الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
فخرج الرجل الذي كان أَسلَفَهُ ينظر لَعَلَّ مركبا قد جاء بماله، فإِذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهلِهِ حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قَدِمَ الذي كان أسلفه، وأتى بألف دينار، فقال: واللهِ ما زلتُ جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدتُ مركبًا قبل الذي جئت به، قال: فإن الله قد أَدَّى عنكَ الذي بعثته في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا» (أخرجه البخاري).
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: في ظل تعقيدات الحياة ومشاغلها ومتاعبها ومصاعبها الكثيرة، وفى ظل تقنياتها المتعددة يبقى الإنسان يبحث عن السعادة أين تكون، وما هو الطريق الموصل إليها، وكيف يستطيع أن يحققها لنفسه ولأهله وأولاده، وهنا يلهث الناس ويركضون ينشدونها بين مقلّ وبين مكثر، بين من يرى أن الاستكثار من الدنيا هو الطريق الموصل لإبعاد الهمّ والحزن والنكد، ومنهم من يرى أن المنصب هو الطريق الأسلم لنيل السعادة، ومنهم من يرى أن الطريق إلى الله -جل وعلا- هو بلزوم طريق محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الطيبين الطاهرين بلزوم طريق الآخرة الدار الآخرة، فهو يحسن العلاقة مع ربه.
وهنا نقول: إن أقصر الطرق إلى الله هو التوكل عليه سبحانه واللجوء إليه وطلب العون منه سبحانه وتعالى بذلك يتحقق الخير الكثير والرزق الوفير ينشرح صدر المؤمن وصدق الله العظيم (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2- 3].
نعم أخي المبارك! توكل على الله، واعلم أن الرزق مضمون، وأن الأجل محدود، وصدق الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنّهُ لنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَوْفِي رِزْقَها وَأَجَلَهَا" (رواه ابن حبان في صحيحه).
إذاً ما لنا نلهث خلف شيء مضمون؟! ما لنا نركض خلف شيء ضمنه الله -جل وعلا- لنا؟! ما كتب لك يا عبدَ الله من تمرة فستأكلها، وما كتب لك من خطوة فستمشيها، وما كتب لك من دينار، فستحصل عليه، اطمأن إذاً عليك بالعلاقة مع الله عليك بالتقوى.
ولهذا لجأ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في أحلك الظروف وأقساها لجأوا إلى الله -سبحانه وتعالى-، ألا ترون أن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- لما كانوا في الغار يوم الهجرة، وقال أبوبكر -رضي الله عنه وأرضاه-: "والله يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا"، ماذا كان جواب حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- لم يتلكأ لم يتردد، قال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
وانظروا إلى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما أضرمت عليه النيران، قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وموسى لما أدركه فرعون وقومه وقال له أصحابه: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ما تلكأ وما تردد، بل قال: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
ويونس لما رمي في البحر وابتلعه الحوت لجأ إلى ربه: (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
وأيوب لما مسه الضر لجأ إلى الله -جل وعلا-.
إذاً أخي الحبيب! توكل على الله، والزم غرز الطاعة والعبادة، وقوِّ علاقتك بربك، وأبشر, يقول عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً" (رواه الترمذي).
من الذي علم الطير؟ من الذي رزقه؟ من الذي جعله يتحرك؟ إنه الله، إنه الرزاق -سبحانه وتعالى- ولهذا يروى أن رجلاً ودَّع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال: إني ذاهب لأطلب الرزق لأن أخي تفرغ للعبادة، وأنا أنفق على نفسي وعليه، ذهب هذا الرجل وفي عرض الطريق آواه غار لما جاء المساء عند غروب الشمس رأى حية عمياء تخرج من قعر الغار إلى فوهته إلى باب الغار، ثم تفتح فاها فيأتي طير ويدخل في فمها..
من الذي جعلها تتحرك في هذا الوقت؟! من الذي جاء بالطير وجعله يدخل في فمها؟! إنه الله الرزاق -سبحانه وتعالى-، رجع هذا الرجل فرآه عمر فقال له عمر: ما لك؟ قال: رأيت كذا وكذا. قال: "يا هذا! اليد العليا خير من اليد السفلى، اذهب وابحث عن الرزق".
نعم نحن نطلب الأسباب، نبذل الأسباب، ولكن الرزق مضمون والأجل محدد (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34].
أيها المؤمنون: جاء في الصحيح عند البخاري وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- «ذكر رجلاً من بني إِسرائيل، سألَ بعضَ بني إِسرائيل أن يُسلِفَه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أُشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقتَ، فدفعها إِليه إِلى أجل مسمَّى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركَبا يركبه يقدُم عليه للأَجل الذي أَجّله، فلم يجد مَرْكَبا، فاتخذ خَشَبَة فنقَرها، فأدخلَ فيها أَلفَ دينار، وصحيفة منه إِلى صاحبه، ثم زجَّج موضعها، ثم أَتى بها البحر، فقال: اللهم إِنك تعلم أَنِّي تَسَلَّفْتُ فلانا أَلف دينار، فسألني كفيلا، فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضيَ بك، وسألني شهيدا، فقلتُ: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وإِني جَهِدت أن أَجِدَ مركبا أبعث إِليه الذي له، فلم أَقْدِرْ، وإِني أستودعتُكَها، فرمى بها في البحر حتى وَلَجَتْ فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرجُ إِلى بلده.
فخرج الرجل الذي كان أَسلَفَهُ ينظر لَعَلَّ مركبا قد جاء بماله، فإِذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهلِهِ حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قَدِمَ الذي كان أسلفه، وأتى بألف دينار، فقال: واللهِ ما زلتُ جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدتُ مركبًا قبل الذي جئت به، قال: فإن الله قد أَدَّى عنكَ الذي بعثته في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا» (أخرجه البخاري).
انظر رعاك الله! إلى هذين الرجلين المقرض والمقترض كيف توكلا على الله -جل وعلا-، كيف رضيا به سبحانه كيف اعتمدا عليه, الله -جلا وعلا- رزقهما، عوَّض المقرض خيراً، ورد عن المقترض قرضه، مع أن الأصل هلكة المال في هذا البحر؛ لأن هذه خشبة تجريها الأمواج، لكن الله -جل وعلا- حفظها.
فاحرص يا عبد الله على بذل الأسباب، ولكن عليك بالتوكل على الله، كيف وقد أمر الله -جل وعلا- نبيه بذلك، فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [النساء: 81]، فاحرص على أن تتوكل على الله في شئونك كلها، ولكن حذارِ حذار أن تقعد وتكسل ولا تبذل الأسباب، فنحن مأمورون بالتوكل على الله، وأيضًا مأمورون بفعل الأسباب وبذلها "اعقلها وتوكل".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهدُ أن محمداً عبدُ الله ورسوله إمام المتقين وقائد الغُرِّ المحجلين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاعلموا أيها المؤمنون: أن للتوكل على الله ثمرات كثيرة، منها انشراح الصدر، واليقين والرضا بالقضاء والقدر، والصبر والتحمل، وأيضاً طلب الدنيا ورغد العيش، وأيضاً برد اليقين، وتحمل التبعات الكثيرة، فكل ما كان الإنسان متوكلاً على ربه -جل وعلا- كلما كان مرتاح الضمير، كلما كان قرير العين، كلما كان منشرح الصدر.
فاحرص يا عبد الله على أن تكون علاقتك بربك علاقة قوية وثيقة عن طريق العبادة لله -جل وعلا- بالمحافظة على الفرائض والاستكثار من السنن، والحرص على السلامة من حقوق الخلق، فكم من إنسانٍ يحقد على نفسه بأكل أموال غيره من غير طريق شرعي، وهذه الأموال ستقف مع صاحبك يوم العرض على الله، ولن يغفر لك إلا إذا تنازل صاحب هذه الأموال.
ولله درُّ ابنة حاتم الأصم حينما حنَّ أبوها للحج، ولكنه لا يجد نفقة الحج، ولا يجد نفقة أولاده وقت غيبته، فجاءت إليه ابنته، وقالت: يا أبتاه أراك حزيناً، أراك باكياً، أراك علاك الهمّ، أراك كثير الإطراق لرأسك، فقال: يا بنية إني أتوق إلى الحج، لكني لا أجد نفقته. فقالت: يا أبتاه يرزقك الله -جل وعلا-.
فقال: لكن الأمر لأمك، لا بد أن تأذن لي؛ لظروفها وظروف إخوانك وأخواتك. فأقنعت البنت التقية الصالحة أمها وإخوانها وأخواتها، وقالت لأبيها: أنت لست رزاقاً وإنما أنت آكل رزق، فاذهب إلى الحج، والله -جل وعلا- يرزقنا فذهب، ولم يترك عندهم إلا ما يكفيهم ثلاثة أيام، ولم يكن معه شيء، فكان في ذيل القافلة، يعني في آخر القافلة.
وبعد خروجهم من البلد لُدغ قائد القافلة، فقال: هل من راقٍ؟ فقيل: معنا حاتم الأصم كان تقياً صالحاً، فرقاه فشفاه الله، فقال صاحب القافلة: عليَّ مؤنته ذهابًا وإيابًا، فقال حاتم: "اللهم هذا تدبيرك يا ربي لي؛ فقد رزقتني، فأرني يا حكيم يا عليم يا رزاق يا كريم تدبيرك لأهلي".
ثم إنه بعد ثلاث ليال نفذ ما عندهم، فضجوا على البنت، يقولون لها: أنت السبب فيما نحن فيه، وهي تضحك وتقول: أبي رزّاق أم آكل رزق؟ قالوا: بل آكل رزق. قالت: ذهب آكل الرزق، والرزاق حي لا يموت.
ثم ما لبثوا أن طرق الباب، وإذا الخليفة بالباب جاء من رحلته فقال الطارق بالباب: "إن الخليفة يستسقيكم الماء، فملأوا القربة وأعطوه إياها، فشرب منه، فوجده ماءً حلواً عذباً فقال: من أين هذا؟ فقالوا: من بيت حاتم. فقال: ادعوه لي من أجل أن أكافأه. فقالوا: في الحج فخلع حزامه، وكان مرصعاً بالجواهر، وقال: من يحبني فليخلع عليهم ما عنده، فخلع الوزراء والأمراء فاجتمع مال كثير فاشتراه أحد التجار بمال وفير حتى ملأ بيتهم، ثم أعاد الخليفة منطقة حزامه، وأعاد إلى الأمراء ما أخذه؛ لأنه اشتراه بماله.
بكت البنت فقالت لها أمها: ما خبرك نجوع ونبكى وتضحكين ونفرح، ونُسرّ فتبكين فقالت: أبكي لأن هذا المخلوق الضعيف نظر إلينا نظرة عطف، فملأ بيتنا فكيف بالخالق العظيم الرزاق الكريم.
الجأ إليه، توكل عليه، ولا تهتم من الدنيا كلها مهما كانت قوة الأعداء، مهما كان جبروتهم، والله لا يساوي شيئًا، لكن نحتاج إلى الوحدة، نحتاج إلى الاجتماع، نحتاج إلى الصدق، نحتاج إلى التوكل على الله، نحتاج إلى أن يحمي بعضنا بعضًا، وأن يرفق بعضنا ببعض، وأن لا يتعرض بعضنا لبعض، وهنا أبشروا بالخير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليمًا- :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].