المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | محمد بن حسن المريخي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إنكم في شهر عظيم، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تستقصى، موسم وافر الأرباح لمن اغتنمه وقدره. لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفضل على عباده بأوقات القربى، وأزمنة المغفرة والرحمة والفلاح، أحمده سبحانه وأشكره وأستغفره، وأتوب إليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ومصطفاه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار، والتابعين الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وقدروا نعمه ومننه عليكم، والتي من أجلّها هذه الأيام التي تعيشونها، والمقبلة من أيام الشهر الفضيل، فإنكم في شهر لا يشبهه شهر، وأيام وليال تمتاز على كل الأيام والليالي، وأوقات تفضل كل الأوقات.
إنكم في شهر عظيم، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تستقصى، موسم وافر الأرباح لمن اغتنمه وقدره.
أيها المسلمون: لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتنموا أيامه المتبقية ولياليه، وانتهزوا فرصة تمر مرّ السحاب، ولجوا قبل أن يغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله -تعالى- على أن أخركم إليه ومكنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، واسرعوا بالمثاب والمتاب قبل انتهائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تنهب وزمانه يطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقى، يغفر لكم ما مضى، وصف ربكم أيامه بأنها معدودات، إشارة إلى سرعة انقضائها وتنبيهاً إلى خفة ظلها على المشمرين العاملين.
أيها المسلمون: تنصف الشهر وانهدم، وفاز من بحبل الله من اعتصم وخاف من زلة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم والأمن والندم.
إن أيام رمضان تاج على رأس الزمان، من رحم فيها فهو المرحوم، ومن حرم خيرها فهو المحروم، ومن لم يتزود من عامه فيها فهو الظلوم الملوم، ولا يهلك على الله إلا هالك، صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين" ثلاثاً فقلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- انك صعدت المنبر، فقلت: "آمين أمين آمين" فقال: إن جبريل -عليه السلام- أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين" (رواه ابن خزيمة وابن حبان وهو حديث صحيح).
إن شهر الصيام وإن انتصف فإنكم تدخلون على نصفه الثاني وما أدراكم ما نصفه الثاني، فاجتهدوا أكثر وأكثر، فإن من الناس من يجتهد في أيام الشهر الأولى ويكسل ويفتر في بقية الأيام، ولا يزال يفتر ويتكاسل حتى تضيع أو تمر عليه خير الأيام والليالي، وهي العشر الأواخر من الشهر؛ فلقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يخلط الأيام الأولى بنوم وصلاة وقيام، ولكنه كان يشمر عن ساعده إذا انتصف الشهر ويشد مئزره ويطوي فراشه إذا دخلت عليه العشر الأواخر من الشهر، فاقتدوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وتفرغوا للطاعة خاصة في أيامكم المقبلة، سخروا الأبدان لتقف بين يدي العزيز الجبار، مصلية وداعية وضارعة ترجو النجاة والفلاح مع الناجين الفالحين، وأطلقوا النظر في تدبر الآيات البينات، وفرغوا القلوب من الشواغل لتتفرغ لربها وخالقها علها تحظى بانكسار لله -تعالى-، وخشوع يكتب الله -تعالى- لها به سعادة ونجاة وحفظاً.
أيها المسلمون: إن شهركم شهر العتق من النيران والنجاة بالجنان والرضوان، فابذلوا أنفسكم لله -تعالى- في الأيام القادمة من الشهر وظنوا بربكم خيراً، فهو الكريم الرؤوف الرحيم بعباده، فلا تستبعدوا فضله ومنته بالمغفرة والعتق والنجاة.
إن حوادث الزمان المتأخر من عمر الدنيا، والبلاء الكبير المنتشر في كل مكان وخاصة النازل على أمة الإسلام جديرة بأن يجتهد المسلم في الدعاء في هذه الأيام والليالي يدعو لنفسه وأهله وأمته.
ألم تروا ما بإخوانكم المسلمين في فلسطين وسوريا وبعض ديار المسلمين؟ ألم تروا إلى تسلط الأعداء الكفرة على أمة الإسلام؟ فالله الله في الدعاء، ادعوا الله -تعالى- في هذه الأيام ليكشف البلاء عن المسلمين؛ فلقد أمر الله -تعالى- بدعائه بعد آيات الصيام مباشرة، فقال عز وجل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]، ثم هذا أوان التوبة والاستغفار والأوبة والانكسار والتضرع والافتقار، هذا زمان إقالة العثار، وغفران الأوزار، هذا شهر الإنابة، هذا رمضان الإجابة من الكريم لمن طرق بابه، فاقصدوا باب التوبة تجدوه مفتوحاً، وابذلوا ثمن الجنة بدناً وروحاً، وأقبلوا على الله ما دام الأجل مفسوحاً.
فإنه -يا عبد الله- لو بلغت ذنوبك كثرةً عنان السماء وما انتهى إليه البصر من الفضاء حتى فاتت العد والإحصاء، لو بلغت ذلك فتب إلى الله ولا تتردد، فإن الله -تعالى- يتوب عليك ولا يبالي، فهو أرحم بك من والدتك التي ولدتك.
يا عباد الله: هذا ربكم يناديكم: "يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (رواه الترمذي وهو حديث حسن)، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" (رواه مسلم).
فماذا تنتظر -عبد الله- بعد هذا العرض الرباني والمناداة الإلهية من الرحمن الرحيم، وليس عيباً أن يخطئ العبد فكل بني آدم خطاء، ولكن العيب الكبير أن يصر العبد على الخطأ، ويبقى غافلاً تمر عليه المواسم والأيام الفاضلة وهو غافل وتتاح له الفرص الربانية وهو معرض عنها.
بالثناء على ربك، والإقرار بالذنب والاعتراف، والإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة، يمحو الله -تعالى- الخطايا، ويتوب على عبده.
فبادروا -رحمكم الله تعالى- إلى الرضوان والرحمة، فإن حياة الذنوب شقاء وعار وأمراض وفضائح وبعثرة في كل شؤون الإنسان الدنيوية، وندامة وخسارة ونار في الآخرة، فهل من مدكر؟ فهل من متعظ يتعظ بقوارع القرآن والسنّة ويبادر إلى مناداة الرحمن؟
إن الأجل ثابت محدود مقدر، وإن الأيام والليالي رواحل تحملك إلى أجلك، وتقربك منه، ولن يفرّ أحد من ربه فلا ملجأ من الله إلا إليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...