الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه |
أما حديث هذه الجمعة فما روى مسلم في صحيحه، عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَار، قَالَ أَبُو ذَرّ: خَابُوا وَخَسِرُوا! مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلفِ الْكَاذِبِ".
الخطبة الأولى:
عباد الله: العقوبات متعددة, والروادع متنوعة, ولكنْ فرقٌ بين عقوبة وعقوبة, ووعيد ووعيد.
لو أن أباك أعرض عنك وهجرك لضاقت بك الأرض بما رحبت, لو أن أمّك امتنعت من حديثك لما احتملْتَ, فمن ذا الذي يطيق هجر أمه أو أبيه؟ ومع هذا, فكلّه يهون ولا يُذكر أمام إعراض المولى -جل جلاله- عنك.
حدِّثْني عن العقوبة, أحدِثكَ عن تلك العقوبة حين لا يكلم الله صاحبها, ولا ينظر إليه, وله عذابٌ أليم. فبالله عليك؛ أيُ خيرٍ بقي, وأي تكريم يُنتظر, والجبار -سبحانه- قد أعرض عنه؟ فلعمري إنها لعقوبة ما أقساها! وإنه لوعيدٌ ما أعظمه! فما ذلكم العمل الذي تُوعِّدَ صاحبُه بهذا الوعيد؟.
في مقول نبينا ثلاثةُ أحاديث, حوت تسعة أعمال, مَن أتى بواحدٍ منها فالله لا يكلّمه ولا ينظر إليه, ولا يزكيه, لا يكلمه كلام رحمة, ولا ينظر إليه نظر لُطف, بل يُعرِضُ عنه, وله فوق ذلك عذاب أليم, فدعونا -في هذه الجمعة وما بعدها- ننظر فيها, ونتذاكرها؛ لنحذر منها ولا نكون منهم ونحن لا نعلم.
أما حديث هذه الجمعة فما روى مسلم في صحيحه، عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَار، قَالَ أَبُو ذَرّ: خَابُوا وَخَسِرُوا! مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلفِ الْكَاذِبِ".
المسبل: لبس ثوباً ستره, ولربما أحسَنه ونظّفه, لكن الخلل جاءه مِن كونه أطاله وجرّه خيلاء, فاستحق ذلكم الوعيدَ الشديد. وليس يخفى قولُ الرسول الكريم، عليه الصلاة والتسليم: "مَن جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه".
لذا -يا مبارك- تعاهد ثوبك, وكن على حذرٍ أن تطيله بقصد الخيلاء, فماذا سيفيد جزءٌ يسيرٌ تَزيده من ثوبك, ليجاوز كعبك, ربما كان مانعاً بينك وبين رحمة أرحم الراحمين؟.
فإنْ كان ذلكم الإسبالُ بخيلاء, ففيه هذا الوعيد، وما أعظمه! وإنْ أسبل لا بقصد الخيلاء, فهو محرمٌ عند كثير من العلماء, وفي مقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار".
ليس هذا في الثوب فحسب, بل في كل ما يُلبس, من قميصٍ, وبنطال, وغيرها, وفي السنن، عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جرّ منها شيئاً خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة".
فكن -يا أيها الشاب- على غاية الحذر, وكن -أيها الأب- متحرزاً فيما تضع من ثياب أبنائك, فمغبّة ذلك عليك, وإثمه ووباله راجعٌ إليك.
وما أحوجنا اليوم إلى التناصح فيما بيننا تجاه هذا الذنب الذي شاع، وما عُدت ترى له مُنكراً! ورضي الله عن صحابة رسولنا, لقد كان إنكار هذا الفعل لديهم حاضراً, حتى في أشدِّ الأوقات؛ لِعِظَمه, في حين أنك اليوم تسمع من يقول: هذا أمرٌ وذنبٌ يسير!.
عجبي لا ينقطع من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-, فعند البخاري أن عمر -رضي الله عنه- لما طُعن فحضرته الوفاة, بدأ الناس يدخلون عليه, فجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ! فقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ الشاب إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، وبرغم أن عمر مضرج بدمائه, مثقل بجراحه, ما طابت نفسه أن ترى المنكر فتسكت, بل قَالَ: "رُدُّوا عَلَيَّ الغُلاَمَ"، ثم قَالَ له بذلك الأسلوب الرقيق, والنصح الحاني: "يَا ابْنَ أَخِي، ارْفَعْ ثَوْبَكَ؛ فَإِنَّهُ أَنقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ". قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "يرحم الله عمر! لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق!".
عباد الله: وأما الثاني ممن تُوعِّد بهذا الوعيد, فهو المنّان, إنه رجلٌ يبذل, يتصدق, وعلى أهله وأصحابه يُنفق, لكنه لديه خصلة تهدمُ إحسانَه، وتُكَدِّرُ إنفاقه, وتُعَفِّي كرمه وعطاءه, إنها المنّ بما يعطي, يهدي, يتصدق, ينفق, ثم لا يفتأ في كل مناسبة أو غير مناسبة أن يذكّر بمعروفه, إما لمن أعطاه, أو عند من لا يريد المعطى اطلاعه على ذلك, وتلك الكلمات أشد على المحتاج من طعن السيوف.
ولعمري! إن الإمساك مع الاعتذار أحسن من البذل والكرم مع المنّ! (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة:263]، لذا؛ (لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى) [البقرة:264].
ورحم الله الشافعي إذ يقول:
مِنن الرجال على القلو | بِ أشد من وقع الأسنهْ |
وحتى مع الزوجة والأولاد, لا تُكثِر من تذكيرهم بنفقاتك, فليس هذا من حسن العشرة, والإنفاق واجب عليك, وأنت في كلِّ ما تبذل ترجو وجه ربك, فاطلب الثواب منه وحده.
وقد قال لقمان لابنه: "يا بني، اثنتان لا تَذْكُرهما أبداً: إساءةَ الناس إليك, وإحسانَك إلى الناس. واثنتان لا تنسهما: إساءتَك إلى الناس, وإحسانَ الناس إليك".
وسمع ابْنُ سِيرِين رجلاً يَقُول لآخر: أَحْسَنتُ إِلَيْك وَفعلت وَفعلت! فَقَالَ لَهُ ابْن سِيرِين: "اسْكُتْ, فَلَا خير فِي الْمَعْرُوف إِذا أُحصي".
أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ حَسَنٍ | لَيْسَ الْكَرِيمُ إذَا أَعْطَى بِمَنَّانِ |
قال زيد بن أسلم: "إذا أعطيت رجلاً شيئاً, ورأيت أن سلامك يثقل عليه -أي: لكونه يتكلف لك قياماً ونحوه لأجل إحسانك عليه- فكُفَّ سلامك عنه".
قال الهيتمي: وإنما كان المنّ من صفاته - تعالى – العلية, ومن صفاتنا المذمومة؛ لأنه مِنهُ -تعالى - إفضالٌ، وتذكير بما يجب على الخلق من أداء واجب شكره, ومنّا تعييرٌ وتكديرٌ، إذ آخذُ الصدقةِ -مثلاً- منكسرُ القلب لأجل حاجته إلى غيره, معترفٌ له باليد العليا؛ فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهارَ إنعامه تعديداً عليه, أو ترفعاً، أو طلباً، لمقابلته عليه بخدمةٍ أو شكرٍ, زاد ذلك في مضرةِ الآخذ, وانكسار قلبه, وإلحاق العار والنقص به, وهذه قبائح عظيمة. على أن فيه -أيضاً- النظرَ إلى أن له ملكاً وفضلاً, وغفلة عن أن الله هو المالكُ الحقيقي، وهو الذي يسّر الإعطاء وأقدر عليه.
فوجب النظر إلى جناب الحق، والقيامُ بشكره على ذلك، والإعراضُ عما يؤدي إلى منازعةِ الله في فضله وجوده, إذ لا يمن إلا من غفل أن الله -تعالى- هو المعطي والمتفضل. اهــ.
عباد الله: وإذا كان هذا كلُّه في المنّ على الناس, فالأمر أسوأ وأشنع إذا كان في المنّ على الله, فمسكينٌ ذلكم المرء, يفتح الله عليه من المال, ثم هو يوفقه للبذل والنوال, ثم تراه يمنّ على الله بما بذل, لا يفتأ في مجالسه يتحدث عن أن ذلك العمل, أو تلك الجمعية قائمة عليه, وأنه لولاه لتوقف ذلك المشروع, ولولا دعمه لما تحقق ذلكم الخير, ما درى أن الله الذي وفقه, وأنه غني عنه وعن بذله. وقد كان من أروع صفات المؤمنين قولهم بلسان الحال والمقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) [الإنسان:8-9].
وليس المنُّ -يا كرام- خاصاً بالمال, بل بكل ما يقدّمه الإنسان, ربما منّ البعضُ بجهده الذي يقدمه في خدمة الدين, ربما منّ بالخدمات التي يقدمها لبلده, ربما منّ بخدمةٍ بَذَلَها, أو شدةٍ تسبب في دفعها, فظل يذكر هذا ويذكِّرُ به, بل ربما منّ بنشاطه الدعوي أو العلمي, وما درى أن الموفِّق هو الله, وقد قال رجل لعمر بن عبد العزيز -وهو من هو في خدمة المسلمين ونفعهم-: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، فقال: "لا والله, بل جزى الله الإسلام عني خيرًا".
ولما منّ بعضُ العرب على النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم وقالوا: أسلمنا, وقاتلك العرب وما قاتلناك, أنزل ربنا -سبحانه-: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17]، فتوفيقه عباده -سبحانه- للإيمان, هو كبرى المنن التي ينعم بها على عباده, إنها المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة, وتجعل له في نظام الكون دورا أصيلاً عظيماً؛ لذا: فمهما قدّمت وبذلت فالمنة لله لا لك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، ثالث الثلاثة الذين تُوعدوا أن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم, رجلٌ صاحب تجارة, سلعته تروج, لكنه قد روجها بحلفه الكاذب.
تراه حين يبيع يُقسِم الأيمان المغلّظة أنه اشتراها بكذا، وهو يكذب, أو أنه لا عيب فيها, أو أنها طُلبت منه بكذا وكذا, أو: ما باعها إلا لحاجته للمال, وهو في الحقيقة إنما يبغي الخلاص منها, وهكذا وهكذا, في صورٍ عديدة, تراها في أسواق المسلمين, وفي مبايعات بعض الناس, لا يكاد يبيع إلا وقد جعل ربه عُرضة لأيمانه, وروّج سلعته بالحلف بربه, فراجت سلعته واشتريت, ولكن؛ ما خيرٌ في سلعةٍ تروج, وأموالٍ تأتي, وبركةٍ تُمحَق, وقد قال نبينا: "الحَلفُ منفقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ" متفق عليه. وفي الحديث: "وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا، بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ، لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ".
لذا؛ يا أيها البائع، أربح الله تجارتك, بِعْ بلا حلف, بع ولا تُخْفِ عيب سلعتك, بع ولا تمدح سلعتك بما ليس فيها, وقد روي أن يونس بن عبيد -وكان خزازاً- أراد رجلٌ أن يشتري منه خزّاً, فأخرج غلامه سَقط الخزِّ ونشره ونظر إليه, ثم قال: اللهم ارزقنا الجنة، وهذه كلمة تعريض في مدحه, فقال يونس لغلامه: ردّه إلى موضعه, ولم يبعه, وخاف أن يكون ذلك تعريضاً بالثناء على السلعة.
فرحم الله أولئك الذين اتجروا في الدنيا, ولم يضيعوا دينهم في تجاراتهم, بل علموا أن ربح الآخرة أولى بالطلب من ربح الدنيا.
هذه ثلاث خصال -يا كرام- وبقي حديثان فيهما خصالٌ أخرى, يُعرِضُ الله عن أصحابها, لا يكلمهم, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم, يأتي ذكرهم في الجمعة القادمة إن شاء الله.
اللهم اعصمنا من حالهم, ومن طريقهم.