العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
بعض الآباء يعتبرون أن المعاملة الصارمة مع أطفالهم عن طريق إرغامهم على تنفيذ ما يطلب منهم دون نقاش، أو إلزام الطفل بالقيام بمهام وواجبات تفُوق قدراته وإمكانياته، هي أولى طرق التربية السليمة، وقد يرافق ذلك استخدام أساليب التهديد والحرمان، أو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي جنبنا سبل الغواية وهدانا للإسلام، فضلا منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اصطفاه واجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين والمؤمنات: إن أمانة الأولاد عظيمةٌ وحقهم شديد وعسير، وعلى الأبوين تقع تلك الأمانة العظمى، قال ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6].
وقد حُمّل الأبوان المسؤوليةَ الكبرى من تنشئة أولادهم وتربيتهم، فإن كانت التربية صالحةً كان الصلاح في الأولاد بإذن الله -سبحانه-، وإن كانت التربية فاسدةً كان الفساد في الأولاد إلا ما شاء الله، قال ربنا: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) [الأعراف: 58].
ونحن -معاشر الآباء والأمهات- نعيش في رحاب سلسلة تربية الأولاد، لابد من الوقوف على بعض الأساليب الخاطئة التي ينتهجها الوالدان كلاهما أو أحدهما في التربية، والتي تترك آثارها السلبية على شخصية الأولاد.
فمن الأساليب الخاطئة في التربية: التسلط أو السيطرة: بعض الآباء يعتبرون أن المعاملة الصارمة مع أطفالهم عن طريق إرغامهم على تنفيذ ما يطلب منهم دون نقاش، أو إلزام الطفل بالقيام بمهام وواجبات تفُوق قدراته وإمكانياته، هي أولى طرق التربية السليمة، وقد يرافق ذلك استخدام أساليب التهديد والحرمان، أو استخدام العقاب البدني كأساس في عملية التربية.
وهذا الأسلوب يترتب عليه تنشئة طفل غيرِ قادر على اتخاذ قراراته أو التعبير عن آرائه الشخصية ولو كانت مشروعة، أو يترتب عليه خَلْقُ شخصية عدوانية متمردة، تنزع إلى الخروج على قواعد السلوك المتعارف عليها، كوسيلة للتنفيس والتعويض عما تعرضت له من أنواع الغلظة والقسوة.
فالواجب علينا كآباء أن نعامل أولادنا بالرحمة واللين والرأفة، وهذا هو هديُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في معاملة الصغار، ففي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من لا يرحم لا يُرحم".
ولا يعني هذا ألا يكون هناك عقاب على الإطلاق، بل ينبغي أن يكون أحيانا على ألا يتعدى هذا العقاب حدود الرحمة والرفق، مع استعمال الحكمة في ذلك.
الحماية المُفْرطة أو الزائدة، أو التدليل الزائد: وهذا الأسلوب في التعامل لا يقل خطورة عن القسوة والصرامة.
فالعديد من الآباء يقعون في خطأ التدليل والحماية الزائدة بدافع حبهم لأولادهم، حيث إن المبالغة في التدليل والعاطفة الزائدة تصبح أحيانا سببا في تدمير الأولاد، مما يؤدى إلى تربية طفل متواكل لا يستطيع أن يعتمد على نفسه عندما يكبر، أو يجعله غيرَ قادر على تكوين علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين، أو تحملِ المسؤولية ومواجهة الحياة بمفرده، لتعوده على أن أبويه يقومان بفعل كل شيء نيابة عنه واتخاذ قراراته بدلا منه.
فالطفل المُدلل تعلمه هذه الاتكالية، عدمُ السعي إلى تطوير ذاته وتحسين المهارات التي تفيده في أي عمل قد يقوم به في المستقبل.
كما تطغى عليه الأنانية وحب السيطرةِ على غيره، والعنفِ في تصرفاته معهم لإحساسه بالتميز عنهم.
ولست أقصد هنا أن ينزع الأبوان العطفَ والرحمة من قلبيهما، فهذا لا يمكن أن يحدث؛ لأن قلبيهما مفطوران على محبة أولادهما، ومتأصلان بالعواطف الأبوية الفطرية لحمايتهم، والرحمة بهم والشفقة عليهم والاهتمام بأمرهم، بل الرحمة مطلوبة، ولكن بتوازن وحذر، ولا إفراط ولا تفريط، وخير الأمور أوسطها.
الإهمال واللامبالاة: ويتمثل ذلك في ترك الطفل دون تشجيع على سلوك مرغوب فيه أو تركه دون محاسبته على قيامه بسلوك غير مرغوب، وقد ينتهج الوالدان أو أحدُهما هذا الأسلوب، بسبب الانشغال الدائم والإهمال المستمر للأولاد واللامبالاة، فالأبوان مشغولان طوال الوقت، والعمل لديهما له الأولوية قبل الرعاية.
فالطفل يلاحظ وقد يترسخ ذلك في ذهنه على أنه إهمال ولامبالاة، فينعكس بآثاره السلبية على نموه النفسي.
وعندما يكبر هذا الطفل يكون ناقما جدا على أبويه والمجتمع، كما أنه يكون منعدم الثقة في نفسه، ويشعر بأنه لا قيمة له، فتكون وجهته التي لا رجعة فيها هي الشارع، بل يجد في الشارع ما يفتقده داخل البيت، فيجد مكانته وسط المنحرفين، ويجد بينهم العطاء والحب الذي حُرم منه، ويجد ما يشبع حاجاته التي فقدها هناك في المنزل.
التفرقةُ بين الأولاد وعدمُ العدل بينهم: بعض الآباء يتعاملون أحيانا مع الأولاد بدون عدل، فيُفضلون طفلا على طفل، إما لذكائه أو جماله أو حسن خلقه الفطري، أو لأنه ذكر، أو لأنه أنثى، مما يزرع في نفس الطفل، الإحساس بالغيرة تجاه إخوته.
فينتج عن ذلك شخصيةٌ أنانية يتعود الطفل من خلالها أن يأخذ دون أن يُعطي، ويحب أن يستحوذ على كل شيء لنفسه حتى ولو على حساب الآخرين، ويُصبح لا يرى إلا ذاتَه فقط والآخرين لا يهمونه.
وهذا بلا شك يؤثر على نفسيات إخوته وعلى شخصياتهم، فيشعرون بالحقد والحسد تجاه هذا المُفضل.
وهذا من مسببات العقوق والكراهية بين الإخوة، فكم من المآسي والأحزان التي تعج بها بعضُ البيوت نتيجةً للظلم والتمييز، والتفريقِ بينالأولاد وعدمِ العدل بينهم.
وهذا الأمر حذرنا منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث روى مسلم أن النعمان بنَ بشير قال: "تصدَّق عليَّ أبي ببعضِ مالِه، فقالت أمي عَمرةُ بنتُ رواحةَ: لا أرضى حتى تُشهدَ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فانطلق أبي إلى النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ليُشهده على صدقتي، فقال له رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "أفعلْتَ بولدِك هذا كلِّهم؟" قال: لا، قال: "اتَّقوا اللهَ واعدِلوا في أولادِكم" فرجع أبي فردَّ تلك الصدقةَ.
وفي رواية قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اعدِلوا بيْنَ أولادِكم في النُّحْلِ كما تُحِبُّون أنْ يعدِلوا بينَكم في البِرِّ واللُّطْفِ".
التناقض والازدواجية في توجيه الأبناء: لا ينبغي أن يكون هناك تناقض وازدواجية في التربية أو التوجيهات التي تُوَجَّه إلى الولد من الأم والأب، لا بد أن يكون هناك نوع من التوافق، فإذا قال الأب أمراً فيجب أن توافقه الأم في الحق، وإذا قالت الأم أمراً فيجب أن يوافقها الأب في الحق.
وأما إذا قالت الأم أمرا ثم عاكسها الأب، أو قال الأب أمرا ثم خالفته الأم، ففي هذه الحالة يحدث للطفل حالة من الحيرة بين ما يقوله الأب وما تقوله الأم، أبوه يأمره بكذا، وأمه تأمره بكذا، فلا يعرف الولد من فيهما على صواب الأم أم الأب، مما يحصل للولد نوع من الخلل في التفكير، وبالتالي يصبح غير قادر على التمييز بين الخطأ والصواب.
وهذا يؤدي إلى التأثير على نشأة الطفل، ويحصل له بسببه بلبلة واضطراب في نفسيته، وبالتالي ينشأ مهزوزاً غير واثق مما يُلقى عليه.
فلا بد أن يحصل هناك تكامل وتوافق وعدم اختلاف أو ازدواجية في التوجيهات والتعليمات التي توجه إلى الأولاد.
احتقار الطفل، والتقليل من شأنه، والبحث عن أخطائه، ونقد سلوكه، مما يفقد الطفل ثقته بنفسه، وعندما يكبر هذا الطفل يكون شخصية منطوية غير واثق من نفسه، ويتوقع الأنظار دائمة موجهة إليه، فيخاف كثيرا ولا يحب ذاته ويحطم نفسه ويزدريها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
معاشر الصالحين والصالحات: على ضوء ما تقدم فإن الأمر يوجب إعادة النظرِ في كثير من الوسائلِ التربوية التي ينتهجها بعض الآباء، فإذا كانت الشدة الزائدة، أو القسوة المُفرطة، غيرَ مقبولة تربويا وشرعيا، فإن التدليع الزائد، والتدليل المبالغ فيه، مرفوض تربويا وشرعيا أيضا؛ لأن الآباء هم أول المتضررين من ذلك، ثم المجتمع.
فالخير في التوسط وسلوك السبيل التربوي الصحيح المبنٍي على الترغيب والترهيب، فيتم تشجيع الأولاد والاهتمام بهم وعدم إهمالهم، وترغيبهم ومكافأتهم على إنجاز الأعمال المنوطة بهم، وعلى الأفعال الحسنة والتصرفات الجيدة.
ولكن إذا أساؤوا فينبغي تقويمهم بما يقتضيه المقام وحجم الخطأ، وذلك بالوسائلِ المشروعة الصحيحة المناسبة.
فتربية الأولاد هي تربيةُ ذلك الكائن المُكرّم ليكون عبدا لله، ثم إعدادُه ليَصنعَ المستقبلَ الواعدَ بيده لنفسه ولأمته -إن شاء الله تعالى-.
والله الموفِّق وهو يهدي السبيل.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.