العربية
المؤلف | عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
حين يصل المرء إليها يَنتقل إلى عالم آخر بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، فيلقي نظرة الوداع على عالم الطفولة، ويوقِن أنْ لا رجعة إلى هذه المرحلة، وتُصبح حياة الطفولة مجرَّد ذكريات يتذكَّرها المرء بين الحين والآخر، ولحِكمة يريدها الله -سبحانه- تَشهد هذه المرحلة تحولات...
الخطبة الأولى:
أمَّا بعدُ:
فيا أيها المؤمنون: كنَّا فيما مضى أطفالاً نعيش عالَم الأطفال وهمومَهم، وكنا نتساءَل حينها: متى ننتقل إلى عالم الرجال؟ وما النقطة الفاصلة بين عالم الرجال وعالم الأطفال؟ ومتى يعد المرء طفلاً؟ ومتى يُعتبر رجلاً؟
وقد عَلِمنا الآن هذه النقطة والعلامة الفارقة، ألا وهي: مرحلة البلوغ وسنِّ التكليف؛ فحين يصل المرء إليها، يَنتقل إلى عالم آخر بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، فيلقي نظرة الوداع على عالم الطفولة، ويوقِن أنْ لا رجعة إلى هذه المرحلة، وتُصبح حياة الطفولة مجرَّد ذكريات يتذكَّرها المرء بين الحين والآخر، ولحِكمة يريدها الله -سبحانه- تَشهد هذه المرحلة تحولات جسديَّة وتغيُّرات نفسية، فيَخشُن الصوت، ويزيد نموُّ الجسم، وتتغيَّر طريقة التفكير ومعالجة الأمور، وهذه التغيُّرات والتحولات تهيئةٌ للمرء وإعداد لدخول مرحلة جديدة من العُمر، بل إنها بَدء حياته الحقيقية، فقد خلَقه الله لعبادته، وقد آنَ وقتُ التكليف في حقِّه، وأصبح مسؤولاً ومحاسَبًا على أدائه لهذا الواجب، وقبل هذه المرحلة لَم يكُ مخاطبًا بالتكاليف الشرعيَّة، وكان قلمُ التكليف مرفوعًا عنه، أمَّا بعد بلوغ سنِّ التكليف فإن العبد يكون مطالَبًا بالفرائض التي تجب على الرجال؛ من طهارة وصلاة، وصيام وحج، وجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الواجبات الشرعيَّة، كما تُسجَّل عليه الخطايا التي يَقترفها من كذبٍ وخيانة، ونظرٍ إلى الحرام، وغير ذلك مما حرَّم الله -سبحانه- ويستحقُّ الجزاء على ذلك يوم القيامة من خير وشرٍّ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة: 7 - 8].
وحين يبلغ الفتى سنَّ التكليف، فله جميع أحكام الرجال، فلو كان يتيمًا ثم بلَغ الرشد، وأحسن التصرُّف في المال، فإنه يستحقُّ أن يستلمَ ماله؛ ليتصرَّف فيه بما يشاء؛ كما قال سبحانه: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [النساء: 6].
وإذا ارتَكب البالغ جريمة توجِب الحدَّ -كالسرقة والقتل، والزنا ونحو ذلك- فإنه يقام عليه الحدُّ، بخلاف الصغير الذي لَم يبلغ، والبالغ تُقبل شهادته في الحقوق والحدود، ويُبنى عليها، شأنه شأن الرجال، فلو شَهِد برؤية هلال رمضان، عُمِل بشهادته وصام الناس بها، بل إنه يتحمَّل المسؤولية الكاملة عن نفسه، فلا والده ولا غيره سيحمل عنه شيئًا من وِزره.
أمَّا الصبي الذي لَم يبلغ فلا عبرة بشهادته، ولا يؤاخذ بجَريرته، فلو قتَل نفسًا لَم يُقتل، ولا يُسلَّم مالُه إليه، ولا يَنفُذ تصرُّفه في حقوقه؛ لأنه لَم يبلغ بعدُ سنَّ التكليف.
فما دام الأمر بهذه المثابة، وما دام التكليف معلقًا بالبلوغ، فإن الحاجة ماسَّة إلى إيضاح هذا الأمر وبيانه للناشئة، ولا سيَّما من قارَب سنَّ البلوغ.
ومن رحمة الله -تعالى-: أنَّ للبلوغ علامات واضحة، يَسهل الاطِّلاع عليها ومعرفتها، فبلوغ الفتى يحصل بواحدة من ثلاث علامات:
الأولى: إنزال المَنِي؛ سواء كان ذلك يقظة، أم منامًا.
والثانية: إنبات شعر العَانة، وهو الشعر الذي يَنبت حول الذَّكَر.
والثالثة: بلوغ سنِّ الخامسة عشرة بالسنين القمريَّة، فمتى حصَلت واحدة من هذه العلامات، فإن التكليف قد حصَل، وبدأَت مسؤولية الإنسان عما يعمل.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وهو خير الناس تربية وتعليمًا يعامل الشباب البالغين كما يعامل سائر الرجال، ففي الجهاد الذي يكون فيه القتل وإراقة الدماء -مما لا يحتمله إلاَّ الأشدَّاء من الرجال- كان صلى الله عليه وسلمَ يأذن للشباب الذين تأهَّلوا له بالمشاركة فيه مع المسلمين باعتبارهم رجالاً، وكان صلى الله عليه وسلمَ حين يخرج للغزو، يتفقَّد الجيش، فمن رآه صغيرًا أعادَه، ومن كان غير ذلك، أذِنَ له، والمقياس الذي يفرِّق به بين الصغير والكبير هو البلوغ؛ يقول عبد الله بن عمر: "عرَضَني رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يوم أُحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني، وعرَضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازَني" [رواه البخاري ومسلم]، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "ردَّ النبي -صلى الله عليه وسلمَ- سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لَم يرهم بلَغوا، ثم عُرِضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم؛ منهم: زيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وابن عمر".
فانظروا -رَحِمكم الله- كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يعامل صحابته ممن بلَغ سنَّ الخامسة عشرة، ويا تُرى ما حالُنا مع مَن هم في مثل هذه السنِّ؟
إنَّ الكثير منا ليُعاملهم كالأطفال، بل رُبَّما استمرَّ هذه النوع من التعامل مع الأبناء؛ حتى يبلغوا سنَّ العشرين أو قريبًا من ذلك، وفي هذا خَللٌ تربوي وتقصير جَلِي، وجِناية على الابن من حيث لا يشعر الأب، وكم تَخسر الأمة من جرَّاء هذا التعامل، والله -تعالى- هو الخالق العليم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، فهو سبحانه أعلم بالسنِّ التي يُطيق العبد فيها أداء الواجبات، وتحمُّل المسؤوليات.
اللهمَّ أعنَّا على ذِكرك..
الخطبة الثانية:
أمَّا بعدُ:
فهذه وصيَّة لِمَن بلَغ سنَّ التكليف: فيا أخي إنَّ الانتقال إلى هذه المرحلة يستوجب منك أن تفكِّر كثيرًا في نفسك، وأن تستعدَّ لِما أمامك، فلم يَعُدْ يُقبَل منك اليوم ما كان يُقبَل فيما سبَق، فابدأ بعبادة ربِّك التي أمرَك الله بها، وأهم شيء في ذلك الصلاة، فهي عمود الدين، وعلامة الإيمان، ثم انظر في حالك مع والديك، ومدى عنايتك ببرِّهما، فقد قرَن الله -تعالى- حقَّهما بحقِّه، وتفقَّد لسانك ونظرَك وسائر جوارحك، ثم انظر في أصدقائك، واعلَم أنَّ المرء يُحشر يوم القيامة مع مَن يحب، وأنه على دين خليله، ثم ما شأن اهتماماتك؟ هل أنت لا تزال تعيش آمال الأطفال، وتفكِّر تفكيرهم؟ أم أنَّ هِمَّتك قد علَت وهامَتَك إلى الخير قد شَمَخت؟
واعلم -يا أخي- أنَّ المرء حيث يضع نفسه، فاخْتَر لنفسك اليوم ما يسرُّك غدًا عاقبتُه.
اللهمَّ أصلِح شباب المسلمين، ونوِّر قلوبهم، واهدِهم إلى معالي الأمور، وقِهم شرَّ الشيطان وشِركه يا أرحم الراحمين.
والحمد لله ربِّ العالمين.