المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
حديث من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم- يعلّمنا كيف نتعامل مع أحكام الإسلام وشرائعه وأنها ليست حسب الأمزجة والهوى وهذا حديثٌ من أصول الدين وفروعه حيث قسّم أحكام الله إلى أربعة أقسام.. فرائض ومحارم وحدود ومسكوت عنه، وذلك يجمع أحكام الدين كلها.. من عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب وأمن العقاب؛ لأن من أدى الفرائض واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين والفرائض ممّا فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به...
الخطبة الأولى:
الحمد لله شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي شرح الله له صدره، ورفع ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعه وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن دين الله ليس هوىً للبشر ولا يتغير حسب الظروف والأحوال والرغبات والشهوات، بل هو دين أحكمه الله وأثبته وأكمله ورضيه لنا منهجاً..
دين إن تمسكتم به لن تضلّوا بعده، فيه كتابُ الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد، وعندكم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تُفسِّر القرآن وتوضّحُه وهي وحيٌ من الله، لنبيِّه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3- 4]، قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الدار قطني والحاكم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياءً فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
حديث من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم- يعلّمنا كيف نتعامل مع أحكام الإسلام وشرائعه وأنها ليست حسب الأمزجة والهوى وهذا حديثٌ من أصول الدين وفروعه حيث قسّم أحكام الله إلى أربعة أقسام.. فرائض ومحارم وحدود ومسكوت عنه، وذلك يجمع أحكام الدين كلها..
قال بعض العلماء: من عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب وأمن العقاب؛ لأن من أدى الفرائض واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين والفرائض ممّا فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به كالصلاة والزكاة والصيام والحج.
وأما المحارم فهي حمى الله الذي منع من قربانه وانتهاكه، مما نهى عنه وحرّمه وتوعّد بالعقوبة من ارتكبه.
وأما الحدود فيُراد بها جميع ما أذن الله في فعله سواء عن طريق الوجوب أو عن طريق الندب أو عن طريق الإباحة. والتعدّي عليها بالاستهزاء بها أو الاستهانة أو بتجاوزِها إلى ارتكاب ما نهى الله عنه (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) [البقرة: 229]، ويُراد بحدود الله أيضاً المحرمات التي حرَّمها، ونهى الله عن قربانها (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) [البقرة: 187].
فالحدود المأذون في فعلها لا تُتَعدَّى، والحدود المنهي عنها لا تُقرَب. والحدود ليست العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم كحدِّ السرقة والقتل فقط بل معها أيضاً ما قرّره الله من واجبات وحرَّمه من محرمات في الكتاب والسنة مَنْ تجاوزها فقد تعدَّى حدود الله ولذلك جاء قول الله: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1] مع آيات الأحكام.
ورسول الله أوصي بالفرائض أن لا تُضيَّع، وأوصى بالحدود أن لا تُتَعدَّى، وأوصى بالمحرمات أن لا تُنتَهك، وأوصى بما سكت عنه أن لا يبحث عنه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101]، فيجب علينا التزامُ وصيةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها، وكثيرٌ من الخلل وسوء الفهم في الدين بسبب إهمال هذه الوصايا النبوية الشريفة.
عباد الله: تجبُ المحافظة على فرائض الله التي فرضها على عباده بأدائها على وجهها، منها الصلوات الخمس وأداء الزكاة وصوم رمضان وبعض الناس -عياذًا بالله- يتهاون بانتهاك ما حرَّم الله، ويتعدَّى حدوده ويستهزئ بالشعائر ما دام أن ذلك يُوافق هواه ويُطابق شهوته أو يأتي بها مزاحاً ليُضحك القوم، وهذا قد اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم واستهزائه خطرٌ عليه ولو كان مزحاً..
وعلى النقيض نرى طرفاً آخرَ يتخذُ الدين تشدداً وعسراً ويُهمل الرفق والتيسير فتجده لا يختار من الرأي إلا ما يُغلّظ على الناس ولا يدع للتيسير مجالاً في كتابه أو مقاله ويُضيّق على الناس في حياتهم ومعاملاتهم رغم أن الله تعالى يقول: (وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 87]، ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن هذا الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه" (متفق عليه).
وما علم هؤلاء كلُّهم أن الخير كله في التزام ما شرع الله وترك ما حرم الله، ففيه الحكمة واليُسر والنجاح فإن الله لم يوجب على عباده شيئاً إلا هو مصلحة لهم في دينهم ودنياهم، فإذا أضاعوا ما فرض الله عليهم فقد أضاعوا مصلحتهم، ولم يُحرّم سبحانه شيئاً على عباده إلا فيه مضرّتهم في الدنيا والآخرة، فإذا وقعوا فيما حرم الله فقد أوقعوا أنفسهم في الضرر (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216] يعلم المصالح والمضار العاجلة والآجلة (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف: 157]، ويسكتُ الله سبحانه وتعالى عن أشياء رفقاً بعباده فلا يُحرِّمها عليهم حتى يعاقبهم على فعلها، ولم يوجبها عليهم حتى يعاقبهم على تركها –بل جعلها عفواً إذا فعلوها فلا حرج عليهم وإن تركوها فلا حرج، سكت عنها لحكمة لا نسياناً منه -سبحانه وتعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) [مريم: 64]، لذلك السؤال عن مثل هذا تنطّع.
والمتنطّع هو من يبحث عما لا يعنيه، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إياكم والتنطع، إياكم والتعمّق، وعليكم بالتعتيق"، يعني ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-.
ويدخل في ذلك البحث في أمور الغيب التي أُمرنا بالإيمان بها ولم تُوضّح كيفيتها، فهذا تعمّقٌ منهيٌ عنه؛ لأنه يفضي إلى الحيرة والشك، ففي الوقوف عند حدود الله وأداء ما أوجبه وترك ما حرمه سعادة الدنيا والآخرة وكذلك العبث في خلاف العلماء والمذاهب لاستغلاله للتهاون في الدين أو في الطعن فيه ومخالفته عياذاً بالله..
سأل رجلٌ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتَ إذا صليتُ المكتوبات، وصمتُ رمضان، وأحللتُ الحلال، وحرمتُ الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً أدخلُ الجنة؟ قال: "نعم" (رواه مسلم).
فمن قام بالواجبات وترك المحرمات دخل الجنة، وقد تواترت الأحاديث بهذا المعنى.. وقال -صلى الله عليه وسلم- –في خطبة حجة الوداع-.. "أيها الناس! اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم". ففعل الواجبات سببٌ لدخول الجنة، وفعل المحرمات من موانع دخولها، فمن فعل الأسباب وتجنب الموانع استحق دخول الجنة، برحمة الله ووعده الصادق..
أيها الأحبة: الإنسان لم يخلق عبثاً ولن يترك سدى، وإنما خُلق لعبادة الله ونُهي عن معصية الله وأُعدت له دار جزاء يصير إليها، إما دار نعيم، أو دار عذاب، فالجنة أعدت للمتقين، والنار أعدت للكافرين، والجزاء من جنس العمل، (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس: 54]، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41]، هذا ديننا وهذه مبادئه.. فمن طبّقه بتعاليمه المُحكمة نجح وتميّز ديناً ودنياً ودولة وحياة وآخرة.. ومن أعرض عنها (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه: 124- 126].
عباد الله.. أحكام الله وحدوده قرّرها الله وهو أعلم بها وأحكم لكل زمان ومكان فهي لا تتغيّر حسب الزمان والظروف.. وَإِنَّ مأساتنا اليوم أن البعض بدعوى حرية الرأي والكلمة وللترفيه وتقليد الغير والاقتصاد والنهضة أصبح يتعدّى حدود الله ويتجاوز ثوابت الدين.. التي أجمع عليها علماء الإسلام ووضحّوها بما لا يدع مجالاً للتشكيك لكن هؤلاء يظنون مخالفتها سبباً للتقدّم وما دروا أنهم يُفرّطون بما تميّزوا به في بلادهم من خيرٍ وقيمٍ ومحافظةٍ ودين..
وقد يجدون من يشجّعهم ويؤيدهم على ذلك ليُحقّقوا مصلحة في نفوسهم أو لأنّهم استمرأوا الوقوع في المحرّمات حتى ألفوها فيريدون تعميمها غفلةً في عقولهم وقلوبهم أو سعياً وراء شهواتهم ورغباتهم التي يدعوننا إليها معهم.
نسأل الله جلَّ وعلا أن يهدينا لكل ما فيه الخير ويجنبنا الشرّ وأن يُرينا الحقَّ حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ويكفي بلادنا وبلاد المسلمين كل من يريد حرْف مسيرتها لمخالفة شرع ربِّ العالمين ويثبتنا على الحق والدين..!!
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
عباد الله: حريةُ التعبير والكلام ليست في التعدّي على ثوابت الدين والقيم بل هي بالإخلاصِ وقصدِ الحق وقدسيةِ الدين وثوابته ورأي علمائِه وتاريخِه وبما تميّز به المجتمع من قيم وأخلاق إلا بنقدٍ هادف بنّاء، وبالتجرّدُ من نوازِعِ الهوى وحُظوظِ النفس مما يجعل أحكام الدين ضحيّةً للخلاف والعبث.
وينبغي الحذَرَ من توظيف الكلمةِ للانتصارِ للنفس والعصبيّة لفئةٍ أو لقبيلةٍ أو صديقٍ أو مذهب أو فكرة، فهذا ليسَ حريةَ رأيٍ وحوارٍ رشيد وإنما بغيٌ وظلم وتعدٍّ على حدود الله وذلك حينما تُجعلُ شرائع الدين وضوابط القيم والمحافظة مجالاً للتصويت وإبداء الرأي والتعدِّي عليها بمسمى التغيير والترفيه ورغبات الناس..
وكأن الدينَ بشرائعه وأحكامه وضوابطه وما حرَّمه الله كلأً مباحاً لكل من أراد مخالفتها وتقليد الغير بها مع إغفالٍ تامٍ لما يَهَمُّ المجتمع ويُصلحه ويُبعد عنه الفتن والإشغال فالحذر الحذر عباد الله.. والله إن هذا الدين والالتزام به خير كله.. والشرُّ والخسران في مخالفته ولا يغرنكم الآخرون إن هلكوا وتجاوزوا وتمسّكوا بشرع ربِّكم لتفلحوا.
نسأل الله أن يحمي بلادنا وقادتنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء وفِتنةٍ تُراد بها وأن إخواننا المستضعفين وجنودنا المرابطين ويكفينا شرّ الطغاة والملحدين إنه سميع مجيب..