القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | ماهر بن حمد المعيقلي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومن لطائف ما أشار إليه ابنُ القيم -رحمه الله- أن الصدق ذُكِرَ في القرآن الكريم مُضَافًا إليه خمسةُ أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، وقدم الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصدق، وكأنها حَبَّاتُ لؤلؤٍ منظومة، كل واحدة منها موصلة لأختها، فمن كان صادقا في دخوله وخروجه، وذهابه وإيابه أفضى به ذلك إلى قدم الصدق...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الكبير المتعال، ذي العظمة والجلال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، عظيم الأخلاق وطيِّب الخصال، وخير من تقرَّب إلى الله بالصدق والإجلال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان ما تجددت البكور والآصال.
أما بعد: معاشر المؤمنين، اتقوا الله حق التقوى، واشكروه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وتذكروا قول الحق -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].
أُمَّةَ الإسلامِ: إن الصدق خُلُق من أخلاق الإسلام الرفيعة، التي أمر بها وندب إليها، وهو سمة الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، به وصف اللهُ -تعالى- خليلَه -عليه السلام- فقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)[مَرْيَمَ: 41]، وأثنى به -سبحانه- على إسماعيل -عليه السلام-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)[مَرْيَمَ: 54]، وأما صفوتُه من خلقه وخاتم أنبيائه فهو الصادق المصدوق، والصادق الأمين، وقد شهد له بذلك حتى أعداؤه، ففي الصحيحين لَمَّا نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 214]، صعد صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتَكُم لو أخبرتُكُم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقِيَّ؟ قالوا: نعم. ما جرَّبْنا عليك إلا صِدْقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، وما أجمل ما وصفته به أُمُّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها وأرضاها-، لما جاءه الملك في غار حراء فرجع -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤادُه وقال لخديجة: لقد خشيتُ على نفسي، قالت: كلَّا، فوالله لا يخزيك اللهُ أبدا؛ إنكَ لَتَصِلُ الرحمَ، وتصدقُ الحديثَ" (رواه البخاري، ومسلم).
ويكفي الصدقَ شَرَفًا وفضلا، أن درجة الصديقين جاءت بعد درجة النبوة، والصِّدِّيق كما قال القرطبي -رحمه الله-: "هو المبالغ في الصدق أو التصديق، وهو الذي يحقِّق بفعله ما يقول بلسانه"، وفي القرآن الكريم عند الحديث عن الذين أنعم الله عليهم قال عز من قائل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النِّسَاءِ: 69]، فكل مَنْ أطاع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على حسب حاله وقَدْر الواجب عليه، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم بنعمة الكمال والصلاح والسعادة والفلاح، جعلنا الله وإياكم منهم.
وهذا حامل لواء الصِّدِّيقين، وخير الناس بعد الأنبياء والمرسلين، صِدِّيِّقُ هذه الأمة؛ أبو بكر -رضي الله عنه- وأرضاه، كان أول مَنْ آمَنَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصدَّق به، وفي (صحيح البخاري) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حق أبي بكر -رضي الله عنه-: "هل أنتُم تاركِوُ لي صاحبي؟ إنِّي قلتُ: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر صدقت". رضي الله عنه وأرضاه.
وإذا تمكَّن الصدقُ من القلب ظهرت على الصادق آثارُه، في عقيدته وعبادته وأخلاقه؛ ولذا لَمَّا قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوما: "مَنْ أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا؟ قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عادى منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ". (رواه مسلم).
ولْنَعْلَمْ -إخوةَ الإيمانِ- أن أشرف وأعلى منازل الصدق هي منزلة الصدق مع الله -جل جلاله-؛ وذلك بأن يكون العبد موحِّدًا لربه، مُخْلِصًا له في عبادته، مُصَدِّقًا بآياته، وما أخبر به سبحانه عن نفسه من أسمائه وصفاته، وأن يكون صادق الاعتماد والتوكل عليه، واثقًا بما عنده، متابِعًا لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، فالصدق والإخلاص قرينانِ، وهما الركنانِ العظيمانِ، والشرطانِ الأساسانِ لقَبُول كلمة التوحيد، ففي (صحيح البخاري) لَمَّا سئل صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أسعدُ الناسِ بشفاعتِه يومَ القيامة؟ قال: أسعدُ الناسِ بشفاعتي يومَ القيامةِ مَنْ قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه".
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، صِدْقًا من قلبه، إلا حرَّمَه اللهُ على النار"؛ فالإخلاص توحيد المراد، والصدق توحيد الإرادة، ولا يكون العبد صِدِّيقًا إلا بالمجاهدة والمصابرة، فلا يزال العبد يَصْدُق ويتحرَّى الصدقَ حتى يصل إلى هذه المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة؛ ففي (صحيح مسلم) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكْتَبَ عند الله صِدِّيقًا".
عباد الله: إن في الإخلاص والصدق مع الله -جل جلاله-، تفريجًا للكربات وإجابةً للدعوات، ففي قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغارُ قال بعضهم لبعض: إنه -واللهِ يا هؤلاء- لا ينجيكم إلا الصدقُ، فليَدْعُ كلُّ رجل منكم بما يعلم أنه قد صَدَقَ فيه، فلما دعوا الله -تبارك وتعالى- وتوسَّلوا إليه بصالح أعمالهم فرَّج اللهُ -تعالى- عنهم كربَهم، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ليس للعبدِ شيءٌ أنفع من صدقه رَبَّه، في جميع أموره، ومَنْ صَدَقَ اللهَ في جميع أموره صَنَعَ اللهُ له فوق ما يصنع لغيره".
والصدق كما هو منجاة للعبد من فتن الدنيا ومصائبها فهو كذلك منجاة من كُرَب الآخرة وشدائدها، والفوز برضا الرحمن والخلود في الجنان، قال سبحانه الكريم المنان: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[الْمَائِدَةِ: 119].
والصادق -أيها المؤمنون- صالحُ البالِ، موعودٌ بحُسْن المآل، مطمئنُّ النفسِ، وهو من أفضل الناس بشهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّ الناسِ أفضلُ؟ قال: كلُّ مَخْمُومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ" (رواه ابن ماجه).
ومن لطائف ما أشار إليه ابنُ القيم -رحمه الله- أن الصدق ذُكِرَ في القرآن الكريم مُضَافًا إليه خمسةُ أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، وقدم الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصدق، وكأنها حَبَّاتُ لؤلؤٍ منظومة، كل واحدة منها موصلة لأختها، فمن كان صادقا في دخوله وخروجه، وذهابه وإيابه أفضى به ذلك إلى قدم الصدق؛ وهي الأعمال الصالحة التي قدَّمها لآخرته، ومَنْ كان هذا حاله جعل الله له لسانَ صدقٍ في الآخِرِين، فكان ذلك من عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فله مقعد الصدق، جنة عرضها السموات والأرض فيها ما لا عين رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَرٍ؛ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[الْقَمَرِ: 54-55].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الصادق الأمين، المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون: إن أصل الحياة الطيبة، والعاقبة الحسنة في صدق القلب مع الله -جل جلاله-، فإذا صدق الجَنانُ تبعه اللسانُ والأركانُ، فيصبح المرء صادقًا في قصده وقوله وعمله، وفي الصحيحين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب".
ومَنْ تأمَّلَ شرائعَ الإسلامِ السمحةَ وجدَها شواهدَ للصدق مع الله؛ فالصلاة ركن من أركان الإسلام وهي برهان على صدق الإيمان، مَنْ حَافَظَ عليها كانت له نورًا وبرهانًا؛ أي دليلًا على صِدْق إيمانه، ونجاة يوم القيامة، ومَنْ لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكذلك الحال في سائر العبادات، وكما أن الإسلام أَوْجَبَ الصدقَ على الإنسان في عبادته لربه فإنه أَوْجَبَهُ عليه كذلك في معاملته لغيره، ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البَيِّعانِ بالخيارِ ما لم يَتَفَرَّقَا، فإِنْ صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بيعهما، وإن كَذَبَا وكَتَمَا مُحِقَتْ بركةُ بَيْعِهِمَا".
فاصدقوا الله -عباد الله- يصدقكم، وانصروه ينصركم، وادعوه يستجب لكم، ويثبِّت على الحق أقدامكم.
ثم اعلموا معاشر المؤمنين: أن الله أمركم بأمر كريم، ابتدأ فيه بنفسه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدِّين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا، رخاء سخاء، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأنَنا كلَّه، أصلح لنا شأنَنا كلَّه، ولا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومين من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّيْنَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، برحمتك يا حي يا قيوم.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام وفِّق إمامَنا خادم الحرمين بتوفيقك، وأيِّدْه بتأييدك، وَاجْزِهِ عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، يا رب العالمين، اللهم وَفِّقْهُ ووليَّ عهده وأعوانه لما فيه خير للبلاد والعباد. اللهم وَفِّقْ جميعَ ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك وسُنَّة نبيك -صلى الله عليه وسلم-، اللهم واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين.
اللهم من أرادنا وبلادنا وأمننا ورجال أمننا بسوء فاجعل تدبيره تدميرا عليه يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم ردهم إلى أهليهم سالمين منتصرين وبالأجور غانمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انشر الأمن والأمان والرخاء في بلاد المسلمين، واكفنا وإياهم شرَّ الأشرار وكيدَ الفجار، وشرَّ طوارق الليل والنهار برحمتك يا أرحم الراحمين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].