العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - أركان الإيمان |
(قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة: 100]، لقد عدَّ العلماء -رحمهم الله- هذه الآية الكريمة من سورة المائدة قاعدةً جامعةً في أحكام الشريعة، وأصلًا عظيمًا في باب الأدب، وتهذيب النفوس، وأطرها على الحق، ومباعدتها عن الباطل؛ لأن ربنا -جل في علاه- لا يستوي عنده الطيب والخبيث، وهذا يتناول...
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ: 1-2].
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ البلاغ المبين، ونصح العباد ببيان الدين، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه جل في علاه في الغيب والشهادة، والسر والعلانية؛ مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: إن الواجب على عبد الله المؤمن أن يكون في هذه الحياة ناصحًا لنفسه مجاهدًا لها على لزوم الطيبات من الأقوال والأعمال والصفات، وأن ينأى بها عن كل خبيثٍ رديءٍ سيء؛ لأن في الصالحات فلاحه، وفي الخبيثات هلاكه، ولا يستوي هذا وهذا عند الله، يقول الله -تبارك وتعالى-: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100].
ولقد عدَّ العلماء -رحمهم الله- هذه الآية الكريمة من سورة المائدة قاعدةً جامعةً في أحكام الشريعة، وأصلًا عظيمًا في باب الأدب، وتهذيب النفوس، وأطرها على الحق، ومباعدتها عن الباطل؛ لأن ربنا -جل في علاه- لا يستوي عنده الطيب والخبيث، وهذا يتناول الأشخاص والعقائد والأقوال والأعمال والصفات؛ فكل ذلك لا يستوي فيه عند الله الطيب والخبيث؛ فلا يستوي عنده الطيب من الأشخاص والخبيث، ولا يستوي عنده الطيب من العقائد والخبيث، ولا يستوي عنده الطيب من الأقوال والخبيث، ولا يستوي عنده الطيب من الأعمال والخبيث، ولا يستوي عنده الطيب من المال والخبيث، فكل ذلك لا يستوي عند الله -عز وجل-، بل بينهما فُرقانٌ كبير وبونٌ شاسع.
ويجب على المسلم أن يعي هذا الأمر جيدا ليكون طيبًا في قلبه ولسانه وعمله وجميع شئونه؛ ليفوز بالفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال جل في علاه في تمام هذه الآية: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اتقوا الله ربكم بمجانبة الخبائث، والبُعد عنها، وإيثار الطيبات ولزومها، فإن في ذلك فلاحكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة.
وتأمل -أيها المؤمن رعاك الله وحفظك ووقاك- قول ربك -جلَّ في علاه- في هذه الآية الكريمة: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي انتبه وكُن على حذرٍ تام من الخبائث بكافة صورها وجميع صفاتها وأشكالها، فلا تغتر بشيء منها وإن كثُرت في الناس وتعدَّدت أو كثُر الفاعلون لها وتعدَّدوا، فإياك أن تغتر ولو أعجبك -أيها الإنسان- كثرة الخبيث، فالخبيث لا يُغني صاحبه شيئا ولا ينفعه في دنياه ولا أخراه، بل يضره مضرةً عظيمة.
عباد الله: وإن من الآفات العظيمة التي أهلكت كثيرًا من الناس في قديم الزمان وحديثه: الاغترار بالكثرة؛ فكم وكم هلك أناس بسببها، فتجد كثيرا من الناس يحاكي الآخرين في أعمالهم وأفعالهم وصفاتهم لا لشيءٍ إلا لأنَّ ذلك الأمر هو الأكثر الغالب؛ وهذه مهلكة عظيمة أهلكت كثيرًا من الناس، ولهذا جاء في الأثر عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رَضي الله عنه- قال: "لَا يَكُونُ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً" قَالُوا: وَمَا الْإِمَّعَةُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: "يَقُولُ إِنَّمَا أَنَا مَعَ النَّاسِ؛ إِنِ اهْتَدَوُا اهْتَدَيْتُ، وَإِنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ".
فهذه حال كثير من الناس يجاري الآخرين، ولهذا ترى كثيرًا من الأعمال السيئة والصفات الرديئة تجري في الناس وتسري فيهم بسبب هذه الآفة، ولهذا يجب على المرء أن يزمَّ نفسه بزمام الشرع، وأن يكون ناصحًا لنفسه، متقيًا لربه -جل في علاه-، وأن يكون حذِرًا أشد الحذر من أن يجاري الناس في أعمالهم وصفاتهم التي لا توافق شرع الله -جل في علاه-.
وفي هذا الباب -أيها المؤمنون- يقول الإمام الناصح العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في نصيحةٍ له بليغة جامعةٍ نافعة؛ يقول رحمه الله -تعالى-: "وليحذر كل مسلم أن يغتر بالأكثرين، ويقول: إن الناس قد ساروا إلى كذا واعتادوا كذا فأنا معهم؛ فإن هذه مصيبة عظيمة قد هلك بها أكثر الماضين، ولكن -أيها العاقل- عليك بالنظر لنفسك ومحاسبتها والتمسك بالحق وإن تركه الناس، والحذر مما نهى الله عنه وإن فعله الناس، فالحق أحق بالاتباع؛ كما قال الله -تعالى-: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116]، وقال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103].
وقال بعض السلف -رحمهم الله-: "لا تزهد في الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين" [انتهى كلامه رحمه الله].
نسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا وإياكم أجمعين، وأن يصلح أحوالنا أجمعين، وأن يعيذنا من سبيل الهالكين، وأن يوفقنا لسلوك سبيل الحق والهدى واتباعها ولزومها؛ فإن التوفيق بيده وحده لا شريك له.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-.
أيها المؤمنون: إن المؤمن الصادق في إيمانه طيِّبٌ كله؛ قلبُه ولسانُه وجوارحُه، قلبه بما سكن واستقر فيه من الإيمان، ولسانه بما اشتغل فيه من ذكر الله، وجوارحه باستقامتها على الأعمال الصالحة والطاعات الزاكية المقربة إلى الله -جل في علاه-.
فالمؤمن طيبٌ كله، ولهذا قال الله -جل في علاه-: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ) [النحل: 32]؛ وصفهم بهذه الصفة، وعندما تُقبض روح المؤمن تقول ملائكة الله كما جاء في الحديث عند قبضها لروحه: "اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ"، ويوم القيامة يوم يدخل المؤمنون الجنة تتلقاهم الملائكة بذكر هذا الوصف العظيم: (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73].
ولهذا يجب على عبد الله المؤمن أن يتق الله -جل وعلا-، وأن يحافظ على الطيب في كل أعماله، فإن الله -جل وعلا- طيب لا يقبل إلا الطيب؛ فليجاهد الناصح لنفسه نفسَه على ملازمة الطيب، والبُعد عن الخبائث بكافة صورها، والله وحده المعين الموفِّق لا شريك له.
نسأله عز وجل أن يستعملنا أجمعين في الطيبات من الأقوال والأعمال والعقائد، وأن يعيذنا أجمعين من خبيثها وسيئها ورديئها بمنِّه وكرمه.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
وقال صَلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صَلى الله عليه وسلم-.
اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم يا ربنا كُن لهم ناصرًا ومُعينا، وحافظًا ومؤيدا، اللهم أيِّدهم بتأييدك، واحفظهم بحفظك يا رب العالمين.
اللهم وعليك بأعداء الدِّين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك، وسدِّده ونائبيه في أقوالهم وأعمالهم يا رب العالمين، اللهم ولِّ على المسلمين أينما كانوا خيارهم واصرف عنهم يا ربنا شرارهم.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقَّه وجُلَّه، أوَّله وآخره، علانيته وسرَّه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].