البحث

عبارات مقترحة:

العظيم

كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

هوس الأسهم

العربية

المؤلف سلمان بن يحيى المالكي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المعاملات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. أهمية المال في الإسلام ونظرته له .
  2. ترغيب الإسلام في المال الحلال وتنفيره من الحرام .
  3. حاجة الأمة الإسلامية إلى القوة المالية .
  4. حمى الأسهم وبعض حيل القائمين عليها وأضرارها .
  5. حلول شرعية لمشكلات التضخم .
  6. بعض الشرعية المتعلقة بسوق الأسهم .

اقتباس

لقد جاءت طفرةٌ في عالم الأسهم هبّت رياحها على هذه البلاد، وتُوِّجَ العام الذهبي قبلَ المنصرمِ ألف وأربعمائةٍ وخمسٍ وعشرين للهجرة النبوية بارتفاعٍ في الأسهم لم يسبِق له مثيل، وبلغتِ القيمةُ السوقيةُ بخاناتِ تِلِرْيون بعد ما تجاوزت المليارات، ودخل في هذا السوقِ من...

الخطبة الأولى:

فإن الله -جل وعلا- خلق المال وقسمه بين عباده، وأضح لهم أنه زينتهم في دنياهم، فقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وذكّرهم بالآخرة، فقال: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 46].

وجعل قيامه بينهم من أهم مصالحهم، فلا تقومُ الحياة إلا به، فقال: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) [النساء: 5].

وجعل حُبَّه غريزةً في نفوسهم، فقال: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 20].

وأمر بأخذه من حلِّه وإنفاقه في حله، وأوجب على الخلق أداءَ حقوقه وواجباته، فقال: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ) [المعارج: 24].

وأمر بالتوسط في إنفاقه، فقال: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29].

وبيّن أن كنز المال من أسباب عذاب الآخرة، فقال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 34].

وكل مال أوديت زكاته فليس بكنز، وجعل العقوبة بقطع اليد زجرا وتغليظا لمن سرقه من صاحبه، فقال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38].

وأمر الرسل بالأكل من الطيبات، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51].

وحرم علينا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، فقال: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) [البقرة: 188].

وأمر بوجوب الأمانة بحفظه وأدائه، فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8].

عباد الله: لقد كان المال محترما في الشريعة ولا زال، والله -سبحانه- يريد أن تُتناول الأموال بين العباد ليستفيدوا منها، ولذلك لم يجعلْ الفيءَ في أيدي الأغنياءِ يوزعوه كيف ما شاؤوا، بل جعل له مصارفَ تُصرف فيه: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) [الحشر: 7] أي كي لا يبقى بين الأغنياء يتصرفون فيه بمحض إرادتهم وآرائهم وشهواتهم، فلا يصرفون منه شيئا لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

أيها المسلمون: لقد امتدح النبي -صَلى الله عليه وسلمَ- المال الحلال الذي يعين صاحبه على الحق، فقال: "نعم المالُ الصالح للرجل الصالح"، وقال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق"، وجه النبي -صَلى الله عليه وسلمَ- أحد صحابته بتوجيه نبوي رشيد، فقال: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، فهذا المالُ يورّثُه المسلمُ لورثته بعد موته ليرتاح ضميرُه، وتطمئن نفسُه، وينتفع به أهلُه، وقد كان أبو بكرٍ من أتجر قريش، ولما قُتل عثمانُ -رَضي الله عنه- بلغت غلّتُ نخله مائةُ ألف، وكان عبد الرحمنِ بنِ عوف يقول: "يا حبذا المالُ أصون به عرضي وأتقربُ به إلى ربي"، فلما مات كانت الفؤوس تتكسر على الذهب والفضة التي خلّفها لأهله وكان له أربع نسوة، نصيب كل واحدة منهن: أربعمائة ألف درهم.

عباد الله: المال فتنة، وقد مدح الله رجالا لا يلتهون به عن ذكره، فقال: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 37 - 38].

وهذا المال وإن كان من أسباب السعادةِ في الدنيا فقد يكون شقاءً على صاحبه إذا صرفه عن ذكر الله وأورده المحرمات وجعله أشِرا بطِرا مختالا فخورا، وهذا من كبراء اليونان صاحبُ جزرٍ وأساطيل، وطائراتٍ ومليارات، حماماته من الذهب، كان يتباهى بمالهِ وثروته، فمات وقد بنى لنفسه قبرا كالقصر، فكان يقول لأصدقائه وأصحابه: إذا ما مت فإنه يجب عليكم أن تأتوا وتشربوا عند قبري الخمر حتى أخرج وأشرب معكم، فمات لكن في طائرته المحترقة التي هوت به من السماء ولم يدخل ذلك القبر الذي بناه، فآلت تركته إلى ابنته التي ماتت منتحرة في السابعة والثلاثينَ من عمرها، فآلت التركة بعد ذلك إلى حفيدته التي ماتت في حادثٍ أليم، ليكون الوريث بعد ذلك للمال كلبها.

عباد الله: إن حاجة الأمة اليوم للمال عظيمة لتكون قويةً ولتصون نفسها عن ذلِّ أعدائها، فأنتم ترون ما تفعله المؤسسات الدولية العالمية الماليةِ والتي يسيطر على كبار اليهود، كيف يفعلون بالدول والشعوب الفقيرة من الإقراضات التي لها فوائد مركبة، لا يمكن أن تسدّد حتى قيام الساعة؛ لأنها لا تزال في ازدياد.

عباد الله: لقد جاءت طفرةٌ في عالم الأسهم هبّت رياحها على هذه البلاد، وتُوِّجَ العام الذهبي قبلَ المنصرمِ ألف وأربعمائةٍ وخمسٍ وعشرين للهجرة النبوية بارتفاعٍ في الأسهم لم يسبِق له مثيل، وبلغتِ القيمةُ السوقيةُ بخاناتِ تِلِرْيون بعد ما تجاوزت المليارات، ودخل في هذا السوقِ من الناس الكثرةُ الكاثرة، ولكنَّ هذا السوقَ فيه تلوّثٌ كبير وغش وتدليس وخداعٌ، وإشاعات وأكاذيبٌ، وخيانةٌ للأماناتِ، وكشفٌ للأسرارِ، واحتكارُ أشياء لا يجوزُ احتكارها، وحركاتٌ غيرُ محسوبةٍ وتسريبٌ للمعلوماتِ مقابلَ أموالٍ.

لقد دخلت حمّى المضاربة فاجتاحت المجتمع، حتى صارت حديثَ البيوتِ والرجالِ والنساءِ وطبقاتِ المجتمع من الأغنياء ومتوسطي الدخلِ وحتى الفقراء، وصارت الشاشاتُ فتنةً للناس، وأصبحَ التشاؤم في اللون الأحمر والتفاؤل في اللون الأخضر.

ويشهد المجتمعُ ظاهرةَ التعلّقِ المحموم بهذه الأسهم والاهتمامِ الشديد بها، حتى طغت على أداءِ الحقوق وأشغلت الناس عن متابعةِ أحوال إخوانهم المسلمين، وصار بيعُ المدخارتِ والممتلكاتِ والتهادي بالأسهم، وأخذِ القروض بأي طريقةٍ، وسرتَ المجالسُ بالحديث في التفاخرِ بامتلاك الملايينِ بسبب اللَهَاثِ خلفَ هذه المضاربات، مؤشراتٌ عجيبة، كمياتُ تداولٍ ضخمة، قِيَمٌ سوقيةٌ رهيبة، وهكذا..

بلغت قصصُ التحوُّلِ الفجائي إلى الثروةِ أمرا متنَاقَلا عبر الألسن، وازدحمتْ صالاتُ التداولِ، وصار الناس يعملون من خلال أماكنِ العمل في هذه الأسهم، وأجريت دراسةٌ أحصت عدد الساعات المهدرة من الأعمال بثمانمائةِ ألف ساعةٍ يوميا بسبب الأسهم لخروجهم من الأعمال أو عكوفهم على الشاشات في وقت العمل.

وبعضُهم قام بتركيب خطوطِ هواتفَ خاصة في مقرِّ عمله لكي يعمل من خلالها، وعندما يُعلَنُ الاكتتاب يزدحمُ الناس بتدافع وفوضى، وتنشبُ المعاركُ في خطوط الانتظار وبين الموظفين والمراجعين، وبين المراجعين أنفسِهم، حتى وصلت القضيةُ إلى حدِّ كسرِ زجاجٍ أو اقتلاع بابٍ، ويسقطُ أحدهم مغمى عليه، فلا يتجرأ شخص لإنقاذه؛ لأن الجميع يخشى فواتَ دورِه في الصف، وتحولت المجالسُ والمقاهي والمنتدياتُ والمكالماتُ إلى بورصاتٍ للبيع والشراء، طمعا في الثراء السريع.

واتجه بعض الناس للاقتراض بالربا المحرم الذي لعن الله صاحبه، وبعضُهم دخل في عملياتِ تورُّقٍ ضخمة، من أجل أن يحصُل على سيولةٍ ليتاجر بها في سوق الأسهم، وصار النزاع بين الأزواج والزوجاتِ على حقِّ الزوجة الذي قضى عليه الزوج، فاكتتب باسم زوجته وباع واشترى وهي لا تدري، ثم حصل النزاع بين الزوجين على أسماء الأولاد، من الذي له الحقُّ أن يكتتب بأسمائهم؟ وهكذا رُهنت بيوتٌ وبيعت أماكنُ السكن من أجل الحصول على الأموال التي يتاجرون بها في هذا السوق، وباع أناس مصالحَ معيشتهم، وأغلقوا أبوابَ أرزاق عددٍ من العاملين فيها: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النـور: 38] حتى رُعاة الماشيةِ باعوا قُطعانهم، وصار أحدهم يقول: لماذا أُتعب نفسي وأدخلُ في دواماتِ الكد والكدح والمشكلات مع العمال والسوق وأنا أستطيع من خلال ضغط الأزرار على هذه الشاشة أن أكسبَ أضعاف أضعاف ما أجنيه من وراء هذه الماشية، ولم يفكر أولئك القوم أن هذه الحركاتِ اليسيرة عبر الشاشاتِ لا تبني شيئا في المجتمع، إنها ليست عملياتُ تصنيع ولا زراعة، وليس فيها تنميةٌ للمجتمع، وليس فيها مما يفيد المجتمعَ شيءٌ على الإطلاق، إنها نظرةٌ فرديةٌ فقط، فالمساهِم ينظُرُ لذاته بغضّ النظر عن مصلحة المجتمع، طفرة عجيبة أُصيبت بها الأسواق، وصارت مكرَّرَاتُ الأرباحِ إلى مستوياتٍ لم يسبق لها مثيل، وإذا كان مكرَّرُ الربحِ هو سعرُ السهم زائدِ العائدِ السنوي للسهمِ.

فتأمل في الوضع غيرِ الطبيعي على الإطلاقِ الذي يصلُ فيه مكرّرُ ربحُ شركةٍ من الشركات شبهِ المغلقة إلى تسعةِ آلاف، وهذا الربح لم يحدث في البورصات اليابانية والأمريكية والعالمية على الإطلاق.

وهذا الكلام مهمٌ في تبيُّنِ حكمِ بعضِ أنواع الممارسات من هذه الجهات، فإذا كانت الشركة شبهُ مقفلةٍ وأنشطتها في الحدود الدنيا ولا يكاد يوجد عندها شيء تبيعه، ولا يكاد يوجد لها أرباح، بل إنها في خسائر، وربما لم يصبحْ لديها إلا ستة موظفين، فكيف وبأي عقل وبأي منطق وبأي مقياسٍ يُصبح سعرُ سهما قريبا من ألف وقيمةُ السهم الحقيقية لا تتجاوزُ الستين ريالا.

ومعنى الكلام -عباد الله-: أن الناس يضاربون في الأوهام فيبيعون ويشترون في الأوهام، وهذه الأنواعُ من الشركات التعاملُ بأسْهُما ضربٌ من الميسر والقمار، وقد بان عوارها في الانهيار الذي حصل في السوق، فهذا الارتفاع الذي لا يوجد له أيُّ مبرّرٍ في ارتفاعه، فلا يوجد لها ميزانية أو أرباحٌ سنوية أو نصفُ سنويةٍ أو ربعُ سنوية تبرّر هذا الارتفاع.

إذًا، هي مبنية على المخادعة والغش والتحايل، وتغشى الأسهم -عبادَ الله- محرمات كثيرة، ومن ذلك : نشرُ الشائعاتِ غيرُ الصحيحة، من أجل التأثير على سعر السهم، وتسريبُ الأخبارِ لأناسٍ معينين لقاءَ مبالغَ مالية، وكذلك العروضُ والطلباتُ الوهمية التي تسبقُ افتتاحَ السوقِ بدقيقةٍ أو دقيقتين للتأثيرِ على السهم، وهذا غشٌ وتدليس محرم، وكذا العروضُ الضخمة التي يضعها المضاربُ في السهم ليوحي للمساهمين أنه سينزِل بينما هو يشتري في الحقيقةِ وعكسُه أيضا، والتزويرُ للأعلى وللأسفل بينما المضارب يشتري ويبيعُ لنفسه.

وقد كُشفت حيلٌ عجيبة في هذا الباب، وهذه الألاعيبُ هي في الحقيقة إضرارٌ بالمسلمين تسبب الخسائر الحادة في أموالهم، والذي لا يعرف عن الأسهم وأحوالها شيئا هو الضحية الخاسر، وقد دخل في هذا السوقِ من الجهلة من لا يعرف فيها نظاما ولا قاعدة، ولا يكاد يعرف إلا الألوان، وقد أجريت إحصاءات تَبيَّن من خلالها أن ثلاثة وسبعين بالمائة لا يعرفون سوى الأحمر والأخضر.

عباد الله: لا بد من إيجادِ حلولٍ لهذه المشكلات في التضخمِ التي تحصُل في السوق، وهذه الحلول تكمن في صرِف الأموال إلى الاكتتاب بدل المضاربة؛ لأن الاكتتاب هو إنشاءُ وإقامةُ شركاتٍ فيها نفع للناس، وصرفُ السيولة في المشاريعِ الجديدة تخدمُ البنية التحتيةِ والفوقيةِ للمجتمع المسلم، كما أنه ينبغي إيقافُ الشركاتِ الخاسرةِ حتى تعيدَ ترتيب أوراقها، وكذلك إقامةُ وتشجيعُ شركاتٍ جديدة فيها نفعٌ للناس ليكتتبوا فيها وينتفعوا بالمساهمة من ورائها، سواءٌ في الأرباح أو ببيعِ أسهما إذا صار وقتُ التداولِ بعد الاكتتاب.

أيها المسلمون: عندما تكون هناك فئة تلعبُ بالسوق، ترفعُ الأسعار وتخفِضها باتفاقات خفية، أليس هذا محرم شرعا؟ إنه حرام ولا شك، والمكاسب من وراء هذه الألاعيب حرام، واللذين يقومون بها إنما يأكلون المال السحتَ الذي يوردهم النار، وتسمع من يقول : إن التجارة شطارة! ويا سبحان الله! أتكمن الشطارة في إيقاع الآخرين في الخسائرِ والتغريرِ بهم وخداعِهم؟ وقد صدقوا إذْ قالوا: إن التجارة شطارة! فإن الشاطر في اللغة هو: اللئيم الخبيث قاطعُ الطريق!

إن هذا التلاعب الذي شهده السوق في الأسابيع الماضية سبّب انهياراتٍ مالية، وتضخم مالي كبير بغير مبرر، وإن استغلال الغفلة التي يتصف بها بعض المساهمين ليست من الإسلام والمروءة في شيء، ولذلك تكلم المتقولون في هذا الجانب بعلم وبغير علم، وصار كثيرونَ خبراءَ في السوق يُدْلون بآرائهم ويكتبون في المنتدياتِ ويرسلون عبر الجوالاتِ ويعلّقون في الجرائد والصحف، وكثيرون سمّاعون لهم ممن يجهلون حقائقَ الأمور، وبناءً على أقوالهم يبيعون ويشترون، وعصاباتٌ تغدوا وتروح في سخط الله -جل وعلا-، والنتيجة ضحايا من المسلمين، لا شك أن مثل هذا الوضع مخزي ومردي ومهلك، وهذه النتائج التي رأيناها في الشاشات من الخسائر هي نتيجةُ خلو البركة بسبب هذه الألاعيب، إنها ليست خسائر طبيعيةٌ لكي نقول لأولئك المساهمين: ارضوا بالقضاء والقدر وهذا هو حال التجارة، ربحٌ وخسارة، ولا شك.. فإنه يجب الرضا بالقضاءِ والقدر في جميع الحالات، ولكن أن يكون من وراء هذا تلاعبٌ واحتيالٌ ونصبٌ وخديعةٌ وإضرارٌ بأموال المسلمين، ثم يقال: هذه تجارة، كلا والله، وهؤلاء اللذين اقترضوا بالربا ثم دخلوا في هذه المساهمات، فقد ابتلاهم الله وعاقبهم بهذه الخسائر الفادحة؛ لأنه لما انهار السوق أرادوا الخروج بأي طريقة كانت فما استطاعوا ما اهتدوا إلى ذلك سبيلا؛ لأن الطلب على الشراء صفر، والعرضَ هائل، وهو يرى أرباحه تتآكل على الشاشة واللونُ الأحمر يستمر ويستمر، ليصل التآكلُ إلى رأس المال، ثم بعد ذلك يُطرد من السوقِ شرَّ طِرْدة، وعليه حينها فإنه ولابد من تسديد الربا بالإضافة إلى المبلغ الأصلي الذي أثقل كاهله به، وعندما يعطي البنك ما يسمى بالتسهيل المالي مقابلَ مبلغٍ معين يودعه هذا المضاربُ في البنك فيقول له مثلا : تودع مائة ألف لتضارب بها وأزيدك عليها مائة ألف، فإذا بدأ يخسر في أسهمه إلى المائة الألف التي أخذها من البنك طرده البنك وباع أسهمه رغما عنه حتى يضمن البنك حقه، ولا بد من تسديد البنك بعد ذلك، وأصبح أناس بين عشية وضحاها ضحايا ركبتهم أنواع من الهموم والغموم والديون، ولذلك صار من أحسن المشاريع علاجا لمن أصبح ضحية هذا الانهيار: العيادات النفسية، فقام سوق الجلطاتِ وأمراضُ الضغطِ والسكري ومراجعةُ المستشفيات وسياراتُ الإسعاف وحالاتُ الهلوسة، وأصبح من الناس من يكلم نفسه كالمجنون، وهذا الذي يصلي أمام الشاشات إدمانا لها، وثلاثة عشرة جلطة أصابت ثلاثة عشر شخصا، وازدهر سوق المستشفيات وعلت الناس النوباتُ والسكتات القلبية، وكل ذلك بسبب الأسهم، وصدق الله: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19 - 21] إنه أمر ظاهر في سوق الأسهم اليوم، هم وغم ونكد، وضيق صدر وهلع، وتسمع الأخبار العجيبة من أحوال الناس وما آلت إليه أمورهم، ثم سوءٌ عجيب حصل في العلاقات الزوجية بسبب تتبع البورصة بحسب حال الألوان، فاصطبغت الحياة بألوان المؤشرات وانعكست تلك الألوان على الأمزجة والعقول والنفوس، فحصل الطلاق والفرقةُ وهدمُ البيوت وتشتت الأبناء وعانت الأمهات وتفرقت الأسرة، فأي حال هذه التي ألقى بها هؤلاء أنفسَهم فيها، طيشان العقولِ عند نزول المؤشرات، وهذه التأثيرات النفسية البالغة على النفوس والأرواح، إنها كارثة خطيرة تجتاح المجتمع، لا بد أن يتصدى لها أهل العلم والأخصائيون والاجتماعيون وعقلاءُ المجتمع، فالمسألة ليست بهذه السهولة، لأنها تحتاج إلى تأملات واستيضاح.

عباد الله: مهما ارتفع المؤشر فلا بد أن يهبط، وهذا هو مصداق قول النبي -صَلى الله عليه وسلمَ-: "حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" (رواه البخاري) احفظوا هذا الحديث جيدا: "حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه"، وهذا أمر ثابت عند الله -تعالى- أن لا يرتفع شيء من أمور الدنيا إلا وضعه الله وحطّه وطرحه، وذلك لهوان الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة فيها وحتى يتعلم الناس أنها لا تدوم.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فا ستغفروه إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

إن هذا السوق المليء بالخديعة والتلاعب والتدليس والكذب والحيل هو في حقيقة الأمر سوق ملوثة، والتلويث أصلا واقع في كثير من الشركات المحرمة لحرمتها بالإضافة إلى تلاعب مساهميها بين فينة وأخرى فيها.

ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تتضح -عباد الله-: الحكمة في مثل هذه الأمور، وإن من الحكمة: انتهاز فرصةِ الاكتتاب في الشركات المباحة التي ينصّ على حلّها العلماء ومن لهم رسوخ علمي في هذا المجال، فإن مثلَ هذا التصرفِّ فيه انتهازُ للفرص واستثمارٌ في تلك الشركات، لكن أن يبعَ بعضُ الناس البيوت والسيارات وتبيعُ بعض النساء ما لديها من ذهب ومجوهرات؛ لأن من النساء من شملتها حمى الأسهم، فيبقى المسلمُ بلا بيت يأوي فيه قد كان يوما من الأيام يملكه، ويتحمل عناء ومشقة بلا مركب قد كان يوما من الأيام يركبه، ويبيعُ أمورا من حاجاته المعيشيةِ الأساسية التي هي من صلب الحياة اليومية ليدخل في سوق يضارب فيه وهذه حال اضطرابه وانهياره، فهذا ليس من الحكمة في شيء.

ومن الناس من يقترض بالحرام ليدخل في السوق الملوث، والدخولُ في تجارةٍ كهذه بأموال حرام، لا يبارك الله فيها، ولذلك خسر الكثير من هؤلاء في هذا الانهيار فلا ربحوا من جهة المضاربة ولا استفادوا من هذا القرض.

عباد الله: كان من القواعد العمرية التي سنّها أمير المؤمنين عمرُ -رَضي الله عنه- في حياته: أن لا يدخلَ في السوق إلا من يفقه، وعلى هذا فإنه ولا بد من تعلم الأحكام التي تتعلق بالأسهم لمن يريد الدخولَ في سوقها، وهذه طائفة منها:

أولا: المساهِمُ في أي شركةٍ يملِكُ حصّةً شائعةً في كلِّ موجوداتِ الشركة، وشهادةُ السهم وثيقةٌ تُثبتُ حقه في تلك الحِصّة.

ثانيا: شراءُ أسهمِ الشركات التي تُمِارس نشاطا محرما كالربا وإنتاجُ المحرمات والمتاجرةِ بها حرام قطعا.

ثالثا: شراءُ أسهمِ الشركاتِ التي تمارسُ الأنشطةَ المباحةَ كالزراعة والصناعة والخدمات المباحةِ هي حلال من جهة الأصل.

رابعا: الشركاتُ التي لها أصلٌ مباحٌ، لكنها تتعامل في بعض الأوضاع بالحرام كالاقتراض بالربا وهي ما يسمى بالشركات المختلطة فأكثر العلماءِ الثقاتِ المعاصرين وفتاوى المجاميع الفقهية على تحريمها.

خامسا: المساهمُ يملك حصةً شائعة في موجوداتِ الشركة، ولذلك فإنه شريكٌ في جميعِ ما يحدث في هذه الشركة، ومن ذلك المال المختلط بالربا، فعندما يشتري سهما في شركة، وتقترض الشركةُ في الربا، فقد صار للمساهِمِ نصيبٌ من المال المأخوذِ بالربا، ولذلك يجب نُصح مجالسِ إداراتِ الشركاتِ؛ لأن بقاءَ المساهمينَ دون أن يبدوا أيَّ حِراك في هذه العملياتِ المحرمة، هو غفلةٌ وتقاعدٌ وتركٌ للأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وهذا كسل وتدمير للدين، فأين حركةُ المساهمين ونصحُهم لمجالسِ الإدارات لأن مجلسَ الإدارةِ هو الذي يقومُ بالنيابة عنهم في هذه القرارات؟

سادسا: من اشترى أسهُما من مصرِفٍ يتعاملُ بالربا أو شركةٍ تتعامل بالحرام، فيجب عليه أن يتوبَ إلى الله بالندمِ على ما فات والعزمْ على عدم العودة، كما يجبُ عليه أن يتخلّص من الأسهم مباشرةً ويخرج من الشركة المحرمة التي هو شريك ومساهم فيها.

سابعا: من كان عنده أسهمٌ في شركةٍ اكتشف أنها محرمةٌ، ولم يكن يعلمُ بالتحريم من قبل، فإنه يجب عليه الانسحابُ منها مباشرةً، وله ما حصل من الأرباح؛ لأنه لم يكن يعلم الحقيقةَ من قبل، فما استلمه من ربح في الفترةِ السابقة التي لم يكن يعلم فيها بالحكم فهو له.

ثامنا: من اقترض بالربا ليدخلَ في المساهمات فإنه يجب عليه أن يتوب إلى الله ويبيعَ الأسهم فورا لتسديدِ القرض الذي اقترضه حالا؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يَمضي في العقدِ المحرمِ لأنه عقدٌ باطل، والواجب عليه إعادتُه فورا إلى الجهةِ التي اقترض منها.

تاسعا: من كان يعلمُ أن هناك محرما في معاملاتِ الشركة ثم اختلط بحلال فيها وتاب إلى الله -عز وجل-، فإنه يتخلص من نسبة الحرام وينسحب.

عاشرا: المالُ المحرم الذي حصل عليه ينفقه في بعض وجوه الخير كتعبيد الطرق وحفر الآبار التي ينفع بها المسلمين، ولا يتصدق منه ولا يعطي منه للزكاة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يحِلُّ له أن يأخذَ منه شيئا ولا يعطيه نفقةً لأقاربٍ يجب عليه أن يُنفق عليهم كالزوجة والأبناء، فليس إعطاؤهم منه من التخلص الشرعي منه في شيء.

الحادي عشر: التخلصُ من الأرباح المحرمةِ يكونُ بناءً على ما يخرج في الميزانية من الشركة، فلا بد أن ينظر في ميزانيةِ الشركة حتى يتخلص من المال.

الثاني عشر: للشركات التي فيها حرام، لا فرق فيها بين المضاربِ والمستثمر، فالذي أخذ أسهمها ليبقيها عنده، والذي اشترى أسهمها ليتاجر فيها ويضارب بها، كلاهما في الحكم سواء، فالتحريم فيهما سواء، لأنه لا فرق في الشرع بين أن يبقي السهم عند المساهم سنوات أو يبقيه ساعات؛ لأن المساهم سيبقى شريكا في هذه الشركة المحرمة ما دام مشتركا فيها.

الثالث عشر: الأسهم التي تسمى ممتازة وتُميز أصحابها بأن يحصُلوا على ربحٍ أكثر من الآخرين، أو أن يُبدأَ بتعويضِهم عند تصفيةِ الشركة، ونحوِ ذلك، فهذه أسهمٌ محرمة لا يجوز شراؤها، وأما الأسهم الممتازةُ التي تُعطِي بعضَ المساهمين القدامى الحقَّ في الاكتتاب قبل غيرهم من غير المساهمين عند إرادةِ زيادة رأسِ المال، فليس فيها محذورٌ شرعي ولا بأس بهذا العمل.

الرابع عشر: من أحكام الأسهم أنه يجوز إقراضُ السهم وعلى المقترضِ ردُّ مثله سواءٌ ارتفع السعر أم هبط، فإذا اقترض شخصٌ عشرة أسهم من شركةٍ معينة فإنه يردها عشرة كما أخذها.

الخامس عشر: يجوز رهن الأسهم، وعند الحاجةِ إلى أخذ الحق تُباع هذه الأسهم ويُستوفى الدينُ ويُردُّ الباقي إلى صاحب الأسهم.

السادس عشر: يجوز شراء الأسهم عن طريق التقسيط ما دامت الشركات مباحة والمعاملات فيها مباحة، وله أن يبيع ما اشترى من أسهم متى ما أراد؛ لأن الشراء الأول انتهى بتملكه للأسهم وعليه دين وهو ثمنها، فيجوز بيعها ما دام قد امتلكها في أي وقت يشاء ولو كانت الأقساط لم تنته بعد.

السابع عشر: يجوز قيامُ جهات مالية بتنظيم عمليات الاكتتاب في الأسهم والشركات المباحة مقابل أجرة معينة.

الثامن عشر: أجاز بعض العلماء المعاصرين أن يدخل صاحبُ الاسم الذي ليس معه سيولةٌ مالية مع آخر معه سيولة مالية في اكتتاب ويكون الربح بينهما عند بيع السهم على حسب النسبة التي اتفقا عليها، أما بيع الأسماء من الشخص الذي ليس معه سيولة لشخص معه سيولة فهذا محرم.

التاسع عشر: لا بد من القيام بزكاة الأسهم، وعندما يتاجر المسلم فيها فإنها تصبح من عروض التجارة فلا ينسى حق الله فيها، فتؤخذ الزكاة منها بقدر قيمتها في نهاية كل حول -والله أعلم-.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.

اللهم طيب أرزاقنا، واجعلها حلالا يا أرحم الراحمين.

اللهم دلنا على الخير واستعملنا فيه، وجنبنا الشر، وأبعدنا عنه.

اللهم اجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.