البحث

عبارات مقترحة:

الجبار

الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

دعوة الأنبياء وحاجة الناس إليهم

العربية

المؤلف علي باوزير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. حاجة الناس للرسل .
  2. القضايا الثلاث الأساسية في دعوة الرسل .
  3. تقديم الرسل نماذج رائعة للكمال الإنساني .
  4. نعمة نور النبوة وإرسال الرسل .
  5. معجزات مصاحبة لميلاد المرسلين ووفاتهم .
  6. حاجتنا في ذكرى المولد للامتثال لا الاحتفال .

اقتباس

فهذه خلاصة دعوة الأنبياء والمرسلين: جاؤوا ليعرفوا الناس بربهم وإلههم -سبحانه-، جاؤوا ليعرفوا الناس بمآلهم وما يصيرون إليه من جنة أو نار، جاؤوا ليقيموا العدل بين الناس، وليضعوا للناس نظاما يتحاكمون إليه، ويقيمون به مصالحهم وحياتهم، وهذه كلها لا يمكن للبشر أن يأتوا بها من محض عقولهم، بل لا بد لهم من نور النبوة والرسالة.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد: أيها المسلمون عباد الله، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدم وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70].

فضل الله -سبحانه وتعالى- بني آدم على غيرهم من الخلق، شرفهم وكرمهم وميزهم بميزات عدة رفع بها شأنهم بين الخليقة، وكان من أهم ما شرف الله -عز وجل- وكرم به الإنسان "العقل"،  العقل الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يميز ما ينفعه وما يضره، أن يميز بين ما يصلحه وما يفسده؛ فانطلق الإنسان بعقله يفكر ويقدر ويدبر، وارتقى بعقله أعلى المراتب، واستطاع من خلاله أن يقيم أمور حياته ومعاشه.

ولكن، يبقى هذا العقل قاصرا، ويظل هذا العقل محدودا بحدود لا يستطيع أن يتجاوزها، وتقف أمامه عقبات لا يستطيع أن يتخطاها.

وقفت أمامه أسئلة حيرته وأعيته وأعجزه جوابها، ولم يستطع الوصول إلى حلها عباقرة العالم ولا أفذاذه الأذكياء.

يتساءل الإنسان: من الذي خلقه ومن الذي أوجده؟ ولماذا وجد في هذه الدنيا؟ وماذا يكون بعد هذه الدنيا؟ ومن الذي يسيّر أمور هذا الكون؟ ومن الذي يدبر شؤونه؟ وما هي الحكمة من وجود هذه الخليقة كلها؟ أسئلة لم يستطع الإنسان بمجرد عقله أن يصل إلى جوابها، فظل واقفا أمامها حائرا لم يستطع أن يصل إلى حلها ولم يجد لها جوابا إلا عند فئة من الناس اصطفاها الله -عز وجل- واختارها وجعلها علامة هداية أو معلم هداية للناس، وسراجا منيرا لهم، إنهم أنبياء الله ورسله الذين اصطفاهم الله -سبحانه وتعالى- واختارهم وأرسلهم ليجيبوا عن هذه الأسئلة المحيرة، وليخرجوا البشرية من هذا التيه والضلال، وليخرجوهم من هذه الإشكالات المعضلة.

ولولا رحمة الله -سبحانه وتعالى- بإرسال الرسل لظلت البشرية تتخبط في ضلالها وفي تيهها، ولم تستطع أن تصل إلى حل أو جواب لهذه الأسئلة أو غيرها.

جاء الرسل ليبينوا للناس، ليهدوا الناس، ليوضحوا للناس، ليوصلوهم إلى سبيل النجاة، ليضعوا أقدامهم على الصراط المستقيم؛ وكانت دعوة الأنبياء تتركز على ثلاثة أمور مهمة أساسية: [التوحيد -  المنشأ والمصير -  الشريعة].

الأمر الأول: عرف الأنبياءُ الناس بخالقهم، ودلوا الناس على موجدهم وفاطرهم، الله -سبحانه وتعالى- ، بينوا له أن هذا الكون كله ليس إلا من صنع الله -تبارك وتعالى-.

هذا موسى -عليه السلام- حين يسأله فرعون ويقول له: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:23]؟ يقول موسى: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء:24-28].

بين بيانا واضحا شافيا، وعرف الناس بالرب الحقيقي والإله الخالق -سبحانه وتعالى- الذي أوجد هذا الكون بأسره.

وفوق هذا أخذ الرسل يعرفون الناس بحق الله عليهم، وما يجب لله -تعالى- من الحقوق والواجبات التي لا بد للبشر والعبيد أن يؤدوها وأن يقوموا بها. دعوهم إلى توحيد الله -سبحانه وتعالى- وإلى إفراده بالإلوهية والربوبية والأسماء والصفات، دعوهم إلى تنزيهه من كل نقص وعيب، دعوهم إلى نبذ الآلهة التي تعبد من دون الله -سبحانه وتعالى-، وكما قال الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) [النحل:36]، وقال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].

وما جاء رسول ولا نبي إلى قومه إلا وقال لهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وهذه هي أهم قضية في دعوة الأنبياء والمرسلين: توحيد الله -عز وجل- والإيمان به.

القضية الثانية: جاء الأنبياء والمرسلون إلى الناس فعرفوهم بمبدئهم ومعادهم، وعرفوهم بنشأتهم ونهايتهم، وإلى أين يكون مصيرهم ومآلهم؛ فالناس كانوا يعيشون في هذه الدنيا وكثير منهم لا يدري من أين جاء وإلى أين يذهب ولماذا خلق، فجاء الأنبياء وعرفوا الناس بهذا ووضحوه لهم، أخبروهم بأن هذه الحياة ليست هي الحياة الباقية وليست الحياة الأبدية وإنما هي مدة قصيرة توشك أن تنتهي ثم ينتقل الناس بعدها إلى الدار الآخرة، إلى الحساب والجزاء، إلى الثواب والعقاب.

أخبروهم أنه حتى لو مات الناس وفنيت أجسادهم وتحللت عظامهم فإن الله -سبحانه وتعالى- سيعيدهم وسيجمع ما تفرق من أجسادهم، كما قال -سبحانه وتعالى- حاكيا عن المشركين: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7].

أخبروهم أن هذه الدنيا ما هي إلا متاع زائل، وظل حائل، ودار ممر لا دار مقر، ومهما زين للناس فيها من الشهوات فإنها توشك أن تفنى وتذهب. (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:14-15].

هذه دعوة الرسل إلى الناس، تبين لهم حقيقة الدنيا، وتبين لهم حقيقة الدار الآخرة.

القضية الثالثة في دعوة الأنبياء والمرسلين أنهم جاؤوا بنظام عام شامل يرتب أمور الناس ويضبط حياتهم، يحقق مصالحهم ويدفع الشرور عنهم ويقيم العدل بينهم، ومثل هذا تقصر عنه عقول البشر بمجردها؛ فإن إدراك المصالح والمفاسد على حقيقتها لا يكون إلا عن علم تام كامل شامل بماهية المصالح والمفاسد، وهذا لا يكون إلا من شأن الله -تبارك وتعالى-؛ وأما الناس فإنهم يقدّرون بعقول قاصرة قد تخطيء في التقدير، عقول قد تغلبها شهواتها وقد تغلبها أهواؤها وقد تغلبها رغباتها، إذا صاغت لنفسها قانونا أو نظاما تأثرت بما تريد، وتأثرت بالبيئة التي حولها، فيحتاج الناس إلى نظام يأتي من خارج إطار البشر، نظام لا يكون إلا من عند الله -سبحانه وتعالى-، هذا النظام هو الذي يقيم حياتهم، ويحقق مصالحهم، فالأنبياء والمرسلون جاؤوا بهذا النظام من عند الله -سبحانه وتعالى-ـ ودعوا الناس إلى العمل به، والامتثال والأخذ بما جاءهم من عند الله -سبحانه وتعالى-.

ولا استقامة لحياة الناس، لا استقامة لدينهم ولا لدنياهم، لا استقامة لأولاهم ولا لأخراهم، إلا بالأخذ بهذا النظام الذي جاء به الأنبياء والمرسلون، قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:44-45]. هذا العدل الذي أنزله الله -عز وجل- في التوراة.

(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة:46-47]. هذا العدل والحق الذي أنزله الله في الإنجيل.

ثم جاء العدل الشامل والنظام الكامل الذي جعله الله -سبحانه وتعالى- في هذا الدين: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة:48].

فهذه خلاصة دعوة الأنبياء والمرسلين: جاؤوا ليعرفوا الناس بربهم وإلههم -سبحانه-، جاؤوا ليعرفوا الناس بمآلهم وما يصيرون إليه من جنة أو نار، جاؤوا ليقيموا العدل بين الناس، وليضعوا للناس نظاما يتحاكمون إليه، ويقيمون به مصالحهم وحياتهم، وهذه كلها لا يمكن للبشر أن يأتوا بها من محض عقولهم، بل لا بد لهم من نور النبوة والرسالة.

ولهذا يقول ابن تيمية -رحمه الله- وهو يتحدث عن ضرورة النبوة والرسالة للبشرية: والرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، ولا كحاجة الجسد إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من ذلك، وأشد حاجة من كل ما يقدّر أو يخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في الأمر والنهي، وهم السفراء بين الله وبين عباده. اهـ.

وفوق هذا وذاك قدم الرسل والأنبياء للبشرية نموذجا رائعا للكمال الإنساني، والصلاح البشري، فهم أكمل الناس عقولا، وأعظمهم إيمانا ويقينا، وأبلغهم لفظا، وأفصحهم لسانا؛ وهم أصدق الخلق، وأكثرهم أمانة، وهم أحسن الناس خلقا، وأقومهم سلوكا، وأكثرهم عملا، لا يصدر منهم فعل قبيح، ولا يأتي إلى الناس منهم شر أبدا، فهم خير من وطئ على الثرى، وخير من عاش على الأرض، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، وفداهم روحي ونفسي كلهم، صلى الله على رسله وأنبيائه إلى يوم الدين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.

وبعد: أيها الأحباب الكرام، مما لا شك فيه أن نور النبوة نعمة ومنة عظيمة من الله -تبارك وتعالى-، ووجود الرسل والأنبياء على الأرض شرف لها وللبشرية كلها، فبهم ازدان الوجود، وبهم سعدت الإنسانية والبشرية.

فميلادهم ليس كميلاد غيرهم، ووفاتهم ليست كوفاة غيرهم، هذا موسى -عليه السلام-، ما ولد إلا وقد انقلبت البلاد كلها بحثا عنه، فرعون يطلبه، يريده وهو لا زال طفلا رضيعا، لا زال حديث عهد بهذه الدنيا، يبحث عنه؛ لأنه أدرك أن مولد هذا النبي خطر يهدد عرشه وظلمه وطغيانه.

أكرمه الله وأنقذه وخلصه من عدوه وساقه إلى بيته عبر الماء، فتربى وعاش في كنفه في كرامة ومعجزة ظاهرة عجيبة من آيات الله -سبحانه وتعالى-.

وهذا عيسى -عليه السلام- كان ميلاده كرامة لأمه، ومعجزة له، ولد من أم بغير أب، وأنطقه الله -سبحانه وتعالى- في المهد صبيا.

وهذا محمد -صلى الله عليه وسلم- لما ولد رأت أمه نورا خرج منها أضاءت له قصور الشام وعرف بذلك اليهود والنصارى ، يقول حسان بن ثابت -رضي الله عنه-: "والله إني لغلام يفعة ابن سبع أو ثماني سنين، وإني لأعقل كل ما أسمع، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة في يثرب، يقول: يا معشر اليهود، فاجتمع اليهود حوله، فقالوا: ويلك! مالك؟! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به".

هذا ما صح، وجاءت أمور أخرى وأخبار أخرى مما جرى في يوم مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح منها شيء.

ولا شك -أيها الأحباب- أن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- حدث عظيم في تاريخ البشرية، وأعظم من حدث مولده بعثته -صلى الله عليه وسلم-، وإنزال الوحي إليه، فهذا هو الذي غير مجرى التاريخ، وأضاء هذه الأرض بنور الرسالة.

والشرع -أيها الأحباب- لم يحتف بيوم مولده -صلى الله عليه وسلم- كما احتفى بيوم أنزل إليه القرآن، قال -سبحانه-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:1-3].

عظم الله -سبحانه وتعالى- في شأنها، وفخم من أمرها، وضاعف من أجرها وثوابها؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيها: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"؛ لأنها الليلة التي أوحي فيها إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-.

يحتفل بعض الناس بيوم مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا شيء لم يعرفه الصحابة -رضي الله عنه وأرضاهم- وهم أشد الناس حبا للحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، والناس اليوم هم أشد حاجة إلى الامتثال منهم إلى الاحتفال، والبشرية اليوم هي أحوج ما تكون إلى أن تعود إلى نهج الأنبياء وإلى دعوة الأنبياء، صلوات ربي وسلامه عليهم

قبل أيام كان النصارى يحتفلون بمولد عيسى -عليه السلام-، وفي  هذه الأيام بعض المسلمين يحتفلون بيوم ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم-. وهؤلاء وهؤلاء بعيدون كثيرا عن دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن دعوة عيسى -عليه السلام-!.

بالله عليكم أيها الأحباب: لو بُعث عيسى -عليه السلام- في هذه الأيام، أكان يرضى بهؤلاء الذين يشركون مع الله -تعالى-؟ أكان يرضى بما ينتسبون إليه من النصارى من ظلم وطغيان واعتداء على بعض البشر؟.

لو بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأيام، أكان يرضى على حال أمته؟ أكان يفرح بما سيراه من أحوال أتباعه؟ يقتل بعضهم بعضا، ويستبيح بعضهم حرمة بعض، سنته محاربة، وشريعته مقصاة، وبعض الذين ينتسبون إليه يسبون أصحابه، ويطعنون في زوجه -رضي الله عنها وأرضاها-، أيرضى محمد -صلى الله عليه وسلم- بأحوال أناس غيروا وبدلوا؟.

يوم القيامة يقول محمد -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ". يمنعون من الشرب من الحوض ويمنعون من الاقتراب من النبي -صلى الله عليه وسلم-، "فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي!".

إننا -أيها الأحباب- بحاجة إلى أن نعمل أكثر من حاجاتنا إلى أن نحتفل، نحتاج إلى واقع حقيقي أكثر من حاجاتنا إلى شعارات جوفاء، نحتاج إلى التطبيق أكثر من حاجتنا إلى التنظير، ولن تعرف المحب بكثرة بكائه ولا بقوة صراخه ولا بتعدد شعاراته، إنما تعرف المحب بعمله واقتدائه واتسائه وامتثاله وتشببه بحبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].

وعلامة المحبة الامتثال لأمر المحبوب. (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:31-32].

اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على حبيبنا ونبينا ومصطفاك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم زده تشريفا، وزده تعظيما، وارفع مقامه وذكره، وأعل شأنه بين العالمين يا رب العالمين...