المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
لهذه المادةِ اللُّغوية معنيانِ أصليان ذكرهما ابن فارس رحمه الله؛ قال: «الحاء والياء والحرف المعتَلُّ: أصلانِ: أحدهما: خلافُ الموت، والآخر: الاستحياءُ الذي هو ضدُّ الوقاحة». انظر: "المقاييس" (2 /122).
والمقصود هنا هو الأصلُ الأول: الحياة التي هي ضد الموت، والحَيَوان بمعناها - وضدُّه المَوَتان - كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت: 64]، و(الحَيُّ): خلاف الميِّت.
(الحَيُّ) اسمٌ من أسماء الله تعالى، معناه: أن اللهَ سبحانه لم يَزَلْ موجودًا، وبالحياة موصوفًا، لم تحدُثْ له الحياةُ بعد موت، ولا يعترِضُه الموتُ بعد الحياة، وكلُّ حيٍّ يَعْتَوِرُه الموتُ أو العدم في أحد طرَفَيِ الحياة، أو فيهما معًا؛ كما قال سبحانه: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُۥۚ﴾ [القصص: 88]، فهو يفيدُ دوامَ الوجود، واللهُ تعالى لم يَزَلْ موجودًا، ولا يزال موجودًا. انظر: "شأن الدعاء" للخطابي (ص80)، "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج (ص56).
ما دلت عليه اللغةُ يدل على ما في الاصطلاح من معنى الحياة، ولكنَّ الحياةَ التي أثبتها اللهُ لنفسه دائمةٌ، لا فَناءَ لها ولا انقطاعَ، منفيٌّ عنها ما هو حالٌّ بكلِّ ذي حياةٍ من خَلْقِه. انظر: "تفسير الطبري" (5 /176).
يدل اسمُ الله (الحَيُّ) على إثباتِ صفة (الحياة) لله تعالى.
- ورَد اسمُ الله (الحَيُّ) في كتاب الله في خمسةِ مواضعَ، جاء في ثلاثة منها مقترنًا باسم الله (القَيُّوم)؛ وهي:
* قوله تعالى: ﴿اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ﴾ [البقرة: 255].
* وقوله تعالى: ﴿الٓمٓ 1 اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 1-2].
* وقوله تعالى: ﴿وَعَنَتِ اْلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اْلْقَيُّومِۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمٗا﴾ [طه: 111].
وفي هذه المواضعِ الثلاثة، جاء اسمُ الله (الحَيُّ) مقترنًا باسم (القَيُّوم)، وهذان الاسمانِ يقترنان فيكونان مَرجِعَ معاني أسماء الله الحسنى جميعًا؛ فإذا كانت حياةُ الله أكمَلَ حياةٍ وأتَمَّها، استلزم إثباتُها إثباتَ كلِّ كمال يضادُّ نفيَ كمالِ الحياة، وأما (القَيُّوم) فمتضمِّنٌ كمالَ غِناه، وكمال قُدْرتِه وعِزَّته؛ لأنه قائمٌ بنفسه، لا يَحتاج إلى مَن يُقِيمه؛ بل هو المُقِيم لغيره، فانتظَم الاسمانِ صفاتِ الكمال، والغِنى التامِّ، والقدرة التامة، فكأنَّ المستغيثَ بهما مستغيثٌ بكلِّ اسم من أسماء الربِّ تعالى، وبكلِّ صفةٍ من صفاته، فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمينِ أن تكونَ في مظنةِ تفريج الكُرُبات، وإغاثة اللَّهَفات، وإنالة الطلبات. انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2 /679).
- وفي الموضعَينِ الآخَرَينِ جاء مفردًا؛ وهما:
* قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اْلْحَيِّ اْلَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِۦۚ﴾ [الفرقان: 58].
* وقوله تعالى: ﴿هُوَ اْلْحَيُّ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاْدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اْلدِّينَۗ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ﴾ [غافر: 65].
ورَد اسمُ الله تعالى (الحَيُّ) في السُّنة - مفردًا ومقترنًا باسم الله (القَيُّوم) - كما هو الحالُ في القرآن الكريم؛ من ذلك:
* عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يقولُ: «اللهمَّ لك أسلَمْتُ، وبك آمَنْتُ، وعليك توكَّلْتُ، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصَمْتُ.
اللهمَّ إنِّي أعُوذُ بعِزَّتِك لا إلهَ إلا أنت أن تُضِلَّني، أنت الحَيُّ الذي لا يموتُ، والجِنُّ والإنسُ يموتون». أخرجه مسلم (2717).
* عن زيدٍ مولى النبيِّ ﷺ، قال: سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يقولُ: «مَن قال: أستغفِرُ اللهَ الذي لا إلهَ إلا هو الحَيَّ القَيُّومَ وأتُوبُ إليه، غُفِرَ له وإن كان فَرَّ مِن الزَّحْفِ». أخرجه أبو داود (1517)، والترمذي (3577).
* عن أسماءَ بنتِ يَزيدَ رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «اسمُ اللهِ الأعظَمُ في هاتينِ الآيتَينِ: ﴿وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلرَّحْمَٰنُ اْلرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163]،
وفاتحةِ آلِ عِمْرانَ ﴿الٓمٓ 1 اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 1-2]». أخرجه الترمذي (3478).
* عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ لفاطمةَ رضي الله عنها: «ما يَمنَعُكِ أن تَسمَعي ما أُوصِيكِ به: أن تقولي إذا أصبَحْتِ وإذا أمسَيْتِ: يا حَيُّ يا قَيُّومُ، برحمتِك أستغيثُ، أصلِحْ لي شأني كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عينٍ». أخرجه النسائي في "الكبرى" (10514)، والبزار (6368)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (48).
* عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يدعو: يا حَيُّ يا قَيُّومُ». أخرجه النسائي في "الكبرى" (7833).
الدليل الأول: يثبُتُ اسمُ الله (الحَيُّ) باللُّزوم؛ إذ يَلزم من كونِ الله عالمًا وقادرًا: الحياةُ؛ لأنَّ مِن شروط العلمِ والقدرة الحياةَ؛ جاء في "العقيدة الأصبهانية": «والدليلُ على أنه حَيٌّ: عِلْمُه وقُدْرتُه؛ لاستحالةِ قيام العلم والقدرة بغير الحَيِّ»، قال ابنُ تيميَّة في "الشرح": «فهذا دليلٌ مشهور للنُّظَّار؛ يقولون: قد عُلِم أنَّ مِن شرط العلمِ والقدرة: الحياةَ؛ فإنَّ ما ليس بحَيٍّ يمتنِعُ أن يكون عالمًا؛ إذ الميِّتُ لا يكون عالمًا، والعلمُ بهذا ضروري. وقد يقولون: هذه الشروطُ العقلية لا تختلِفُ شاهدًا ولا غائبًا؛ فتقديرُ عالِمٍ لا حياةَ به ممتنِعٌ بصريحِ العقل». "شرح الأصبهانية" لابن تيمية (ص450-451).
الدليل الثاني: دليلُ السَّلب والإيجاب؛ وهو امتناعُ اجتماعِ النَّقيضين وارتفاعِهما؛ ووجهُ ذلك أن يقال: إن اللهَ تعالى لو لم يكن متصِفًا بصفةِ (الحياة) لكان متصِفًا بضدِّها، وضدُّها هو (الموتُ)؛ وهذا مستحيلٌ على الله سبحانه وتعالى؛ فيَلزم بالضرورة أن يكون متصِفًا بصفة (الحياة).
الدليل الثالث: دليلُ واهبِ الكمال؛ وهو أن يقال: إن اللهَ سبحانه هو الذي وهَب المخلوقاتِ صفةَ (الحياة)، وصفة (الحياة) في المخلوقات كمالٌ، وواهبُ الكمال أولى به؛ فيَلزم بالضرورة أن يكون اللهُ تعالى متصفًا بصفة (الحياة).
الدليل الرابع: دليلُ الكمال؛ وهو أن العقلاءَ متفقون على أن مَن يتصف بصفة (الحياة) أكمَلُ ممَّن لا يتصف بها؛ فجنسُ الأحياء عند العقلاء أكمَلُ من جنس الجمادات التي لا تتصف بـ(الحياة)، وبِناءً عليه فاللهُ عز وجل لا بد أن يكونَ متصفًا بصفة (الحياة).
* الإيمانُ باسم الله (الحَيِّ) يوجِبُ الإيمانَ بصفات الله الأخرى؛ لأن حياةَ الله كاملةٌ؛ فيَلزم منه كونُ بقيةِ الصفات كاملةً أيضًا؛ يقول ابن القيم: «وكذلك إذا اعتبرتَ اسمه (الحَيَّ)، وجَدتَّه مقتضِيًا لصفات كماله؛ من علمِه، وسمعِه، وبصرِه، وقُدْرتِه، وإرادتِه، ورحمتِه، وفعلِه ما يشاء». "التبيان في أيمان القرآن" (1 /249).
* مَن عَلِم أن اللهَ سبحانه وتعالى (حَيٌّ)، وأن حياتَه كاملةٌ مطلقة، وأنه لا تأخذُه سِنةٌ ولا نوم ولا غفلة: حصَل له الطُّمأنينةُ بذلك، وتوكَّل على الله بصِدق، وكان اللهُ عز وجل ذُخْرَه وملجأَه ومَفزَعَه في كلِّ حينٍ، ولم يَتعلَّقْ بمَن سِواه من الأشخاص والأسباب؛ كما أمَر اللهُ عز وجل عندما قال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اْلْحَيِّ اْلَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِۦۚ﴾ [الفرقان: 58].
* الزهدُ في الحياة الدنيا؛ لأن العبدَ عندما يؤمن بأن الحياةَ الكاملة المطلقة ليست إلا للهِ تعالى، وأنه مهما أعطيَ من عُمُرٍ فلا بد من الموت: تصغُرُ الدنيا في عينِه وقلبه، ولا يغترُّ بما فيها من نعيمٍ؛ وهذا يَحمِله على الاستعدادِ للآخرة، والسعيِ لنيل الجنة بالأعمال الصالحة، وفيها تكونُ حياتُه أبديَّةً، دائمة بإدامةِ الله الحَيِّ القَيُّوم لها؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّ اْلدَّارَ اْلْأٓخِرَةَ لَهِيَ اْلْحَيَوَانُۚ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64].
الكونُ من حولِنا، وحياةُ الخَلْقِ: مظهرٌ من مظاهرِ اسم الله (الحَيِّ)؛ فلولا حياةُ الله ما كان الكونُ ولا الحياة، ولولا بقاءُ حياةِ الله ودوامُها وكمالها المطلَق لَمَا استمَرَّا؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اْللَّهَ يُمْسِكُ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٖ مِّنۢ بَعْدِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا﴾ [فاطر: 41]، وكما اشتهَر في قول الأعرابيِّ الذي سُئِل: «كيف عرَفْتَ ربَّك؟»، فقال بفطرتِه السليمة: «البَعْرةُ تدلُّ على البعير، والأثرُ يدل على المَسِير؛ فسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فِجاج، وجبالٌ وبحار وأنهار؛ أفلا تدل على السميعِ البصير؟!». انظر: "ترجيح أساليب القرآن" لابن الوزير (ص83).
«وحياتُه سبحانه أكمَلُ حياةٍ وأتَمُّها، وهي حياةٌ تستلزم جميعَ صفاتِ الكمال، وتَنفِي أضدادَها من جميع الوجوه.
ومِن لوازمِ الحياة: العقلُ الاختياري؛ فإنَّ كلَّ حَيٍّ فعَّالٌ، وصدورُ العقلِ عن الحَيِّ بحسَبِ كمال حياته ونقصِها، وكلُّ مَن كانت حياتُه أكمَلَ من غيره، كان فعلُه أقوى وأكمَلَ، وكذلك قُدْرتُه؛ ولذلك كان الربُّ سبحانه على كلِّ شيء قديرًا، وهو فعَّالٌ لِما يريد».
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "شفاء العليل" (1 /187).
«و(الحَيُّ): الذي لا يموتُ ولا يَبِيد كما يموتُ كلُّ مَن اتخَذ مِن دُونِه ربًّا، ويَبِيد كلُّ مَن ادَّعى مِن دُونِه إلهًا، واحتَج على خَلْقِه بأنَّ: مَن كان يَبِيدُ فيَزُول، ويموتُ فيَفنَى؛ فلا يكون إلهًا يستوجِبُ أن يُعبَدَ دُونَ الإلهِ الذي لا يَبِيدُ ولا يموت، ولأنَّ الإلهَ هو الدائمُ الذي لا يموتُ، ولا يَبِيد، ولا يَفنَى؛ وذلك اللهُ الذي لا إلهَ إلا هو».
ابن جَرير الطَّبَري "جامع البيان" (5 /176).
«(الحَيُّ) يفيدُ دوامَ الوجود، واللهُ تعالى لم يَزَلْ موجودًا، ولا يَزال موجودًا».
الزَّجَّاج "تفسير أسماء الله الحسنى" (ص56).
«(الحَيُّ) الكاملُ المطلق هو الذي يندرج جميعُ المُدرَكات تحت إدراكه، وجميعُ الموجودات تحت فعلِه؛ حتى لا يَشِذَّ عن علمِه مُدرَكٌ، ولا عن فعلِه مفعولٌ؛ وذلك اللهُ عز وجل؛ فهو (الحَيُّ) المطلق، وكلُّ حَيٍّ سِواه فحياتُه بقدرِ إدراكه وفعلِه، وكلُّ ذلك محصورٌ في قِلَّة، ثم إن الأحياءَ يَتفاوتون فيه؛ فمراتبُهم بقدرِ تفاوتهم».
الغَزالي "المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى" (ص109).
معنى (الحَيِّ): الموصوفُ بالحياةِ الكاملة الأبدية، التي لا يَلحَقُها موتٌ ولا فَناء؛ لأنها ذاتيةٌ له سبحانه، وكما أن قَيُّوميَّتَه مستلزِمةٌ لسائرِ صفات الكمال الفعلية، فكذلك حياتُه مستلزِمةٌ لسائرِ صفات الكمال الذاتية؛ من العلمِ، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والعِزَّة، والكِبْرياء، والعظَمة، ونحوها.
فـ(الحَيُّ) و(القَيُّوم) متضمِّنانِ لصفات الكمال كلِّها، وهما القُطْبانِ لأُفُقِ سمائها؛ فلا تَتخلَّفُ عنهما صفةٌ منها أصلًا؛ ولهذا ورَد أنهما اسمُ اللهِ الأعظَمُ، الذي إذا سُئِل به أعطى، وإذا دُعِيَ به أجاب.
محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" (2 /111-112).