التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عادل العضيب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
واليوم أرى لزامًا عليَّ ومن حق جماعة هذا الجامع المبارك وهذا الحي المبارك أن أودعكم ولا أدير الظهر بلا شكر ولا ثناء وقد قضى الله وقدر أن أنتقل من هذا الجامع بعد سنوات.. ومن يطيق وداع أحبابه؟! والله يعلم أني خرجت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر الأخرى، فقد أصبح هذا الجامع جزءًا من حياتي، أودع هذا الجامع وفي القلب حسرة وفي العين دمعة؛ فليس من السهل على نفسي أن أفارق وأودع أولئك الأخيار الذين اعتادت العين أن تراهم كل جمعة من سنوات ولن تراهم في جمعة قادمة،...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الأعلى الكبير الإله المعز المذل القدير، أحاط علمًا بالجليل والحقير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، فسبحانه من إله تعالى عن نظير وتقدس عن وزير، قدره فهدى وأغنى وأقنى، الرحمن على العرش استوى، يعلم خائنة الأعين وما يخفي الضمير، أحمده على ما أولاه من الإنعام والخير الكثير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادةً أدخرها لليوم العسير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الجد والتشمير وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله أيها المسلمون: سبحان الذي يغيِّر ولا يتغير، يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويفرِّق ويجمع، وما كان من اجتماع إلا وأعقبه فراق، هكذا قضَى الله وقدَّر، هذه هي الحياة مهما اجتمعنا سنفترق قريبًا أو بعيدًا عاجلاً أو آجلاً، ولكننا نتسلى ونتعزى بأننا نرجو الله أن نجتمع اجتماعًا لا فراق بعده إخوانًا على سرر متقابلين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إذا لم نلتقِ في الأرض يومًا | وفرَّق بيننا كأسُ المنون |
فموعدنا غدًا في دار خلد | بها يحيا الحنون مع الحنون |
كم التقينا بأحباب وأصحاب وجيران، ثم جاءت اللحظة التي نودعهم فيها فما تكلم في تلك اللحظة إلا الدموع، ومن حق المحبوب على محبيه أن يودعهم إذا جاءت لحظة الفراق، فهذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما حج في آخر حياته علم أن أجله قد اقترب فودَّع الناس في حجته وقال: "لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"، وعند النسائي: "خذوا مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".
ولهذا استشهد الناس على أنه بلغ رسالة ربه –عليه الصلاة والسلام- فقال: "وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد".
ودَّع –عليه الصلاة والسلام- أمته في حجته، ولذا سميت حجة الوداع، بخطبة ربما كانت أجمل الخطب وأعظم الخطب وأبكى الخطب.
ولما عاد –عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة ودنا الرحيل واقترب الفراق ودَّع الأحياء والأموات من أمته وداعًا ظهر فيه حبُّه وشفقته ورحمته بأصحابه وأمته، فقد دعا للأموات وأوصى الأحياء، وصدق الله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
فعن عقبة بن عامر –رضي الله عنه- قال: "إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صلى على قتلى أُحد بعد ثماني سنين كالمودِّع للأحياء والأموات، ثم صعد المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرط، وإني عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا؛ أن تنافسوها" قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على المنبر. (رواه البخاري).
ولما توفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جاء الصديق –رضي الله عنه- وشق الناس بسكينة ثم دخل على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى قد فاضت روحه إلى العالم الأعلى، فقبَّله تقبيل المحب لحبيبه قبلة الوداع.
واليوم أرى لزامًا عليَّ ومن حق جماعة هذا الجامع المبارك وهذا الحي المبارك أن أودعكم ولا أدير الظهر بلا شكر ولا ثناء وقد قضى الله وقدر أن أنتقل من هذا الجامع بعد سنوات، أودعكم وأنا أتذكر قول الأول:
ودِّع هريرةَ إن الركب مرتحل | وهل تطيق وداعًا أيها الرجل؟! |
ومن يطيق وداع أحبابه؟! والله يعلم أني خرجت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر الأخرى، فقد أصبح هذا الجامع جزءًا من حياتي، أودع هذا الجامع وفي القلب حسرة وفي العين دمعة؛ فليس من السهل على نفسي أن أفارق وأودع أولئك الأخيار الذين اعتادت العين أن تراهم كل جمعة من سنوات ولن تراهم في جمعة قادمة، أودعهم وأقول لهم:
بنتم وبنَّا فما ابتلت جوانحنا | شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا |
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا | يقضي علينا الأسى لولا تأسينا |
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سودًا | وقد كانت بيضًا ليالينا |
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا | أن طالما غير النأي المحبينا |
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم | في موقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
عباد الله، إحدى عشرة سنة على هذا المنبر تذكرني بقول الأول:
وكنا كندماني جذيمة حقبةً من الدهر | حتى قيل لن يتصدعا |
فلما تفارقنا كأني ومالكا | لطول اجتماع لم نبت ليلةً معا |
إحدى عشرة سنةً على هذا المنبر نجتمع كل جمعة في هذه المكان المبارك على غير أحساب ولا أنساب، وإنما نريد ما عند الله، أصبحت الأقدام تسير مباشرةً إلى هذا الجامع، عندما أمسك بالقلم لكتابة الخطب أول شيء أكتبه "جامع السبيعي"، عندما أسمع اسم هذا الجامع أشعر بأن الكلام فيه شيء يخصني، هذا المنبر هو الذي عرَّف الناس بي وعرَّفني بالناس، أتذكر الجذع الذي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يخطب عليه، فلما تركه وصار يخطب على المنبر بكى لفراق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو جماد، ثم أقول: "أنا أولى بالبكاء لفراق هذا المنبر الذي ارتقيت عليه هذه السنوات، ولا أملك إلا أن أقول:
سلام على تلك الأقدام التي درجت سنوات إلى هذا الجامع..
سلام على تلك الأرواح التي فقدناها، وقد كانت تصلي الجمعة في هذا الجامع..
سلام على هذا الحي وهذه الأرض التي ضمت هذا الجامع..
سلام على النساء اللاتي جلسن في بيوتهن يستمعن لخطبة هذا الجامع..
سلام على كل محب، سلام عليكم أنتم أيها الكرام، سلام يتبعه سلام إلى أن نلقى الملك العلام.
اللهم كما جمعتنا في هذه المكان الطاهر على طاعتك فاجمعنا أخرى أبديةً سرمديةً في جناتك جنات النعيم، اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على الشافع المشفَّع يوم المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر وسلم تسليمًا، أما بعد:
فيا معاشر المسلمين: في شهر شعبان من عام سبعة وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة كانت البداية، وفي شهر جمادى الثاني من عام ثمانية وثلاثين وأربعمائة وألف وتحديدًا في هذا اليوم كانت النهاية.
يا الله، ما أسرع مرور الليالي والأيام! يا الله ما أسرع مرور الليالي والأيام! كأنها تقول للغافل تنبه وللتائه عُدْ إلى طريق الحق والرشاد، أيام تمر من أعمارنا كأنما تقول لنا: حاسبوا أنفسكم فقد فرطتم في جنب الله كثيرًا. أيام وليالي تمضي بنا إلى الدار الآخرة، وما أسرع الرحيل! والفائز من وُفِّق لعملٍ ينجو به غدًا من عذاب الله.
عباد الله، هذا الجامع تعاقب على إمامته أئمةٌ كثر، ولكنَّ مكانة الجامع لم تذهب بتغير الأئمة، يذهب الأئمة ويبقى الجامع منارة علم ودار فقه، أسال الله أن يخلف على هذا المنبر من هو خير مني، وأن يجزي أحبتي عني خير الجزاء، فقد أحسنوا الظن بأخيهم، وحقيقته لا تبلغ ما في نفوسهم الكريمة، ولا يعرف الإنسان أحد كما يعرف هو نفسه.
واللهِ لو علموا قبيح سريرتي | لأبى السلام علي من يلقاني |
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي | ولبؤت بعد كرامة بهوان |
لكن سترت معايبي ومثالبي | وحلمت عن سقطي وعن طغياني |
فلك المحامد والمدائح كلها | بخواطري وجوارحي ولساني |
اللهم استرنا بجميل سترك ولا تفضحنا بين خلقك، واجعلنا خيرًا مما يظن الناس، واغفر لنا ما لا يعلمون.
ألقاكم –إن شاء الله- إن مد الله في العمر في الجمعة القادمة على منبر جامع الشيخ فيصل –رحمه الله رحمةً واسعةً-، هذا صلوا وسلموا على خير الورى محمد المصطفى؛ امتثالًا لأمر الله –جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم اجعل الدائرة عليهم يا قوي يا قادر.
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم كن للمستضعفين للمسلمين في كل مكان.
اللهم انصر جنودنا في الحد الجنوبي، اللهم احقن دماءهم، اللهم احفظهم بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، اللهم أعدهم سالمين غانمين منصورين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمرًا رشيدًا يعز فيه أهل الطاعة وتكسر فيه شوكة أهل العصيان ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، يا قوي يا قادر.
اللهم أرنا عز الإسلام قبل الممات، اللهم أرنا عز الإسلام قبل الممات، اللهم اجعلنا نستقبل من أيامنا خيرًا مما استدبرنا، اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وأنت راض عنا غير غضبان.
اللهم اجعل أعمالنا خالصةً لوجهك لا رياء فيها ولا سمعة ولا حب ظهور، يا رب العالمين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم فك أسرانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم عاف مبتلانا، اللهم عافِ مبتلانا، اللهم وفقنا لما فيه صلاح دنيانا وأخرانا، اللهم اغفر لنا ولوالدين ولجميع المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.