعه وشدة حرصه، وفي الصحيحين حديث حكيم بن حزام: "يا حكيم إن هذا المال خضرةٌ حلوةٌ فمَن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومَن أخذه بإشرافٍ لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع"، فخذ هذا المال بطيب نفس وسخاء حال وراحة بال، واحذر الجشع والطمع والطلب الزائد والهلع.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.
ومن الموانع والزواجر والروادع: منع الزكاة كمَن يمنعها فلا يدفعها أو يبخل بها أو يخرجها من غير طيب نفس أو يتجاهلها ويتناساها أو لا يُذكر بها زوجته وأولاده وإخوانه وعماله، فمنعها والتساهل بها من أعظم الموانع ومحق البركات.
ومن ذلك: تطفيف الكيل والميزان وما شابههما من البخس والنقص في الكيل والميزان، والبيع والشراء؛ كمَن يخفي عن المشتري ماله وما هو حقه لعدم علمه بذلك، أو يأخذ ما زاد عن الأصل بدون علم.
ومن الموانع أمة الخير والجوامع: عدم الرضا بالرزق وما قدره المولى فتجده يتحسر ويتلفظ ويتضجر ويتسخط على ما قضاه الله وقدره، وفي الحديث: "إن الله يبتلي عبده بما أعطاه؛ فمَن رضيَّ بما قسم الله له بارك الله له فيه ووسعه، ومَن لم يرضى لم يبارك له"، فمَن قنِع بما أتاه الله؛ بارك الله له فيما أعطاه، ومَن تسخط على قضاء الله؛ خسر دينه ودنياه.
والإعراض عن دين الله وعن تعاليمه وأوامره ونواهيه وكفر نعمه سبب لمحق البركة، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ:15-16].
قال السدي ومقاتل -عليهما رحمة الله-: "كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلئ مكتلها من أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئًا بيدها". ويا ترى في هذه الأزمان قلَّتِ البركات بأسباب الفخر والخيلاء والإسراف وكفر النعماء فرُميت النعم في النفايات وأهدرت الخيرات ورصعت الإبل بالمجوهرات، وأحرقت المئات بالنيران والتافهات.
ومن الأسباب المانعة وللبركات ماحقة: البخل وعدم الإنفاق، فالبخيل تدعو عليه الملائكة كل يوم بالتلف، والمنفق بالخلف؛ كما قال سيد الخلف والسلف: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفا".
والخامس عشر أيها المعشر: الخيانة بين الشركاء والكذب بينهما، وفي الحديث يقول الله تعالى: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت بينهما" رواه أبو داوود.
فإذا حلت الخيانة بدل الأمانة، والكذب بدل الصدق؛ نزعت البركة بينهما، وزال الهناء والصفاء، ونزل الهم والشحناء.
والأسباب كثيرة ويدخل فيها: عدم الخوف من الله وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وأكل الربا والزنا وسماع الغناء والخنا، وفي الجملة أساس محق البركات وقلة الخيرات: الذنوب والمعاصي والسيئات.
فاتقوا الله عباد الله تحل عليكم البركات وتنزل عليكم الرحمات، واحذروا المعاصي فهي مجلبة لمحق ونزول وذهاب البركات، فما يحصل من نزاع وخلاف وشقاق وخصام وتفكك أسر، وقلة بركة في المال والولد والعمل والراتب؛ إلا وأسباب ذلك المعاصي، فقلة البركات في هذه الأزمان ظهرت، وفي القوم انتشرت، فلا ينعم الإنسان بالمال ولا بالزوجة ولا بالسكن ولا بالأسرة ولا بالعمل ولا بالوظيفة.
ونزع البركة على مستوى الأفراد أدى إلى نزعها على مستوى الأمة، فالأمة اليوم كثيرة، ولكنها في البركة قليلة ففي الحديث عند أحمد: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: يا رسول الله من قلة يومئذٍ؟ قال: "لا، بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهة الموت".
فرحماك ربنا رحماك في زمنٍ تكالب الأعداء على الضعفاء، والأقوياء على المساكين من المسلمين لسلب أموالهم وانتهاك أعراضهم وسفك دمائهم وتخريب ممتلكاتهم ونهب أراضيهم، فلا تكاد يوم إلا وتسمع دماءً سائلة وأعراض منتهكة وأموال مسلوبة وحروب طاحنة وقنابل مروعة، فاللهم ارحم المسلمين من أعداء الدين يا رب العالمين.
هذا وفي حلقة رابعة قادمة -بإذن الله- نأخذ نماذج وصور من البركة ومواقف مشرقة.
والله أعلم.