العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الإِسْلامُ دِينُ الرَّحْمَةِ, وإِنِّي لَنْ أَمَلَّ عن تَذْكِيرِ الأُمَّةِ بِحَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- عَن خُلُقِ الرَّحْمَةِ, لَعَلَّهَا تَسْتَيْقِظُ من سُبَاتِهَا, ويَنْشُلُهَا اللهُ -تعالى- من هذهِ الأَزْمَةِ القَاسِيَةِ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عِبَادَ اللهِ, اِنْعِدَامُ الرَحْمَةِ نَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ للابْتِعَادِ عن اللهِ -عزّ وجلّ-, ونَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِقَسْوَةِ القَلْبِ, وصِفَةٌ من صِفَاتِ الجَاهِلِيَّةِ, وهذهِ حَقِيقَةٌ لا يُنَازِعُ فيهَا إلا مَرِيضٌ لَمْ يَنْقَهْ, أو مُغْرِضٌ لا يَفْقَهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: خُلُقُ الرَّحْمَةِ مِفْتَاحُ القَبُولِ لَدَى القَلُوبِ, ولا جَرَمَ أَنَّ فِقْدَانَ الرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِقْدَانٌ للحَيَاةِ الهَانِئَةِ, وإحْلالٌ للجَاهِلِيَّةِ الجَهْلاءِ, والأَثَرَةِ العَمْيَاءِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: الإِسْلامُ دِينُ الرَّحْمَةِ, وإِنِّي لَنْ أَمَلَّ عن تَذْكِيرِ الأُمَّةِ بِحَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- عَن خُلُقِ الرَّحْمَةِ, لَعَلَّهَا تَسْتَيْقِظُ من سُبَاتِهَا, ويَنْشُلُهَا اللهُ -تعالى- من هذهِ الأَزْمَةِ القَاسِيَةِ.
روى الإمام مسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللهُ -عزّ وجلّ-".
وروى كذلكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ. فَقَالَتْ: "مِمَّنْ أَنْتَ؟". فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ. فَقَالَتْ: "كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟". فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئَاً, إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ, وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ, وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ. فَقَالَتْ: "أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئَاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ, وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئَاً فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ".
وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-, عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ".
يَا عِبَادَ اللهِ: سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- نَبِيُّ الرَّحْمَةِ, وتَجَلَّتْ رَحْمَتُهُ بالخَلْقِ, حَتَّى تَعَدَّتْ نِطَاقَ البَشَرِيَّةِ إلى نِطَاقِ الحَيَوَانَاتِ والعَجْمَاوَاتِ, روى أَبُو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ, فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثَاً لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدَاً مِن النَّاسِ, وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- لِحَاجَتِهِ هَدَفَاً أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ.
قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطَاً لِرَجُلٍ مِن الْأَنْصَارِ, فَإِذَا جَمَلٌ, فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ ذُفْرَيْهِ فَسَكَتَ؛ فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟". فَجَاءَ فَتَىً مِن الْأَنْصَارِ, فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: "أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟ فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ".
أَيْنَ نَحْنُ من هذهِ الرَّحْمَةِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا رَاعِيَ الأُسْرَةِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا رَاعِيَ العَمَلِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا رَاعِيَ الأُمَّةِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا رَاعِيَ الكَهْرُبَاءِ والمَاءِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا رَاعِيَ المَعُونَاتِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا رَاعِيَ المُسْتَشْفَيَاتِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا رَاعِيَ القَرَارَاتِ؟ هَلْ سَمِعْتَ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَا أَيُّهَا الذي آمَنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ؟.
لَقَد جَاعَتِ الأُمَّةُ وعَطِشَتْ, ولَقَد تَشَرَّدَتِ الأُمَّةُ, لَقَد فُرِّقَ بَيْنَ الوَالِدِ وَوَلَدِهِ, لَقَد تَبَاعَدَتْ أَسْفَارُنَا, لَقَد كَثُرَتْ أَمْرَاضُنَا, لَقَد كَثُرَتْ هُمُومُنَا وأَحْزَانُنَا, لَقَد ضَاقَتْ عَلَيْنَا أَنْفُسُنَا.
يَا عِبَادَ اللهِ: أَفَلا نَتَّقِي اللهَ في أَنْفُسِنَا, أَفَلا نَتَّقِي اللهَ في سَوَادِ الأُمَّةِ؟ أَفَلا نَتَّقِي اللهَ فِيمَنْ مَلَّكَنَا اللهُ عَلَيْهِ؟.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَئِنْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- انْتَقَلَ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلَى فَلَا نَصِلُ بالشَّكْوَى إلَيْهِ حَسَبَ الظَّاهِرِ, فَإِنَّ رَبَّنَا -عزّ وجلّ- حَيٌّ لا يَمُوتُ, ولا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ, فَإِنَّهُ يَرَانَا جَمِيعَاً ويَسْمَعُنَا, يَرَى الظَّالِمَ والمَظْلُومَ, يَرَى القَوِيَّ والضَّعِيفَ, ويُؤَخِّرُ الجَمِيعَ إلى أَجَلٍ لا رَيْبَ فِيهِ (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد طَغَى طُوفَانُ المَادَّةِ الجَافَّةِ, فَأَغْرَقَ جُسُومَ الرَّحْمَةِ إلا مَن رَحِمَ اللهُ -تعالى-, وأَخَذَ البَعْضُ يُنَادِي ويَقُولُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ ذِئْبَاً أَكَلَتْكَ الذِّئَابُ, وإِنْ لَمْ تَجْهَلْ يُجْهَلُ عَلَيْكَ, وإِنْ لَمْ تَتَغَدَّ بِزَيْدٍ تَعَشَّى بِكَ.
يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا آنَ لهذهِ الأُمَّةِ, ولأَهْلِ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ, المُقِيمِ فِيهِ والخَارِجِ مِنْهُ, أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْرِ اللهِ ومَا نَزَلَ من الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ؟.
نَسْأَلُكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أَنْ لا تَنْزِعَ الرَّحْمَةَ من قُلُوبِنَا. آمين.