الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | مرشد الحيالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن شأنَ المسلم أن يَقْنَع بما رزقه الله، وألَّا تمتدَّ يدُه إلى ما لا يحلُّ له من أجل إشباعِ غريزته، أو زيادة رصيده وأمواله، وقد توعَّدَتِ الشريعة بأن كلَّ جسدٍ نبَت من السُّحت فالنار أولى به، بل كان رسولُنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يُؤدِّب ويُؤنِّب من تعامل بالرشوة، ويُحذِّر من صنيعه وعمله ويحاسب؛ لأجل أن يَحْذَرَ الناسُ عواقبَ ..
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعَثَه الله رحمةً للعالمين، هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصَحَ الأمة، فجزاه الله خير ما جزى نبيًّا من أنبيائه، وصلوات ربي وتسليماته عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى مَن أحبَّهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إن النَّزاهة والعفَّة خُلقٌ رفيع من أخلاق الإسلام، وأدبٌ من آداب أهل الإيمان، يجمعُ خصالَ الخير كلَّها، ويحمل مَن اتصف به على التخلُّق بمكارم المروءة ومعالي الأمور، وتجنُّب المسلم ما لا يليق به، والابتعاد عن إساءة الظنِّ والشكوك حوله.
جاء القرآن الكريم بالحثِّ على طلب الرزق الحلال، وتجنب المكاسبِ الخبيثة، والنزاهة عن الأموال المشبوهة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:172-173]، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:168-169].
أيُّها الناسُ: إن النَّزاهة والعفة تشمل معانيَ عديدةً في الإسلام، ومفاهيم جميلة بين الأنام، ومن تلك المعاني: تجنُّب الشبهات، والحذر من الصغائر من السيئات؛ لأنَّ الاستهانة بها تؤدي إلى كبائر المحرمات؛ ولذا جاء في الحديث أن مَن اتَّقى الشبهات فقد استبرَأ لدينه وعِرضه؛ فعن النُّعمان بن بشير، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمُهن كثيرٌ من الناس، فمن اتَّقى الشبهات استبرَأَ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يَرْتَعَ فيه، ألا وإن لكل ملك حِمًى، ألا وإن حِمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مُضْغة إذا صلَحتْ صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسَدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ"؛ رواه الشيخان.
وكلما كان القلبُ ممتلئًا بمعاني الإيمان، محقِّقًا لمعاني الإحسان أثَّر ذلك -ولا بدَّ- على تعاملِه وأخلاقه، وعَلاقته بالناس أجمعين؛ حتى يكون عنده إحساس مما لا بأس به، حَذرًا مما به بأس، كما جاء تفسيرُه عن سيد المرسلين وقدوةِ العبَّاد أجمعين، سيدنا ورسولنا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، ففي الحديث مرفوعًا: "لا يبلغُ العبدُ أن يكون من المتَّقين حتى يدعَ ما لا بأس به؛ حذرًا مما به البأس".
إن رسولَنا الكريم -من خلال سيرته العطرة، وحياته النيِّرة- حقَّق أعلى درجات العفَّة والنزاهة والورع، كيف لا وقد زكَّاه المولى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]؛ ليبيِّنَ للعالمين ولمن يطعنُ في رسالته من الحاقدين أو المستشرقين أنه يوافِقُ فعلُه قولَه، وما يُوجِّهُه للأمة من نصائح وأقوال هو أول العاملين المطبِّقين لها؛ مما يدلُّ -ولا شكَّ- على أنه مُرسَلٌ من عند الله، مؤيَّد منه -سبحانه-، وأنه ما يَنطِقُ عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؛ روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بتمرةٍ بالطريق فقال: "لولا أن تكونَ من الصدقة لأَكَلْتُها"؛ رواه مسلم.
إن صورَ النزاهة والعفة في ديننا عديدةٌ، بل تشمل -كما سبق- معانيَ الدينِ أجمع، وتحوي نوافذ عدة من حياتنا أوسع، ومنها:
• النزاهة عن النظر إلى العورات، والاطِّلاع على العثرات، ومسكُ اللِّسان عن الزَّلَّات، والتسمُّع إلى الكلمات، ونهي الهوى عن اتِّباع الشهوات؛ ولذلك أدَّب الله المؤمنين بذلك، فقال -جل شأنه-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور:30]، ومَن لم يتيسَّر له الزواج ونكاح العفيفات، فقد أرشده القرآن الكريم إلى سلوك طريقِ العفَّة بالصبر؛ قال -تعالى-: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:33].
ولأجل ذلك عدَّ السلف من الورع والنزاهة: تركَ فضولِ النظر، كما يؤكدون على ترك فضول الكلام؛ لقوة إيمانهم، وصلتِهم الوثيقة بالله، ومعرفتهم به، وحبِّهم لدينهم فقد جاء أنهم "كانوا يتركون فضولَ النظر كما يتركون فضولَ الكلام".
وقد حثَّنا الإسلام على الزواج المبكر؛ تجنُّبًا للوقوع فيما حرَّم الله من النظر ومقدماته، والزنى وأبوابه، فقال رسولُنا الكريم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- فيما رواه عنه عبدالله بن مسعود قال: كنَّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشرَ الشباب، مَن استطاع الباءةَ، فليتزوَّجْ؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومَن لم يَستَطِعْ فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء".
أيها الكرام: ومن صور النزاهة الناصعة: النزاهةُ عن السؤال، ومدِّ الأيدي للناس، وعدم التذلُّل إلا لله، ومَدَح الله المؤمنين بالرغم من حاجتهم، وشدةِ فاقتِهم وجوعهم؛ لتنزُّهِهم عن سؤال الناس والاستشراف، فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة:273]، والأصل في السؤال -كما قال علماؤنا الأجلَّاء وفقهاؤنا الأتقياء- أنه محرَّم إلا لحاجة، أو ضرورة، أو جائحة تجتاحُ المال والبيت، والسببُ في ذلك والعلَّة فيما هنالك أنه فيه إيذاءٌ للمخلوقين، وتذلُّلٌ لغير الله رب العالمين، ومن هنا جاءت السنةُ المطهَّرة بالنهي عن السؤال، والكفِّ عن التذلل بالحال والمقال، فقال: "لأَنْ يأخُذَ أحدُكم حبلَه، فيحتطبَ على ظهره خيرٌ له من أن يأتيَ رجُلاً فيسأله؛ أعطاه، أو منعه"، وعن حكيم بن حزام قال: سألتُ رسول الله فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم، هذا المالُ خَضِرة حلوة، فمن أخذه بسخاوةِ نفسٍ، بورك له فيه، ومن أخذَه بإشراف نفسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يَشبَعُ، واليدُ العُليا خيرٌ من اليد السفلى"، فقلت: يا رسول الله، والذي بعثَك بالحقِّ لا أرزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا هريرة، كُنْ وَرِعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قنعًا تَكُنْ أشكرَ الناس، وأحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسِنْ جوارَ مَن جاورك تكن مسلمًا، وأقِلَّ الضَّحِكَ؛ فإن كثرةَ الضَّحِك تميتُ القلب".
ومن صور النَّزاهة، وأبواب العفة والكرامة: التعفُّف عن المال العام، والممتلكاتِ العائدة للدولةِ والمجتمع، والتعاملِ بالرِّشوة في إحقاق الباطل أو إبطال الحقِّ؛ بأخذ ما لا يحلُّ، وقد عدَّها القرآن الكريمُ من السُّحْت المحرم؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].
وقد ذمَّ القرآن الكريم اليهودَ بأنهم يأكلون السُّحْت؛ ليتوصَّلوا إلى إبطال الحقِّ الواضح المبين، فقال: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة:42].
إن شأنَ المسلم أن يَقْنَع بما رزقه الله، وألَّا تمتدَّ يدُه إلى ما لا يحلُّ له من أجل إشباعِ غريزته، أو زيادة رصيده وأمواله، وقد توعَّدَتِ الشريعة بأن كلَّ جسدٍ نبَت من السُّحت فالنار أولى به، بل كان رسولُنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يُؤدِّب ويُؤنِّب من تعامل بالرشوة، ويُحذِّر من صنيعه وعمله ويحاسب؛ لأجل أن يَحْذَرَ الناسُ عواقبَ الرشوة الخطيرة، وآثارها السيئة في المجتمع، فعن أبي حُميدٍ الساعديِّ قال: استعمل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا من بني أسد - يُقال له: ابنُ اللُّتْبِيَّة، قال عمرو وابن أبي عمر: على الصدقِة - فلما قَدِم، قال: هذا لكم، وهذا لي، أُهدِي لي، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: "ما بالُ العاملِ نبعثُه فيأتي، فيقول: هذا لك وهذا لي! فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمِّه، فينظرَ أيُهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يومَ القيامة يَحمِلُه على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاءٌ، أو بقرةً لها خُوارٌ، أو شاةً تَيْعَرُ"، ثم رفع يديه؛ حتى رأينا عفرتَيْ إبْطَيه: "ألا هل بلَّغْتُ؟!" ثلاثًا.
أيها الناس: لقد بشَّر رسولنا الكريم مَن تعفَّف، وتخلَّق بخُلق النزاهة، واتَّصف بنقاوة القلب والطهارة - بأن يجعل الله غِناه في قلبه، وأن يرزقَه انشراحًا وسعادة، ويقينًا وحلاوة، تُعوِّضُه عما فاته من متاع الدنيا، وأن مَن ترك لله شيئًا عوَّضه الله خيرًا مما فاته أضعافًا مضاعفة، وأن يُبارِكَ الله في ماله وأهله ورزقه؛ فعن أبي سعيد الخدري: أن ناسًا من الأنصار سألوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نَفِدَ ما عندَه، فقال لهم -حين أنفق كلَّ شيء بيده-: "ما يَكُنْ من خير فلن أدَّخِرَه عنكم، ومَن يَستعْفِفْ يُعفَّه الله، ومن يستغنِ يُغْنِه الله، ومن يتصبَّر يُصبِّرْه الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر"؛ متفق عليه.
فاتقوا اللهَ عباد الله، وتمسَّكوا بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واهتدوا بهديه، وخذوا من مِشكاته؛ تسعدوا في الدنيا وبعد الممات، ويثبْكم الله الدرجات العالية في الجنات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
بعد الثناء على الله، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
أيها المسلمون: إن أفضلَ ما يُعينُ المسلمَ الصادق على التخلُّق بخلق النزاهة، والتحلي بصفة الورع والسماحة - تقوى الله في السرِّ والعلن، والظاهر والباطن، وقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمتَه بالتقوى في جميع الأحوال، وخاصة في السفر والترحال؛ لأن كثيرًا من الناس يتفلَّتون في أسفارهم، ويفعلون من الأمور ما لا يعملونها في حال الإقامة، وأن مَن اصطحب التقوى أورَثَتْه التحسُّس مما لا يليق، ولا يستحسن فعله، وفي الأثر: "كنا ندع سبعين بابًا من الحلال مخافةَ أن نقع في باب واحد من الحرام"! بل يَصِلُ الحال بالمتقي ما رواه التابعيُّ الجليل، والعالم الكبير الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "ما زالتِ التقوى بالمتقين؛ حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافةَ الحرام"؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
ومما يعينُ على النزاهة: الاتِّصاف بالقناعة، والرضا بالقليل، والعمل لهَوْل يوم القيامة، وألا ينظرَ الإنسانُ إلى من هو فوقه في وظيفةٍ أو مال أو عقار، بل ينظرُ إلى من هو دونَه، فيقطعُ الطمعَ مما في أيدي الناس، ويَحْمدُ الله أنه فضَّله على كثير ممن خلق تفضيلًا، ورزقه من فضله كثيرًا.
ومن وصايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأمَّة في هذا الصَّدَد: "انظُرُوا إلى من هو أسفلُ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم؛ فإنه أجدرُ ألَّا تزدَروا نعمةَ الله عليكم"؛ رواه مسلم.
أيها الإخوة الكرام: إن المجتمعَ حينما يسودُ بينَ أفراده خلقُ النَّزاهة والعفة، يسودُ الأمن والأمان، وتَنتشِرُ بينهم الثقة، ويتنازَلُ البعض منهم للبعض الآخرِ في الماديَّات والمعنويَّات والأخلاقيَّات، ويسامحُ بعضُهم بعضًا في جميع الحالات، وبالضدِّ ينتشر الطَّمع، والرِّشوة والحسد والجَشَع والقطيعة؛ فإن تغيَّبَت تلك المعاني الكريمة تنتشر الجرائم الفظيعة، وسوء الظَّنِّ، والأخذ به، والحكم به، ويتحوَّل المجتمع - تدريجيًّا - إلى شريعة الغاب، يأكلُ فيه القوي الضعيف، ويُسلَّط فيه السمين - أصحاب الثروة - على النحيف، وتَكْثُرُ التُّهم والنبز بالألقاب، وتكون الكلمةُ والدولة لسفهاء القوم وأهل السِّباب!
يُحدِّثنا رسول الله عن المجتمع الذي انطبَع على الخير والنفع، وتعوَّد عليه، وترفَّعَ عن الجشع والطمع، أن رجلًا تحاكم إلى القاضي ليحكمَ لا لشخصِه، بل لأخيه، وفي الجهة الثانية يأتي المُدَّعى عليه لا ليَدفَعَ عن نفسه تهمةً، بل ليرجع حقَّه الخالص عن طيب خاطرٍ، ونفس أبيَّة، طيبةٍ سخية!
الله أكبر! أين ندرك تلك الأخلاق الكريمة؟! ومتى نتعاملُ بتلك الفضائل العظيمة، فتتأثَّر المجتمعات بأعمالنا قبل أقوالنا، وبفِعالِنا قبل مقالنا، وبسلوكنا قبل كلامِنا؟!
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "اشترى رجلٌ من رجل عقارًا له فوجد الرجلُ الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خُذْ ذهبَك مني، إنما اشتريتُ منك الأرضَ، ولم أَبْتَعْ منك الذهبَ، فقال الذي شرى الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها، قال: فتحاكما إلى رجلٍ، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ فقال أحدُهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلامَ الجاريةَ، وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدَّقا".
هذا، وصلُّوا على الحبيب المختار، كما أمركم بذلك العزيز الغفار.