المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أركان الإيمان |
آيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها يعرفه العباد، وبها يعرفون أسماءه، وصفاته، وأفعاله، وتوحيده، وأمره، ونهيه؛ أخبر –سبحانه- أنه يدل بآياته الخلقية (الأفقية) من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان، (والنفسية) ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط، والهيئات العجيبة، وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة، وما هو مُتَصَرَّف فيه من الأقدار التي لا يجوزها ولا يتعداها..
الحمد لله الذي أرسل رسله ودلَّل على صدقهم بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نوَّع طرق الهداية رحمة منه بعباده ولطفًا، ومحبَّةً منه لإقامة الحجة، وعذرًا ونذرًا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ميزه بخصائص على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجًا، أفضل شرعة، وأكمل منهاج مبين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد قال الله تبارك وتعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) [فُصّلَت:53].
عباد الله: آيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها يعرفه العباد، وبها يعرفون أسماءه، وصفاته، وأفعاله، وتوحيده، وأمره، ونهيه؛ أخبر –سبحانه- أنه يدل بآياته الخلقية (الأفقية) من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان، (والنفسية) ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط، والهيئات العجيبة، وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة، وما هو مُتَصَرَّف فيه من الأقدار التي لا يجوزها ولا يتعداها، يدل بهذه الآيات على صدق آياته القرآنية، وصدق رسوله.
ثم ذكر أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته –سبحانه- على كل شيء، شهد لرسوله بقوله الذي أظهر البراهين على صدقه فيه، وبفعله، وإقراره، وبما فطر عليه عباده من الإقرار له بكماله –سبحانه-؛ وفي كل وقت يُحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة، ويزيل به العذر، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العزِّ، والنجاة، والظفر، والتأييد، ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي، والنكال، والعقوبات المعجَّلة.
وقال تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقِعَة:80]. لقد استدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله، وصحة ما جاء به، وهذا أقوى من الاستدلال بالمعجزات، وخوارق العادات.
وكذلك فإن آيات الأنبياء قبله، وبراهينهم، وأدلتهم، شهادة من الله –سبحانه- لهم، بيَّنها لعباده غاية البيان، وأظهرها لهم غاية الإظهار بقوله وفعله، ففي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة".
وهذه الآيات التي تسمى (المعجزات) مأخوذة من طُرقِ الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضه الخبر لمن غاب عنها.
فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في قبول ما دعا إليه النبي، فانقلاب عصا تُقِلُّها اليد ثعبانًا عظيمًا يبتلع ما بحضرته من حبال وعصيٍّ لا يحصيها إلا الله، ثم تعود عصا كما كانت، من أدل الدلائل على وجود الله، وحياته، وقدرته، وإرادته، وعلمه بالكليات والجزئيات؛ وعلى رسالة الرسول، وعلى المبدأ والمعاد، فكل قواعد الدين في هذه العصا.
وكذلك اليد التي أدخلها صاحب هذه العصا إلى جيبه ثم أخرجها فإذا لها شعاع كشعاع الشمس. وكذلك الكثيب العظيم الذي ضربه بعصاه فاستحال قُمَّلاً سُلِّط على أهل بلد عظيم. وفلْق بحر من بحار العالم لعسكر عظيم اثنا عشر طريقًا، ثم أرسلت عليه الريح فأيبسته في ساعة، وقام الماء بين تلك الطرق كالحيطان، فلما جاوزه وسلكه آخرون ضربه بعصاه؛ فالتأم عليهم، فلم يفلت منهم إنسان. ونتْق الجبل من موضعه ورفعه على قدر العسكر العظيم فوق رءوسهم بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه عيانًا، وقيل لهم: إن لم تقبلوا ما أُمِرتم به أطبق عليكم، ثُم رُدَّ إلى مكانه. وضرْب حجر مربع يحمل مع قوم فينفجر منه اثنا عشر نهرًا، كل نهر لطائفة عظيمة، يختصُّون بمشربه، لا يشاركهم فيه الآخرون.
وكذلك سائر آيات الأنبياء: كأمة كذَّبت نبيَّها وسألوه آية فانفلقت صخرة بمحضر منهم، وتمخضت عن ناقة قائمة، من أعظم النوق وأحسنها شكلاً وهيئة، فلما تمادوا في تكذيبه سمعوا صيحة من السماء قطعت أكبادهم وقلوبهم في أجوافهم، فماتوا ميتة رجل واحد.
وكذلك تصوير طائر من طين، ثم ينفخ فيه النبي فينقلب طائرًا ذا لحم وريش وأجنحة، يطير بمشهد من الناس؛ والمسح على عين الذي وُلد أكمهَ فإذا به يبصر بعينين كالصحيح، وعلى الأبرص فيبرأ كأن لم يكن به بأس.
وكذلك النار العظيمة التي أوقدت برهة من الزمن حتى كان الطير يمر عليها من عال فيقع مشويًا، فألقي فيها رجل مكتوف فلم تحرق منه شيئًا، وصارت عليه بردًا وسلامًا، وعادت روضة خضراء، وماءً جاريًا.
وكذلك المدائن التي قلعت من أصولها كما يقلع الشجر ثم رفعت في الهواء، ثم قلبت بمن فيها فماتوا ميتة رجل واحد.
ورجل دعا على قومه أن لا يدَع الله منهم على الأرض دَيَّارًا، فأُرسل الماءُ عليهم، وأُنبع الماء من تحتهم، حتى علا الماء فوق شواهق الجبال علوًا عظيمًا، ثم ابتلعته الأرض شيئًا فشيئًا حتى عادت يابسة.
ورجل دعا على قومه، وهم أعظم الناس أجسامًا، وأشهدهم قوة، فأرسلت عليهم بدعوته ريح عاصف جعلت تحملهم بين السماء والأرض، ثم تدق أعناقهم.
ونبيٍّ كان يأمر بعسكره فيقعد على بساط ثلاثة أميال في ثلاثة أميال، فيأمر الريح فترتفع به بين السماء والأرض، فتحمل العسكر على متنها مسيرة شهر مقبلة، ومسيرة شهر مدبرة، في يوم واحد!. ولقد أمر بسرير عظيم لملِكة، فشق الأرض، وصار بين يديه في أسرع من رَدِّ الطرف.
وكذلك إيماء الرسول إلى القمر في السماء لما سأله قومه آية، فانشقَّ فلقتين وهم يشاهدونهما، ثم عاد والتأم، وقدِم السُّفَّار فأخبروا برؤية ذلك عيانًا، وحُمِلَ من مكة إلى بيت المقدس، ثم رفع حتى جاوز السموات السبع، ثم عاد إلى فراشه في ليلته. وقبض قبضة من تراب ثم رمى بها في وجوه عسكر لا يلتقي طرفاه، فلم يبق منهم أحد إلا ملئت علينه.
وكذلك وضْعه يدَه في ماء فتفجَّر الماء من بين أصابعه، وصار كأمثال العيون، حتى رويَ منه عسكر عظيم جَرَّار، وملؤوا منه كل قِربةٍ وكلَّ إناء معهم. وأن جماعة شبعت من بُرْمَةٍ بقَدْر جسم القطا. وأن جِذْعًا حنَّ حنين الناقة العشار إلى ولدها. وأن الحصا كان يسبِّح في كفه وكف أصحابه تسبيحًا يسمعه الحاضرون. وأن الحجر كان يسلم عليه سلامًا يسمعه بأذنه. وأن بطنه شق من ثُغْرَةِ نَحْرِه إلى أسفله، ثم استخرج قلبه فغُسل، ثم أعيد وهو حي ينظر. وأن شجرتين دعاهما فأقبلتا تجران الأرض حتى قامتا بين يديه فالتزقتاه، ثم رجعت كل واحدة منهما إلى مكانها.
وما إلى أمثال ذلك من المعجزات التي هي من أعظم الأدلة على الخالق سبحانه، وصفاته، وأفعاله، وصدق رسله، واليوم الآخر.
هذا، وإن القرآن وحده، لمن جعل الله له نورًا، أعظم آية ودليل وبرهان على هذه المطالب، قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العَنكبوت:51]، ففي القرآن الكريم الحجة والدلالة على أنه من الله، وعلى أن الله -سبحانه- أرسل به رسوله، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرُّهم، وأكملهم علمًا وعملاً ومعرفة؛ وفيه ما يوجب لمن اتبعه السعادة، والنجاة من العذاب. فاتقوا الله، واعتبروا يا أولي الألباب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:23- 25].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، قيوم السموات والأرضين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص، وعن كل شبيه أو مثيل في كماله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفَّق من شاء من عباده نعمة منه وفضلا، وخذل من أعرض عنه حكمة وعدلا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى، المصدق بالآيات التي لا تحصى، صلى الله عليه وعلى آله وجميع أصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فإن الله -جل وعلا- نَوَّع طرق الهداية، رحمة منه بعباده، ولطفًا بهم، لتفاوت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم، فمنهم من يهتدي بنفس ما جاء به الرسول ودعا إليه من غير أن يَطْلُبَ منه برهانًا، كحال الكُمّل من الصحابة، كالصِّدِّيق -رضي الله عنه-.
ومنهم من يهتدي بمعرفته بحاله -صلى الله عليه وسلم- وما فطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأن عادة الله أن لا يخزي من قامت به تلك الأوصاف والأفعال، كما قالت أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- له -صلى الله عليه وسلم-: أبْشر! فوالله لن يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وهذه المقامات في الإيمان عجِز عنها أكثر الخلق فاحتاجوا إلى الآيات وخوارق العادات.
وأضعف الناس إيمانًا من كان إيمانه صادرًا عن المظهر، ورؤية غلَبته -صلى الله عليه وسلم- للناس على صحة الرسالة؛ وأضعف من هؤلاء إيمانًا من إيمانه إيمان العادة والمربأ والمنشأ، إذ إنه نشأ بين أبوين مسلمين، وأقارب وجيران وأصحاب كذلك.
إن الله –سبحانه- قد فاوت بين البشر، فبعضهم أفضل من الملائكة، وبعضهم لا يرضى به الشيطان وليًا.
فاسألوا الله -عباد الله- أن يقوِّي إيمانكم بربكم، وتصديقكم برسله؛ فالإيمان بالرسول هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفَال:24].