الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
مضر بالدين والبدن والمال والمجتمع، فكم من تحذيرات طبية؟ وكم من فتاوى؟ صَدرت ببيان أضراره وقُبحه وخُبثه بل وتحريمه؟ ومن كان في شك من هذا فليُزل الشك باليقين، وليسمع لهذه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله سبحانه وضع الخير فيما أحل وأباح، وجعل السوء فيما حرم ومنع، له دعوة الحق وشرعة الصدق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضاعف الحسنات ويمحق السيئات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله إمام الأنبياء والمرسلين صلوات ربي وسلامه عليه.
معاشر عمار بيت الله: الله -جل جلاله- أحل لعباده الطيبات وأباحها لهم؛ لأنه يعلم أن فيها منافع لهم، وكرِه لهم الخبائث وحرمها عليهم؛ لأنه سبحانه يعلم أن فيها الضرر على أبدانهم ومن تم على حياتهم.
ومن الخبائث التي لا يَشُكُّ عاقل في ضررها وخُبثها، ولا في آثارها السيئة على حياة الإنسان: التدخين، الذي عم وانتشر بين الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، المرضى والأصحاء، بل حتى النساء، لم يسلمن من هذه الآفة الخطيرة، حتى صار المدخنون يضايقون ويؤذون الأبرياء من غير خجل ولا حياء.
وهذا هو موضوع خطبتنا لهذا اليوم -معاشر الصالحين والصالحات-: التدخين، ولماذا هذا الموضوع؟ لأننا في هذا الشهر العظيم، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وعامة المسلمين، كل من موقعه وكل حسب طاقته يبحث عن التقرب إلى الله بالطاعات واجتناب المعاصي، وخاصة المدخنون، فأغلبهم في حاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى رحاب رحمة الله الغفور الرحيم فيجتنبوا هذه الآفة.
وسأتناول هذا الموضوع من خلال العناصر التالية:
- أسبابه.
- الدلائل على خبثه وضرره وتحريمه.
- ثم نصيحة.
العنصر الأول: أسبابه: لعل من أبرزِ الأسبابِ الكامنة وراء التدخين وإصرارِ البعض على عدم الإقلاع عنه رغم آثاره السلبية:
- ضعف الوازع الديني.
- التقليد.
- بعض الاعتقادات الخاطئة
- الفراغ.
- الصحبة والبيئة المحيطة.
- التفكك الأسري.
- الإعلام.
وكلها تؤدي إلى تعاطي التدخين أولا، ثم الى انحرافات عديدة كالخمر والمخدرات وغيرها.
العنصر الثاني: الدلائل على خبثه وضرره وتحريمه؛ فهو والله الذي لا إله إلا هو لمضر بالدين والبدن والمال والمجتمع، فكم من تحذيرات طبية وكم من فتاوى، صَدرت ببيان أضراره وقُبحه وخُبثه، بل وتحريمه.
ومن كان في شك من هذا فليُزل الشك باليقين، وليسمع لهذه الأدلة:
وقبل أن أُسمعكم الدليل الأول، دعني أسألك -أيها المسلم-: حين تُشعِل السيجارة هل تقول بسم الله؟ أو حين تُنهِي التدخين هل تقول الحمد لله؟ لا تستطيع.
وأين ترمي السيجارة لما تنتهي؟ تقول تحت رجلك.
ومستحيل كذلك أن تدعو اللهَ أو تذكرَه أو تقرأَ القرآنَ وأنت تدخن؟ لماذا؟
اسمعوا الجواب:
الدليل الأول: اسمعوا -عافانا الله وإياكم من كل داء-، يقول ربنا: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف: 157].
ومن تأمل هذه الآية وجد أن تحريم الخبائث جاء في سياق الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- بمعنى أن من شروط اتباعك لهذا النبي، ومن دلائل حبك له أن تترك الخبائث، ومنها: التدخين.
وقال تعالى في آية أخرى: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء: 2]، فالتدخين من أي النوعين نصنفه، أمن الطيبات هو أم من الخبائث؟
الثاني: من ضرر التدخين وخُبثه: أنه يُدمر الصحة ويُهلك أجهزة الجسم الداخلية ويُتلفها؛ يُسبب إتلافَ الرئتين، وانسدادَ الشرايين، وأمراضَ القلب القاتلة، وتلفاً لخلايا المخ، ويُصيب الجسمَ بالسرطانِ القاتلِ بكل أنواعه: "سرطانِ الفم، سرطانِ اللسان، سرطان البلعوم، سرطان الرئة، سرطان المعدة".
ومن عنده شك في هذا فليسأل الأطباء وأهل الاختصاص، ليسمع العجائب والمصائب.
فكم من إنسان أنهكَ التدخينُ جسمَه، وأفسدَ صحتَّه، وجرَّ عليه من الأمراضِ مالا يعلمها إلا الله.
فالمُدخن يشتري السجائر مُتعمِّدا ومتأكدا من ضررها، ومُدركا لأنواع السموم الموجودة بها، ومتيقنا أنها سبب في هلاكه، وهذا هو القتل العمد للنفس والانتحار البطيء، وقد نهى الله -تعالى- عن إهدار قيمة الحياة ومصادرتها لأضعف الأسباب، فقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29]، فالجسد بكل ما فيه أمانة، ولا يحق العبثُ فيه ولا إضرارُه ولا إفسادُه أو إهلاكُه.
الثالث: الإسراف والتبذير، يقول ربنا: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26 - 27]، وفي الحديث الصحيح أن الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يكرهُ لكم قيلَ وقالَ، وكثرةَ السؤالِ، وإِضاعةَ المالِ".
أليس في التدخين إسراف، تبذير، إضاعةٌ وإتلاف للمال؟ وأيُّ إضاعة أعظمُ من إحراقِ المالِ بالنار؟ فلو رأينا شخصا يَحرِق المال بالنار، لحكمنا عليه بالجنون، فكيف بمن يَحرق ماله وجسمه وصحته جميعا بالنار؟
الناس يبحثونَ عن الصحةِ والمال ويتعبون في ذلك، وأنت... بطوعِك واختيارِكَ تبذر المال وتجلُب لك الأمراض.
ألم تعلم أن المالَ نعمة، وأن الصحةَ نعمة، وأنك ستُسأل عنهما بين يدي الله، قال ربنا: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتَّى يسألَ عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه"، فما جوابك إذا سألك ربك عن هذا الضياع والتبذير؟
فوالله لو لم يكن في التدخين إلا التبذير لكفى به تحريما.
الرابع: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58]، فكم من شخص آذيته وأزعجته بسبب التدخين في البيت، في العمل، في الشارع وسط الناس، حين تملأ فمك من دخان السيجارة، ثم تنفثه في وجوه الغير، من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم.
وفي المسجد كم من صف في الصلاة افتُتن فيه المصلون بسبب رائحة انطلقت من فم مدخن فأصابت الجميع بالتقزز والاشمئزاز، وكانت سببا في إلحاق الأذى والضرر بعباد الله دون ذنب جنوه، إلا مُجاورةَ هذ المدخن في الصلاة.
الخامس: هناك من يتأسى بك، شباب أطفال صغار، أبناؤك إن كنت والدا، تلاميذ إن كنت مدرسا، يقتدون بك، وقد ينضموا إلى صفوف المدخنين، فتَفسُدُ أخلاقهم، وتسوءُ نشأتُهم فينحرفوا، وأنت السبب.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح: "... ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ"، فكن أسوة في الخير، ولا تكن أسوة في الشر.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
العنصر الثالث: نصيحة:
نصيحة أولى: يا من ابتليت بهذه العادة الخبيثة: أرى من تمام عقلك ومروءتك أن تفتح قلبك لمن يدلك على عيوبك، ويفتح لك نافذة الخلاصِ من داء يقلقك في حياتك.
فأنا أدعوك بدافع النصيحة الخالصة: ألا تخدعك نفسك وتستهويك بأن التدخين يفرج همك، أو ينسيك آلامك، أو يسعدك في حياتك، أو يسليك في وحدتك، أو يشعرك بالفرحة في مجاملة أصدقائك المدخنين.
بادر بالتوبة وعاهد الله من الآن أن تترك التدخين طاعة لله وحبا في رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك حفاظا على صحتك ومالك، تفُزْ في الدنيا بحياة طيبة، وتنعم في الآخرة مع الطائعين.
فهذه فرصتُك العظيمة، وخاصة في هذا الشهر العظيم للتغلب على ذلك الصنم، ذلك الخبث والتخلص منه.
من الآن اصدق في نيتك وتوكل على الله: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159]، ولا تلتفت لنداءات النفس والأصحاب، الذين يُصورون لك أن الأمر خطير أو أنك لا تُطيق تركه، فلقد تركه غيرك ممن منَّ الله عليهم بذلك، وما ازدادوا إلا صحة وعافية بفضل الله.
تيقن أنه من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، فهو سبحانه سيعينك ويمدُّك بكل أسباب الانتصار على هذا البلاء.
التجأ إليه سبحانه وأنت في شهر الدعاء، فالصائم له دعوةٌ لا ترد، تضرع إليه في السجود، وفي كل أوقات الإجابة، وخاصة قبل أو عند الإفطار، عسى الله أن يَمُنَّ عليك برحمته ويُبعدَ عنك كلَّ سوء وكل مصيبة.
واعلم أنك إن أقلعتَ عن التدخين فأنت المستفيد، وإن أصررتَ فأنت الخاسر.
نصيحة ثانية:
يا باعة السجائر: قولوا لي بربكم: هل ترضون أن تشيع الأمراض الفتاكة في بيوتكم وأهليكم؟ لا أظنكم ترضون بذلك، فكيف ترضونه لغيركم؟
فأمتنا بحاجة إلى الأصحاء الأقوياء العقلاء، فهل ساهمتم في بناء هذه الأمة؟ لا، بل العكس، فأنتم تسعون في إعانة الأعداء عليها لهدم صحتها، وإضعاف قواها، وإفساد عقولها.
وإذا قلنا بحرمة التدخين فبيعه وثمنه كذلك حرام، ففي الحديث الصحيح: أن النبي -صلى اله عليه وسلم- قال: "لَعن اللهُ اليهودَ، حُرِّمت عليهم الشحومُ فباعوها، وأكلوا أثْمانَها، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إذا حَرَّمَ أكلَ شيءٍ حَرَّمَ ثَمَنَه".
فاتَّقوا الله في أنفسكم وفي المسلمين، ولا تكونوا سببا في إهلاك إخوانكم وقتلهم؛ فربنا يقول: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32].
وختاما: أسأل الله -جل في قدرته- في هذا اليوم العظيم، وفي هذا الشهر الكريم، وفي هذا البيت، لكل من نوى ترك التدخين والسجائر وعزم على ذلك من الآن، أسأل الله بأسمائه الحسنى وبصفاته العُلى أن يُعينه على ذلك، وأن يجعل تركَه له كفارةً ومغفرة، وأن يَرزقه الفردوس الأعلى من الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.