البحث

عبارات مقترحة:

المتكبر

كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

مشاهير في السماء

العربية

المؤلف عاصم محمد الخضيري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المهلكات - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. فضل الأخفياء الأنقياء .
  2. شيء من سيرة أم أيمن .
  3. ضوابط الشهرة بين المدح والذم .
  4. أهمية مدافعة الشهرة .
  5. صاحب النقب والخفي النقي .
  6. كثير من الفضلاء مجهولون .
  7. احرص على ما ينفعك في الآخرة .

اقتباس

مشاهير في السماء.. اصنع وجاهتك الحقيقية في اليوم الحقيقي؛ فإن الذي يجعل حظه في هذه الدنيا المتاع حري بالضياع والارتياع، حاول أن تخيط شموع الشهرة الباقية ليوم يبقى لك حتى إذا قيل أين فلان بن فلان؟ قلت: ها أنا ذاك، فإذا أُعطيت صحيفتك من يمناك وفرحت بها.. في هذه الدنيا لا يغرك كسادٌ أو قلة مال أو عتاد أو شحوب وجاهة زائلة، فوالله لو كان فيها خيرًا لسبقونا إليها، لا...

الخطبة الأولى:

الحمد لله على إحسانه والشكر والعرفان لامتنانه..

الحمـد للـرب الغفـور البر

يجزي بفضلٍ شكـرَنا بالشكر

حمدًا كما قد ينبغي أن يوصفَ

ولست في الإكثار أُدعى مسرفًا

يا رب أنت ربنا سبحانـكَ

اغفـر فـإن طـولنا منك بكى

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة من يرجو شفاعتها يوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبد الله ورسوله.

رسـول الله صلى الله دومًا

عليه مـا تهيأت السحاب

وما همل الندى وبلاً وماجت

بتسليم له الأرض اليباب

فيا اللهـم صـلّ عليه دومًا

وشفِّعنا إذا جاء الحساب

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

معايير الأرض ليست هي دومًا معايير السماء فأنت الذي في الأرض قد لا تكون أنت الذي في السماء تتوافق الأشياء في الأنظار وهي على النقيض بسلطة الديان، ولقد تجيء وأنت ملء الأرض من كبر وأنت هباءة الميزان.

قوانين العظمة لا تعترف فما كتب لك في نظر الناس قد يكون مكتوبًا لك خلافه في صحف العرصات،

 تجد الفتى تشتهيه الأرض والبشر

وما له في السماء لو ذرة قدر

 تطفو وجاهته في الأرض منزلة

وفي القيامة قد هشت له سقر

من عدل الله أن الجزاء ليس مقرونًا بالأسماء، وأن الوجاهة في الدنيا لا تستلزم أن تجر معها وجهات الآخرة، حبشية تمشي وما هشَّت لها أرض ولم تحفل أوطان أتعرفونها؟ أما المورد فحبشية وأما اللون فسوداء وأما تاريخ الولادة فلا يكاد يحفظ لها تاريخ.

مسلعة كالسلع الأخرى تباع وتشترى جرى عليها البؤس من مجراه ما جرى إن أدبرت عُدت من المساكين، وإن أقبلت عُدت في المساكين تمسكن فيها البؤس والضعف والنوى ومقدار هناء وإن قرب النظر.

كانت تلك حالها في ميزان الأرض لا مال فترتفع به ولا جاه

 فتحتمي به ولا نسب فتأوي إليه ولا عشيرة أقربون.

أما حسنتها العظمى فهي أنها لما سمعت بالإسلام شهدت شهادة الحق أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلنة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولقد كفاها فخرها فخرًا بأن قالت أمام عباد اللات "الله أكبر".

حضنت النبي -صلى الله عليه وسلم- صغيرًا وآوته صبيًا كسيرًا ورعته شابًّا طريرًا ثم لما بُعث أسلمت معه.

كثيرون لا يعرفونها رغم أنها شرفت أن كانت بجانب النبي -صلى الله عليه وسلم- خلال مراحل عمره أم كان يضيرها كثيرون يجهلونها حتى خطى التاريخ باخلة بها، وتتأتى الأذهان إن ذكر اسمها، أم كان يضيرها أن جهلها الناس! لا يضير السها بعاد وهذا ضوءها مشرق على الفرقدين.

لم تستشرف -رضي الله عنها- لشيء ولم تتطلع إلا للإسلام، لم ينسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مواقفها، فوفَّى قدرها ووفى في إكرامها.

روي بإسناد حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رآها ناداها: يا أمه، ويقول: هذه بقية أهل بيتي، وهي أمي بعد أمي".

وأمي بإحسان وعطف ورحمة وإن لم تكن قد أخرجتني من البطن

لم تشرأب لغنيمة ولم ترتجي لمطمعة، كانت بحق مجهولة في الأرض ولكنها مشهورة في السماء.

إذا اشتهر اسم قدرك في سماء

فقل للأرض لا تطرين ذكري

حضت أم أيمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما كبرت تزوجت عبيد بن الحارث فولدت له أيمن فهاجر أيمن ثم جاهد ثم استُشهد في حنين، وربت على العليا هماما كأنه إذا سابق الجوزاء قالت له مهلاً.

ثم تزوجت زيد بن حارثة الذي سيقت له من حب أحمد في الهدى أقدارًا فأنجبت حِبَّ حِبِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد فربَّته حق التربية حتى تولى فيهم أمارة جيش فيهم أبو بكر وعمر وعمره ثمانية عشر عامًا.

لا تلموا الشبل بل لوموا الأسد

ورث الأوصاف عن أم وجد

فإذا أبصرتهم قلت

يا نعم والد وما ولد

أم أيمن الحبشية هي إحدى الشواهد والأمثلة التي يمكن أن تساق برهانًا لهذه الأجيال المعاصرة أن الشهرة الدنيوية هي السبيل الخاطئ لاكتساب المجد الحقيقي.

لم يعرف تلك الحبشية كثيرًا من الصحابة ولم تفرد لها صفحات كثيرة في التاريخ ولم يخرج كتاب في بيان سيرتها، ولم تروي كثيرًا من الأحاديث مغمورة مشهورة حتى تاريخ وفاتها اختلف فيه إلى خمسة أقوال.

هذه الحبشية هي أنموذج دارج لقوم قدرهم أن تجهلهم الملايين لكنهم مشهورين يوم الدين، من قوم لم يكن همَّ أحدهم أن ينتصر اسمه بالإسلام بل أن ينتصر الإسلام على حساب اسمه.

ولقد بكت أم أيمن حين مات النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما قيل لها أتبكين؟ قالت: "والله لقد علمت أنه سيموت ولكني إنما أبكي على الوحي إذ انقطع عنا من السماء".

هكذا إذاً حتى البكاء فلا تبكي على بشر بل لانقضاء الوحي من إشراقة السور

مشاهير في السماء.. فتشوا في صحائف التاريخ أروني عظماءهم، أما إني سأختار لكم في هذه الخطبة من هؤلاء العظماء.

إن عظماء التاريخ الحديث هم المائة الألف الذين حجُّوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يشتهر منهم إلا ألف أو ألفان أين البقية من مشاهير الهدى؟

إنهم من مشاهير السماء.. الشهرة في السماء تحتاج رجل لا يسابق إلى مواطن العلو في الأرض، نال فرعون الشهرة فقُذف به ونالها همان فكسف به ونالها قارون فخُسف به (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)، ولكن ليسقط سقوط لا ارتفاع بعده، ألم تسمع قول الله -عز وجل- بعد قصة قارون ماذا قال الله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83]، لا للمشتهرين. علو بعلو، لما علا فرعون في الأرض جعله الله في آخر دركات النار.

ماتت امرأة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت تلك المرأة تَقُمُّ المسجد أي تنظفه وتطيبه لم تتصدر مجلسًا ولم تكن قائدة في النساء، ولم تشتهر بالسبق في الأسواق ولم يكن لها قصة في العشق والعشاق، لكنها أصدقكم عشقت بيت الله فصارت تنظِّف مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تبتغي بذلك أجرًا ولا فخرًا، عاشت على ذلك لتموت ولم يعرفها الكثير ما ضرَّ من جهلوها حين عرفها إخلاصها اليوم في السبع السماوات.

حتى إن رواة الحديث في المتفق عليه اختلفوا هل صاحب القصة رجل أم كان امرأة؟ لكنهم صلوا عليها ثم قبروها، ولم يُؤْذِنُوا بها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فلم يعلم بها رسول الله إلا بعد دفنها بأيام وليالٍ، فلما علم بها رسول الله عتب عليهم وقال لهم: "أفلا آذنتموني"، فذهب إلى قبرها ثم صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها.

والله لا يضر صاحب القصة كونه رجلاً أم امرأة، يضيرنا نحن ألا نعمل للأخرى كما عملوا ولا نبالي سواء أعرفنا الناس أم جهلونا.

ولا أن تموت منزويًا عن الناس يصلي عليك إذا مت العدد القليل خير لك أن تشتهر شهرة تقبحك يوم العرض على الله.

مشاهير في السماء.. (وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء: 164]، روى أحمد في مسنده عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: قلت يا رسول الله كم المرسلون؟ فقال: "ثلاثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا" وفي رواية لأبي أمامة قال أبو ذر قلت يا رسول الله: كم وفاء عدة الأنبياء؟ يعني كم عدد الأنبياء، فقال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا".

كل هذه الأعداد من الألوف المؤلفة أنبياء ورسل أين ذُكروا في القرآن العظيم فلم نجد فيهم في القرآن إلا خمسة وعشرين نبيًّا رسولاً، أين البقية من مشاهير الهدى؟! أين الذين ترونهم هم همُ لو حُلف المجد الأغر لقال هم في فرقد حسدته الأنجم؟!

(وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) لا تعلمهم الله يعلمهم، إنهم من مشاهير السماء (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) يقدم قوم يوم القيامة لأنه كان أشرهم وأخطرهم (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [هود: 98- 99].

اللهم اجعلنا من خير العباد، وارزقنا السداد والاستعداد، ولا تفضحنا يوم يقوم الأشهاد..

أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: الوجاهة الحقة هي الوجاهة عند الله هي يوم أن تسمع الله يقول عن إبراهيم عليه السلام (وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب: 69].

وإذا كنت وجيهًا عند الله فما ضرك لو انقضت عنك واجهات الدنيا، وقال الناس عنك حقير قوم وأنت الذي تدعى وجيهًا لدى الله.

كثيرا أولئك الذين غابت صحائف التاريخ عن ذكرهم أو كادت أن تغيب شموسهم عنها، ولكن من حكمة الله أن الجزاء العلوي ليس مقرونًا بالجزاء الدنيوي، ليس المقام هنا هو الخفض من قيمة الشهرة، فالشهرة بذاتها لا تُمدح ولا تُذم من حيث الأصل، ولكنها تكون مذمومة أو ممدوحة تبعًا لقصد صاحبها وتبعًا لطلابها أو اللهج بها وعقد الصفقات المتراكمة على موردها.

المقام هنا يتحدث عن أناس لم ينالوا شهرة أقرانهم مع استطاعتهم خوض التجربة نفسها؛ لأن من مقامات الشهر ما يقول لك الشهرة أو نيتك، فالعارف الحق لا يستنزل عن نيته بكنوز قارون ولا بسلطان نمرود، ولا بملك ذي القرنين ولا بواجهة رجل من القريتين عظيم.

الشهرة إذا لم تأتِ لك فلا تسعى لها، فإنه ما صدق اللهَ عبدٌ قط فأحب الشهرة؛ كما قاله إبراهيم بن أدهم.

المقام هنا يتحدث عن أناس لو ابتغوا الشهرة من قبل لنالوها وأتت على محل ديارهم وكأنهم كانوا على ميعاد.

لكن نواياهم وابتعادهم عن كلفة الشهرة كانت أحب إليهم من كل لعاعة عاجلة، كان مسلمة بن عبدالملك يحاصر ذات يومًا حصنا لكن فتح الحصن استعصى على الجنود فوقف مسلمة خطيبًا في القوم، وقال: يا أيها الناس أما فيكم من أحد يقدم فيحدث لنا نقبًا في هذا الحصن؟ فقد طال الحصار وانتثر الشرار، وحمى الموت في صهوات خيل، وقال الناس حان الابتدار.

وبعد قليل تقدم جندي ملثم معمم وألقى بنفسه على الحصن واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام، لكنها في سبيل الفتح أمنية تدحرجت فأصابتها الفتوحات.

قدم الشجاع حتى أحدث في الحصن نقبًا كان سببًا في فتح المسلمين له، وعقب ذلك نادى مسلمة في جنوده والناس قائلاً: أين صاحب النقب؟ فلم يجبه أحدٌ، قال مسلمة أين صاحب النقب؟ فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي وقد أمرت الآذان بإدخاله عليَّ ساعة مجيئه.

وبعد حين أقبل نحو الآذان شخص معمم ملثم وقال له: استأذن لي على الأمير، فقال: أأنت صاحب النقب؟ فقال: أنا أخبركم عنه وأدلكم عليه، فدخل فقال للقائد: إن صاحب النقب يشترط عليك أمورًا ثلاثة فإن أجبتموه عليها وإلا لن يدخل عليكم، قال مسلمة وما هن؟ قال: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع، وألا تسألوه من هو.

يخفي صنائعه والله يظهرها

إن الجميل إذا أخفيته ظهرا

فقال مسلمة: له ذلك، أين هو؟ فأجاب الجندي الملثم في تواضع واستحياء، أنا صاحب النقب أيها الأمير ثم سارع بالخروج.

اخرج فقد دخلت عليك الأمنيات الكاشفات، اخرج فقد دخلت فيما نحسبك إلى كنف مشاهير السماء.

فكان مسلمة بعد ذلك لا يصلي صلاة إلا قال في دعائها: "اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة".

مشاهير في السماء.. اصنع وجاهتك الحقيقية في اليوم الحقيقي؛ فإن الذي يجعل حظه في هذه الدنيا المتاع حري بالضياع والارتياع، حاول أن تخيط شموع الشهرة الباقية ليوم يبقى لك حتى إذا قيل أين فلان بن فلان؟ قلت: ها أنا ذاك، فإذا أُعطيت صحيفتك من يمناك وفرحت بها قمت تطوف على الناس وتقول لهم (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) [الحاقة:19]، إنها الدلالة على العرفان الخالد والبقاء والمعرفة والشهرة في العرصات.

في هذه الدنيا لا يغرك كسادٌ أو قلة مال أو عتاد أو شحوب وجاهة زائلة، فوالله لو كان فيها خيرًا لسبقونا إليها، لا تغتر في هذه الدنيا بأيّ معرفة، ولا يغرنك ثناء إلا الثناء الحسن الذي لم تسعَ إليه فإنه من عاجل بشرى المؤمن، وأما خلاف ذلك فهو حمل ثقيل ثقيل ومقام غير نبيل وحمائل متتابعة يشقى بها ظهرك ولا يرفع بها رأسك.

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يفرق بين أصحابه في سابقة ولا بشهرة إلا بسابقة التقوى، وكان أبغض الناس إليه الرجل المستعلي اللاحن بحجته الساجع كالكهان المستقوي على الأنام، بل كان -عليه الصلاة والسلام- يقرب الضعفاء ويقول "اللهم احشرني في زمرة المساكين" كما أخرجه الترمذي بسنده.

الكساد والاعتداد هناك أيتها الأجيال المؤمنة هناك حيث يضع الله عليك كنَف رضاه فلا تبأس أبداً هناك حيث تحشر في زمرة الأنبياء وفي زمرة الصديقين والشهداء وفي زمرة الصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

لما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السوق كما أخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي وجد رجل في السوق يقال له زاهر بن حرام، وكان هذا الرجل يهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هدية فيجهزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج فخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى السوق فأتاه النبي وهو يبيع متاعه فاحتضنه -عليه الصلاة والسلام- من خلفه والرجل لا يبصره، فقال زاهر: أرسلني، من هذا؟ والنبي -عليه الصلاة والسلام- يحتضنه من خلفه والرجل لا يزيد أن يقول: أرسلني، من أنت؟ من هذا؟ فالتفت إليه فلما عرف أنه النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل يلصق ظهره بصدره فقال -عليه الصلاة والسلام- "من يشتري هذا العبد؟" قالها ممازحًا له، فقال زاهر لرسول الله يا رسول الله والله إذاً تجدني كاسدًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لكنك عند الله لست بكاسد"، أو قال له -عليه الصلاة والسلام- "بل أنت عند الله غالٍ".

غالٍ بميزان السماء وإن تكن في الأرض عند الناس لست بغالٍ.

الغلاء والرخص هناك أيتها الأجيال كثير من الناس يظن أن الشهرة في الخير هي وحدها التي يمكن أن تخلِّد أثر الإنسان بعد موته، لا والله فكثير لم نعرفهم ولم يشتهروا عبر الأحقاب لكنهم صنعوا طريقا لا تبلغه إلا الأماجد أهل الطِّلاب.

لا يغرنك ألا يعرفك أكثر الناس، فرب مغمور في الدنيا مشهور في الآخرة، لم يشتهر سعيد بن زيد بن عمرو مثل الرواة المكثرين لكنه كان من العشرة المبشرين.

لم تشتهر زينب بنت خزيمة شهرة باقي الصحابيات بل كانت تدعى بأم المساكين لكنها أصبحت من زوجات النبي في الدنيا والآخرة.

لم يشتهر الإمام البرزالي شهرة الإمام الذهبي لكن الثاني في ميزان الأول حين فتق من ذهنه وشحذ من همه فصار الذهبي مؤرخ الأمة ومحدثها لأجل كلمة همس له بها العالم البرزالي.

لم يشتهر الطفيل بن عمرو -رضي الله تعالى- عنه شهرة أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، ولكن الثاني في ميزان الأول لما أسلم الطفيل ذهب إلى قبيلته دوس فما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد أسلمت قبيلته كلها وفيهم أبو هريرة -رضي الله عنه-

وكل رواية تدور في الدنيا من فم أبي هريرة يحط  على كفّ الطفيل كِفْل منها.

أنتم تعرفون عمر بن عبدالعزيز، ولكن الناس لا تعرف من أشار بتوليته وهو رجاء بن حيوة الذي اختزن أجر عمر في البرية كلها.

أنتم تعرفون أحمد بن حنبل ولكنكم لا تعرفون اسم المرأة التي كانت تمسك بيده في الغلس وهو غلام حتى توصله إلى المسجد، وهي أمه العظيمة.

أنتم تعرفون إمام دار الهجرة ولكن الكثير لا يعرفون اسم المرأة التي قالت له اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه، يقول مالك -رحمه الله-: "كانت أمي تعممني، وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه".

 أنتم تعرفون صاحب وقعة حطين ولا تعلمون من علَّمه كيف يغار على دين الله حتى استرد القدس بعد تخاذل وأعيد مصر الطهر بعد نضال.

تعرفون ابن تميمة حق المعرفة ولا تعرفون كثيرًا من تهجى معه الحروف الأولى حتى صار إمام الأئمة، تعرفون ابن باز ولا تعرفون من كان يقرأ عليه وهو أعمى.

يعرف الناس الجمعيات الخيرية والمكاتب التعاونية وليس شرطًا أن يعرفوا شيئًا عن منشئها وصاحب فكرتها والعامل فيها.

تعرفون العالم الفلاني والداعية الفلاني والمنبر الفلاني ولا تعرفون حجر الأساسات التي وضعت حتى اهتزت وربت إنها البركات التي تجري تحت سقف الاستخفاف وإرادة الأعمال لوجه الله (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [طه:72]، وأما الآخرة فليس لها إلا المحظيون الموفقون الذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا.

المقام الأخير.. ازرع جميلا ولو في غير موضعه، فوالله لن يضيع جميلٌ أينما زُرِعَ.

احرص على الإخلاص في جميع معاملاتك وعباداتك ففي الإخلاص الخلاص اشتهر بنيتك مع الله فالدنيا قصيرة ولكن طولها بالنوايا الحسنة.

الكلمة التي تخرج من قلبك لله والعمل الذي يكون خالصًا لله سيظهر للناس لا محالة إن شئت أم أبيت سواء في الدنيا أم في الآخرة، فإن فاتك شيء في الدنيا فالتمسه إذا وُضعت الركاب يوم الحساب.

اللهم الآخرة.. اللهم الآخرة.. اللهم الآخرة.