الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
هذه ذكرى الإسراء والمعراج قد أطلَّت على أمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, أطلَّت هذه الذكرى على الأمة لتذكِّرها بأنه بعد كلِّ مِحنة مِنحة, وكلَّما عظمت المحنة عظمت المنحة, هذه هي سنة الله -تعالى- في عباده المؤمنين: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5 - 6]. نعم، كلَّما عظمت المحنة عظمت المنحة, ولكن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: هذه ذكرى الإسراء والمعراج قد أطلَّت على أمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, أطلَّت هذه الذكرى على الأمة لتذكِّرها بأنه بعد كلِّ مِحنة مِنحة, وكلَّما عظمت المحنة عظمت المنحة, هذه هي سنة الله -تعالى- في عباده المؤمنين: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5 - 6].
نعم، كلَّما عظمت المحنة عظمت المنحة, ولكن بشرط التحقُّق بالعبودية لله -عز وجل-؛ لأن مولانا -عز وجل- عندما ذكر هذه المنحة العظيمة منحة الإسراء والمعراج التي كانت بعد مِحن قاسية لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, وكان آخرها قبل حادثة الإسراء والمعراج حادثة الطائف, عندما ذكر ربُّنا -عز وجل- هذه المنحة قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) [الإسراء: 1].
قفوا -يا عباد الله- مع قوله تعالى: (بِعَبْدِهِ) لقد أكرم الله -عز وجل- سيدنا محمداً -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بهذه المنحة بعد تلك المحن عندما كان متحقِّقاً بالعبودية لله -عز وجل- في ساعة المحن, فالمحن القاسية ما أخرجت سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عن دائرة الشرع الشريف -وحاشاه من الخروج عنها- وشدَّة المحن وصلابتها ما غيَّرت شيئاً من سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, لا بأقواله, ولا بأفعاله, فجميع أقواله وأفعاله مرضيَّة عند الله -تعالى- في العسر واليسر, لهذا كانت هذه المنحة العظمى من الله -تعالى- لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بعد تلك المحن, فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ), جاءت هذه المنحة منحة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, ومنه إلى السماوات العلى إلى مكان سمع فيه صريف الأقلام.
يا عباد الله: إننا نعيش في محنة قاسية وقاسية جداً -نسأل الله -تعالى- اللطف والعافية-, قال تبارك وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
ما تعيشه الأمة اليوم هو اختبار وابتلاء لعلَّ الأمة ترجع إلى الله -تعالى-, فإن رجعت إلى الله -تعالى-, واصطلحت الأمَّة مع ربِّها, وعادت إلى رشدها, وتمسَّكت بهدي نبيها سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, وتحقَّقت بالعبودية لله -تعالى-, فإن المنحة عظيمة وكبيرة -إن شاء الله تعالى-.
وأما إذا بقيت الأمة -لا قدر الله- على ما هو عليه حالها اليوم من الفساد, فربَّما -والله تعالى أعلم- لا ترى فرجاً, وأرجو الله -عز وجل- أن لا ينطبق عليها قول الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129].
فإذا أردنا المنحة بعد المحنة, فلا يسعنا إلا التحقُّق بالعبودية لله -عز وجل-, كما تحقَّق بها سيدنا ومولانا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, فالمنح بعد المحن لمن كان منضبطاً بهدي الحبيب الأعظم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
يا عباد الله: يقول مولانا في كتابه العظيم: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ) [إبراهيم: 5]، ومن أيام الله: حادثة الإسراء والمعراج التي أعطت دروساً عملية لكلِّ ظالم ومظلوم, أعطت دروساً عملية للظالم لعله يرتدع عن ظلمه, وأعطت دروساً عملية للمظلوم لعله يصبر ويحتسب.
أيها الإخوة الكرام: إن حادثة الإسراء والمعراج أعطت درساً عملياً لكلِّ ظالم:
أولاً: أن الظالم لن يفلح وإن طال زمن ظلمه, قال تعالى: (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام: 21] ما دام مصراً على ظلمه، ومعانداً للحق, فإنه لن يفلح لا في الدنيا لا في الآخرة, وهذه هي قريش ظلمت سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ظلماً شديداً؛ لأنه يقول: ربي الله, ولأنه يدعو الناس إلى كلمة التوحيد, فما هي عاقبتهم؟ ما أفلحوا وربِّ الكعبة, قتلوا شرَّ قتلة, وذُلُّوا بعد عِزٍّ, ومن مات منهم على ظلمه خاب وخسر.
ثانياً: إن حادثة الإسراء والمعراج أعطت درساً عملياً لكلِّ ظالم بأن بغيه ومكره ونكثه للعهد هو على نفسه, كما قال بعضهم: "ثلاث من كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البغي, والمكر, والنكث".
قال تعالى للظالم الباغي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم) [يونس: 23].
وقال تعالى للظالم الماكر: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43].
وقال تعالى للظالم الناكث في عهده: (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) [الفتح: 10].
أين بغي قريش ومكرها ونكثها في العهد مع سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؟
لقد كان بغيها ومكرها ونكثها للعهد عائداً عليها.
لقد أعطت حادثة الإسراء والمعراج درساً لكلِّ ظالم بأن عاقبته وخيمة, واقرؤوا القرآن العظيم, وسيرة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لتعرفوا هذه الحقيقة.
معشر المسلمين: إن حادثة الإسراء والمعراج أعطت درساً عملياً لكلِّ مظلوم:
أولاً: المظلوم هو المنصور ولو طال الزمن, روى الإمام الترمذي في سننه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ, وَالإِمَامُ الْعَادِلُ, وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ, يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ, وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ, وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
فما من عبد مظلوم ولا أمة مظلومة, إلا آتيها النصر من الله -تعالى- ما دامت منضبطة بضوابط الشريعة, ولم تخرج عن دائرة الشرع حالة ظلمها؛ لأن الله -تعالى- يقول: "وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
وقد يتساءل البعض: لماذا يتأخر النصر؟
هذا ليس من شأن المؤمن؛ لأن الأمر لله -تعالى- من قبل ومن بعد, ويقول الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران: 179] لذلك لا يسع العبد إلا قول الله -تعالى-: (وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
ثانياً: إن خصم المظلوم محروم من شفاعة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, ومن حُرم شفاعة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فقد خسر الدنيا والآخرة.
ليسمع كل مظلوم, إن كان فرداً, أو كان أمة, بأن ظالمه محروم من شفاعة الحبيب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إذا مات وهو مصرٌّ على ظلمه, روى الطبراني عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لا تَنَالُهُمَا شَفَاعَتِي: سُلْطَانٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ، وغَالٍ فِي الدِّينِ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ".
ولو صام هذا الظالم وصلى, ألا يكفي العبدَ المظلوم والأمةَ المظلومة أن خصمه من الظالمين قد حُرم شفاعة سيد المرسلين -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, ومن حُرم هذه الشفاعة -والعياذ بالله تعالى-, فمن سيكون شفيعه يوم القيامة؟ (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 48].
ثالثاً: المظلومُ المنضبطُ بضوابط الشريعة سيزيده الله -تعالى- عزاً رغماً عن أنف ظالمه, وهذا ما أكَّده الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى, يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ, وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ. قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ, وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا, وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ" [رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"].
نعم العبد المظلوم الملتزم دين الله -تعالى- حالة ظلمه لا يزيده الله -تعالى- إلا عزاً, ولقد ظُلم سيد الخلق وحبيب الحق -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أيَّما ظلم, وما زاده الله -تعالى- إلا عزاً, فهو أعز مخلوق على الله -تعالى- في السماء والأرض.
رابعاً: المظلوم دعوته مستجابة عند الله -عز وجل-, وترفع إلى السماء دعواته كأنها شرار, روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ, وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ, وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ".
وروى الحاكم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "اتقوا دعوات المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرار".
يا عباد الله: إن الظلم ظلمات, إن الله -تعالى- حرَّم الظلم على نفسه, وجعله محرَّماً بين الناس, فاحذروا الظلم؛ لأن الله -تعالى- يُمهل الظالم لعله يتوب, وإلا فيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
اسمعوا -يا عباد الله- ما يقوله سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- يُمْلِي لِلظَّالِمِ, فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ, ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102] [رواه مسلم].
فاحذروا الظلم -يا عباد الله-.
أيها الإخوة الكرام: المظلوم الصابر المنضبط بالكتاب والسنة هو كخير ابني آدم, وله من الله -تعالى- ظهير ومعين, والعاقبة له, ولن يخذله الله -تعالى-, ولن يُسلمه, وهو ينتظر النصر والمثوبة, وظالمه ينتظر الهزيمة والعقوبة؛ لأن الناس ما تنازعوا في أنَّ عاقبة الظالم وخيمة, وعاقبة المظلوم كريمة.
يا عباد الله: استعيذوا بالله من الظلم, واهتدوا بهدي سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عندما كان يخرج من بيته يقول: "بسم اللَّهِ، توكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ أنْ أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أوْ أُزلَّ، أوْ أظلِمَ أوْ أُظلَم، أوْ أَجْهَلَ أو يُجهَلَ عَلَيَّ" [رواه أبو داود وغيره].
نعم، إن حادثة الإسراء والمعراج أعطت دروساً عملية لكلِّ ظالم ومظلوم, لعل الظالم يتوب ويؤوب, ولعل المظلوم يصبر ويحتسب وينضبط, لأن العاقبة له.
اللهمَّ لا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يخشاك ولا يرحمنا.
أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.