البحث

عبارات مقترحة:

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

الخلاق

كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...

المتشبع بما ليس فيه

العربية

المؤلف صالح بن مقبل العصيمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. ذم مدح النفس بما ليس فيها .
  2. مفاسد مدح النفس بما لم تعمل .
  3. آثار تشبع المرء بما لم يفعل. .

اقتباس

إِنَّ ظَاهِرَةَ التَّشَبُّعِ لَمْ تَعُدْ مَقْصُورَةً عَلَى طَبَقَةٍ دُونَ طَبَقَةٍ أَوْ فِئَةٍ دُونَ فِئَةٍ، فَفِي الأَغْنِيَاءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَفِي الفُقَرَاءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَفِي العُلَماءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَفِي الجُهَلاءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ اِنْكَشَفَ عَوَارُهُمْ، وَهُتِكَتْ أَسْتَارُهُمْ، وَبَانَتْ لِلنَّاسِ مَعَايِبُهُمْ، وَشَمِتَ بِهِمْ شَانِؤُهُمْ، وَتَوَارَي خَجَلًا مِنْ قُبْحِ أَفْعَالِهِمْ مُحِبُّوهُمْ؛ بِسَبَبِ تَشَبُّعِهِمْ؛ فَالبَاطِلُ مَآلُةُ إِلَى زَوَالٍ،.. فَكَمْ سَلَبَ مِنْ حُقُوقٍ لِلنَّاسِ بِالتَّشَبُّعِ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ وَأَرْهَقَهَا ِبالْمَظْهَرِيَّةِ الجَوْفَاءِ، فَيَا اللهُ! مَا هَذِهِ الأَنْفُسُ المَرِيضَةُ، وَالأَفْعَالُ الدَّنِيئَةُ؟!

الْخُطْبَةُ الأُولَى:

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. 

عِبَادَ اللهِ: حَدِيثُنَا اليَوْمَ عَنْ مَرَضٍ اجتماعِيٍّ يُورِثُ الرِّيَاءَ، وَحَبَّ السُّمْعَةِ، وَلَقَدْ شَبَّهَ الرَّسُولُ، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ يَأْتِيهِ بِمَنْ يَلْبَسُ ثِيَابَ الزُّورِ؛ أَلَّا وَهُوَ مَرَضُ التَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ، قال، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ومن تَحَلَّى بِمَا لَم يُعْطَ فكأنَّما لَبِس ثوبَيْ زُور" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).

فَهَذَا الْمُتَكَثِّرُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ، كَمَنْ يُظْهِرُ أَنْ عِنْدَهُ عِلْمًا، فِي كُلِّ مَجَالٍ مِنْ مَجَالَاتِ العُلُومِ، يَتَكَثَّرُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ؛ مَذْمُومٌ؛ فَهُوَ كَمَنٍّ لَبِسَ ثَوْبِي زُورٍ؛ حَيْثُ شَبَّهَ نَفْسَهُ بِالعُلَماءِ. وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَطْ، بَلْ بِجَمِيعِ القَضَايَا: التَّارِيخِيّةِ وَالاِقْتِصَادِيَّةِ، وَالاجتماعِيَّةِ، وَالتَّجْرِيبِيَّةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: حِينَمَا يَطْرَحُ أَحَدُهُمْ سُؤَالًا عَلَى الحُضُورِ؛ فَيَتَغَافَلُ أَحَدُهُمْ عَنْهُمْ، ثُمَّ يَبْحَثُ عَنْ المَسْأَلَةِ فِي أَجْهِزَتِهِ الإِلِكْتْرُونِيَّةِ؛ حَتَّى يَعْثُرَ عَلَى الجَوَابِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلحُضُورِ: عُذْرًا كُنْتَ مَشْغُولاً، فَعَمَّ كُنْتُمْ تَتَحَدَّثُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَنْ مَسْأَلَةِ كَذَا وَكَذَا، فَيُعْطِيهِمُ الجَوَابُ الكَافِي الشَّافِي؛ فَيَنْبَهِرُ الحُضُورُ بِدِقَّةِ جَوَابِهِ، وَقُوَّةِ حَافِظَتِهِ، وَحُضُورِ ذِهْنِهِ، مُعْتَقِدِيْنَ أَنّهَا مِنْ مَحْفُوظَاتِهِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، فَضَخَّمَ نَفْسَهُ أَمَامَهُمْ، وَنَالَ إِعْجَابَهُمْ، بِكِبْرِيَاءٍ وَكِذْبٍ وَزُورٍ، وَنَسِيَ أَنَّهُ بهَذَا الاِدِّعَاءِ قَدْ أَغْضَبَ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. فَحَمَدَهُ النَّاسُ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، قَالَ اللّه تَعَالَى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 188]. فَمَاذَا اِسْتَفَادَ مِنْ مَدْحِ اِثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ؟!

إِنَّ مُتَعَاطِيهَا قَدْ سَيْطَرَ عَلَيْهِ حُبُّ الفَخْرِ؛ حَتَّى مَلَأَ قَلْبَهُ؛ قَالَ اِبْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِنْ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ؛ أَحَبَّ المَدْحَ وَكَرِهَ الذَّمَّ، فَرُبما حَمْلَهُ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ الحَقِّ خَشْيَةَ الذَّمِّ، وَعَلَى فِعْلِ كَثِيرٍ مِنْ البَاطِلِ رَجَاءَ المَدْحِ". وَلِذَا يَعِيشُ صَاحِبُهُ قَلَقًا نَفْسِيًّا، إِذَا تَأَخَّرَ الثَّنَاءُ وَالمَدْحُ.

وَقَالَ الطَّانِزُونَ لَهُ فَقِيهٌ

فَصَعَّدَ حَاجِبَيْهِ بِهِ وَتَاهَا

وَأَطْرَقَ لِلْمَسَائِلِ أَيْ بِأَنِي

وَلَا يَدْرِي – لَعَمْرِكَ- مَا طَحَاهَا

لَقَدْ حَمَدَهُ بَعْضُ النَّاسِ، ثُمَّ مَاذَا؟ وَكَانَ عَلَيْهِ إِذَا سُئِلَ سُؤَالًا لَا يَعْرِفُ جَوَابَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي

يَا رَبِّ لَا أَدْرِي وَأَنْتَ الدَّارِي

  كُلُّ امْرِئٍ مِنْكَ عَلَى مِقْدَارِ

وَيَقُولُ لَهُمْ: سَأَبْحَثُ عَنْهَا، أَوْ يَقُولُ: وَجَدْتُ الجَوَابَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ فِي النِّتِّ، فَمَاذَا يَسْتَفِيدُ إِذَا مَدَحَهُ وَاحِدٌ وَأَغْضَبَ الوَاحِدَ الأَحَدَ جَلَّ فِي عُلَاهُ؟! وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ طُلِبَتْ مِنْهُ شَفَاعَةٌ؛ فَيَسَّرَ اللهُ بِلُطْفِهِ إِنْهَاءَ المَوْضُوعِ بِجُهْدٍ يسيرٍ، وَقَدْ يَكُونُ الأَمْرُ قَدْ اِنْتَهَى قَبْلَ شَفَاعَتِهِ؛ فَيُظْهِرُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ أَنَّ المَوْضُوعَ كَانَ مُتَعَثِّرًا، وَأَنَّهُ بَذَلَ جُهُودًا مُضْنِيَةً؛ حَتَّى أَتَمَّهُ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلهِ وَيَشْكُرَهُ أَنْ وَفَّقَهُ بِلُطْفِهِ لِإِنْهَاءِ الْمَوْضُوعِ، أَمَّا أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ الحَقِيقَةِ؛ حَتَّى يُسَجِّلَ لَهُ جَمِيلًا مُضَاعَفًا، وَيَدًا يُحَرِجُهُ بِهَا؛ فَهَذَا مُتَشَبِعٌ بِمَا لَمْ يُعْطَ.

وَمُتَعَاطِيهِ يُرِيدُ بِفِعْلِهِ أَنْ يَلْفِتَ الأَنْظَارَ إِلَيْهِ، وَيُحَاوِلُ بِذَلِكَ أَنْ يَكْسِبَ قُلُوبَ النَّاسِ؛ بِإِظْهَارِ تَعَاطُفِهِ مَعَهُمْ، وَحِرْصِهِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، وَيَقُودُ هَذَا إِلَى بَخْسِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَتَنْقِيصِهِ مِنْ قَدْرِهِمْ، بَلْ وَإِلَى ظُلْمِهِمْ، فَيَقُولُ لِأَحَدِ النَّاسِ مَثَلًا: مُعَامَلَتُكَ عُرْقِلَتْ مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٍ، وَلُولَا تَدَخُّلِي لَمَا اِنْتَهَى مَوْضُوعُكَ، وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ المتشبعُ هُوَ السَّاعِي لِلضَّرَرِ، وَتَعْطِيلِ العَمَلِ؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْجَحْ؛ فَأَظْهَرَ العَكْسَ.

وَهَذَا يَحْدُثُ كَثِيرًا عِنْدَ تَعْثُّرُ بَعْضِ المُعَامَلَاتِ أَوْ تَأَخُّرِهَا لَدَى بَعْضِ الجِهَاتِ. بَلْ والأسْوَأ وَالأَقْبَحُ أَنْ يَدَّعِيَ مُعَلِّمٌ لِأَحَدِ طُلَّابِهِ أَنَّهُ كَانَ رَاسِبًا، وَأَنَّهُ سَاعَدَهُ فِي النَّجَاحِ، أَوْ كَانَتْ دَرَجَتُهُ مُنْخَفِضَةً فَرَفَعَهَا، وَهُوَ كَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَاهُ؛ فَيَشْعُرُ هَذَا الطَّالِبُ المِسْكِينُ بِأَنَّهُ كَانَ نَاقِصَا، بَلْ قَدْ يُشْعِرُهُ بِالقَهْرِ؛ إِذَا كَانَ الطَّالِبُ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَجَادَ فِي الجَوَابِ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ إِلَى تَزْكِيَةِ هَذَا الأُسْتَاذِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الجَوَابَ، لَقَدْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الأُسْتَاذِ غَنِيًّا عَنْ كَسْبِ مَدِيحٍ لَا حَقِيقَةً لَهُ، بَلْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ الأحْرَى أَنْ يَسْكُتَ، فَهَلْ يَنْفَعُهُ أَنْ يَمْدَحَهُ طَالِبٌ، وَيَغْضَبُ عَلَيْهِ رَبُّ العَالَمِينَ؟

وَمِنَ النَّمَاذِجِ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَ لِفُقَرَاءَ أَوْ مَسَاكِينَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ مَالِهِ، وَإِنّمَا هِيَ مِنْ أَمْوَالِ المُحْسِنِينَ؛ فَكَانَ عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَسْكُتَ، أَوْ يَقُولُ - وَهَذَا الأَفْضَلُ - إِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ مِنْ فَاعِلِ خَيْرٍ، أَمَّا أَنْ يَدَّعِيَ كَاذِبًا أَنَّهَا مِنْهُ؛ فَهَذَا تَشَبُّعٌ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.

وَمِنَ الأَمْثِلَةِ: مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ حَصَلَ عَلَى شَهَادَةٍ عِلْمِيَّةٍ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِيمَا أَدَّعَاهُ، وَمَا شَهَادَتُهُ الَّتِي اِدَّعَاهَا إِلَّا شَهَادَةُ زُورٍ وَبُهْتَانٍ، وَمَا جَامِعَتُهُ الَّتِي اِدَّعَى أَنَّهُ تَخَرَّجَ مِنْهَا؛ إِلَّا نَسْجٌ مِنْ الخَيَالِ، بَلْ قَدْ لَا يَكُونُ حَصَّلَ المَرَاحِلَ الأَوَّلِيَّةَ، فِي الدِّرَاسَةِ، وَمِثْلُهُ مَنْ يَدَّعِي الشَّعْرَ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا، وَهُنَاكَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ الأَوَّلَ فِي دِرَاسَتِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الحَقِيقَةِ.

وَكَمْ أَنْكَشَفَ - لَا هَتْكَ اللهُ لَنَا سِتْرًا - مِثْلُ هَؤُلَاءِ؛ بِسَبَبِ تَسَلُّطِ الْبَعْضِ الَّذِينَ لَا يَحِقُّ لَهُمْ أَنْ يَتَتَبَّعُوا عَوَرَاتِ المُسْلِمِينَ؛ فَلَوْ أَخْطَأَ هَؤُلَاءِ فَلَيْسَ مِنْ حَقِّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ جِهَاتِ الاِخْتِصَاصِ ومُنَاطَةٌ بِكَ المَسْؤُولِيَّةُ أَنَّ تَتَبَّعَ عَوَرَاتِهِمْ، وَتَهْتِكَ أَسْتَارَهُمْ، فَلَا تُقَابِلْ أَخْطَاءَهُمْ بِخَطَأٍ مِنْكَ، بَلْ خَطَؤُكَ أَشْنَعُ؛ فَقَدْ تَدَخَّلْتَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ.

وَبَعْضُهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ بِإِظْهَارِ حُصُولِهِ عَلَى الشَّهَادَاتِ العَالِيَةِ، وَتَفَوُّقِهِ فِي الدِّرَاسَةِ مِنْ أَجْلِ مَصْلَحَةٍ كَمَا يَزْعُمُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ أُشَجِّعَ أَوْلَادَي أَوْ طُلَّابِي عَلَى التَّفَوُّقِ؛ وَهَذَا مِنْ تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ؛ فَالغَايَةُ فِي الإِسْلَامِ لَا تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ. فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى المَالِ فِي الدُّنْيَا لَوْ اِنْكَشَفَتْ لِطُلَّابِهِ وَلِأَوْلَادِهِ الحَقِيقَةُ، وَظَهَرَ المَسْتُورُ، وَبَانَ الْمُغَطَّى، بَأي حَالٍ سَيُقَابِلُهُمْ ؟! وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ مَآلَهُ فِي الآخِرَةِ.

وَاللّهُ لَمْ يُحْوِجْ أَحَدًا لِاِدِّعَاءِ النُّبُوغِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ قُدُرَاتُ بَعْضِ الَّذِينَ نَبَغُوا أَقَلَّ مِنْ قُدُرَاتِ هَذَا الْمُتَشَبِّعَ، وَلَكِنْ رُبّمَا حَالَتْ بَيْنَهِ وَبِين التَّفَوُّقِ ظُرُوفٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ  أَوْ صِحِّيَّةٌ؛ فَعَلَيْهِ الرِّضَا وَعَدَمُ إِعْطَاءِ نَفْسِهِ أَكْبَرَ مِنْ حَجْمِهَا، فَقَدْ لَا يَكُونُ مُتَفَوِّقًا فِي الدِّرَاسَةِ؛ وَلَكِنْ فِي غَيْرِهَا مُتَفَوِّقٌ.

وَمِنَ التَّشَبُّعِ أَيْضًا: مَنْ يَسْمَعُ نَقْدًا لِكِتَابٍ أَوِ لِقَصِيدَةٍ؛ ثُمَّ يَأْتِي لِمَجْلِسٍ مِنَ الْمَجَالِسِ فَيَبْدَأُ بِنَقْدِهَا، حَتَّى يَنْظُرَ إِلَيْهِ الحَاضِرُونَ بِاِنْبِهَارٍ وَإِعْجَابٍ، وَيَظُنُّونَهُ النَّاقِدَ البَصِيرَ، وَمَا هُوَ إِلَّا نَاقِلٌ عَنْ غَيْرِهِ.

وَمِنَ التَّشَبُّعِ أَنْ يَسْرِقَ مُؤَلَّفَاتِ الآخَرِينَ وَيَنْسِبُهَا لِنَفْسِهِ، بِظَنِّهِ أَنَّ النَّاسَ جَهَلَةٌ مِثْلَهُ، بَلْ وَبَعْضُهُمْ يَسْطُو عَلَى رَسَائِلِ عِلْمِيَّةٍ غَيْرِ مَقْرُوءَةٍ، وَيَنْسِبُهَا لِنَفْسِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ!

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ ظَاهِرَةَ التَّشَبُّعِ لَمْ تَعُدْ مَقْصُورَةً عَلَى طَبَقَةٍ دُونَ طَبَقَةٍ أَوْ فِئَةٍ دُونَ فِئَةٍ، فَفِي الأَغْنِيَاءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَفِي الفُقَرَاءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَفِي العُلَماءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَفِي الجُهَلاءِ مُتَشَبِّعُونَ، وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ اِنْكَشَفَ عَوَارُهُمْ، وَهُتِكَتْ أَسْتَارُهُمْ، وَبَانَتْ لِلنَّاسِ مَعَايِبُهُمْ، وَشَمِتَ بِهِمْ شَانِؤُهُمْ، وَتَوَارَي خَجَلاً مِنْ قُبْحِ أَفْعَالِهِمْ مُحِبُّوهُمْ؛ بِسَبَبِ تَشَبُّعِهِمْ؛ فَالبَاطِلُ مَآلُةُ إِلَى زَوَالٍ، وَصَاحِبُهُ مَهْتُوكُ الأَسْتَارِ؛ فَقَدْ طَلَبَ الْمَحَامِدَ مِنْ غَيْرِ وِجْهَتِهَا، وَرَامَ الْعَلْيَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَكَمْ سَلَبَ مِنْ حُقُوقٍ لِلنَّاسِ بِالتَّشَبُّعِ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ وَأَرْهَقَهَا ِبالْمَظْهَرِيَّةِ الجَوْفَاءِ، فَيَا اللهُ! مَا هَذِهِ الأَنْفُسُ المَرِيضَةُ، وَالأَفْعَالُ الدَّنِيئَةُ؟!

حريٌّ بِالمُسْلِمِ أَلَّا يَفْرَحَ حِينَمَا يُحْمَدُ مِنْ النَّاسِ عَلَى فِعْلٍ قَامَ بِهِ، مَهْمَا كَانَ جُهْدُهُ؛ فَفَرَحُهُ إِنْ كَانَ مُصَاحِبًا للرياءِ وَالعُجْبِ فَهَذَا يُنْقِصُ أَجْرَهُ وَمِقْدَارَهُ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَدْ يُبْطِلُهُ كُلَّهُ، وَلِأَنَّ هَذَا يَجُرُّهُ إِلَى الحِرْصِ عَلَى أَنْ يُحْمَدَ فَيُصْبِحُ دَيْدَنَهُ، وَلَا يُتْقِنُ عَمَلًا إِذَا لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ. قَالَ اللّه تَعَالَى: (.. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 202- 203].

فَإِذَا كَانَتِ الظَّاهِرَةُ قَدْ اِنْتَشَرَتْ وَتَفَشَّتْ، أفَلَيْسَ مِنَ الأحْرَى وَالأَوْلَى التَّحْذِيرُ وَالتَّنْفِيرُ مِنْهَا؟ فَخَطَرُهَا أَشَدُّ وَأَنْكَى مِنْ غَيْرِهَا، وَبِالطَّرْدِ مِنْ حَيَاةِ المُسْلِمِ أَجْدُرُ وَأَولَي؛ فَيَنْبَغِي الحَذَرُ مِنْ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الخَطِيرَةِ، وَأَلَّا يُشْبِعَ الْمُؤْمِنُ فُضُولَهُ فِيمَا يَضِرُّ بِدِينِهِ، وَليُحَارِبْ شَهْوَتَهُ، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 41- 42]. أَسْألُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ أَعْمَالَنَا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَاِسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبةُ الثَّانيةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

أمَّا بَعْدُ.. فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

عِبَادَ اللهِ: وَلِلتَّشَبُّعِ ظَوَاهِرُهِ وَآثَارُهُ السَّيِّئَةُ، فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُعِدَّ، وَسَأَذْكُرُ بَعْضًا مِنْهَا:

أَوَّلًا: إِنَّ النَّبِيَّ، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ حَذَّرَ وَنَفَّرَ مِنْهُ. وَهَذَا كَافٍ لِتَرْكِهِ.

ثَانِيًا: إِنْ صَاحَبَهَا مُتَشَبِّهٌ بِمَنْ يَلْبَسُ ثِيَابَ الزُّورِ وَالبُهْتَانِ وَالظُّلْمِ.

ثَالِثًا: إِنَّ هَذَا الدَّاءَ يُورِثُ الكِبْرَ والتَّعَاظُمَ، وَحُبَّ الثَّنَاءِ عَلَى النَّفْسَ؛ فَيُبْتَلَى صَاحِبُهُ بِحُبِّ مَدْحِ النَّاسِ، وَتَمْجِيدِهِمْ لَهُ.

رَابِعًا: إِنَّ هَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الرِّيَاءِ الكَاذِبِ، وَهُوَ مِنْ أَوْسَعِ أَبْوَابِ الغَشِّ وَالخِدَاعِ.

خَامِسًا: إِنَّ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى سَلْبِ حُقُوقِ الآخَرِينَ؛ فَالْمُتَشَبِّعُ دَائِمًا مَا يَنْسِبُ الفَضْلَ لِنَفْسِهِ. مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَكُونُ بَذَلَ أَضْعَافَ مَا بَذَلَهُ لِإِنْهَاءِ مَوْضُوعٍ مَا.

سَادِسًا: إِنْ صَاحَبَهَا قَدْ وَضَعَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا الحَقِيقِيِّ وَأَنْزَلَهَا فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا..

سَابِعًا: إِنَّ مُرْتَكِبَهَا قَدْ اِسْتَحَقَّ سَخَطَ اللهِ وَمَقْتَهُ.

ثَامِنًا: إِنْ صَاحَبَهَا قَدْ اِتَّصَفَ بِصِفَاتِ أَهْلِ الزُّورِ وَالظُّلْمِ.

تَاسِعًا: فَتْحَ مُرْتَكِبُهَا عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الكَذِبِ وَاِسْتِسْهَالِهِ حَتَّى يَسْتَمْرِئهُ، وَيُصْبِحَ جُزْءًا مِنْ حَيَاتِهِ.

عَاشِرًا: إِنَّ المتشبعَ بِمَا لَمْ يُعْطَ يَعِيشُ حَالَةً مِنَ القَلَقِ؛ بِسَبَبِ خَوْفِهِ مِنْ اِنْكِشَافِ الحَقِيقَةِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى فِقْدَانِ الثِّقَةِ بِهِ. وَالتَّشَبُّعُ بِمَا لَمْ يعُطَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِمَّنْ يَشْعُرُونَ بِالنَّقْصِ؛ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَنَالُوا ثِقَةَ النَّاسِ بِهِمْ بِهَذِهِ الأَفْعَالِ المُزْوَّرَةِ.

عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذا الْمَرَضِ الْخَطِيرِ، وَمِنْ كُلِّ الأَمْرَاضِ.

الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ.

الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...