المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إذا اشتدَّ الحرُّ فاسأَل اللهَ أن يَقِيَكَ حرَّ جهنَّم، وإذا كان اليوم بينَك وبينَ الشمسِ هذه المسافات العظيمة ومع هذا لا تُطيقُ حرَّها، فكيف إذا دنَت الشمسُ مِن الرُّؤوسِ يوم القيامة؟! وإذا بلغَ العرقُ مِنك مبلَغَه، فكيف إذا عرِقَ الجَبِينُ مِن سَكَرَات الموت؟! وكيف إذا غرِقَ الناسُ في عرَقِهم يوم القيامة كلٌّ حسَبَ عملِه، أين سيبلُغُ مِنك العرَقُ؟! أإلَى كعبَيك .. أم إلى رُكبتَيك .. أم إلى حِقْوَيك .. أم سيُلجِمُك العرَقُ إلجامًا؟!
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله خلقَ الخلقَ على غيرِ مِثالٍ سابِق، لا إله إلا هو يُصرِّفُ الأقدارَ كما يشاءُ تجلَّى الخالِق، أحمدُه - سبحانه - وأشكُرُه مُعتَرِفًا، وبآلائِهِ مُعلِنًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له مُؤمِنًا به ومُوقِنًا، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بعَثَه ربُّه مِن أنفُسِنا بعثَه بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا، وللشرعِ مُبِينًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلهِ الطيبين الطاهِرين الأعلام، وأصحابِه الغُرِّ الميامِين الكِرام، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم القِيَام.
أما بعد: فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسِي بتقوَى الله، فاتَّقُوا اللهَ - رحِمَكم الله -؛ فمُظلِمُ القلبِ مَن عرفَ ربَّه فعصاه، والمحرُومُ مَن عقَّ أمَّه وأباهُ.
أثقَلُ الأحمال الذنُوب، وألَذُّ الطيباتِ العافِية، القلبُ يَلِينُ بذِكرِ الله، ويحيَا بتدبُّرِ كتابِ الله، ويسعَدُ بصُحبةِ الأخيار، ويشقَى بمُرافقةِ الأشرار، ومَن اشتغَلَ بعيُوبِ الناسِ تعذَّرَ عليه تركُ عيوبِ نفسِه، (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 18، 19].
أيها المسلمون: الدنيا مِرآةُ الآخرة وضَرَّتُها؛ فكلُّ ما في الدنيا مِن سعادةٍ ولذَّةٍ ونعيمٍ يُذكِّرُ بنعيمِ الجنَّة، ولذِيذِ عيشِها. وما في الدنيا مِن ألَمٍ وشقاءٍ وبُؤسٍ يُذكِّرُ بعذابِ النار، وسُوءِ مَصِيرِ أهلِها - عِياذًا بالله مِن ذلك -.
ولقد كان مِن سُننِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: تذكِيرُ أصحابِه بمَا يرَونَه مِن أحداثِ الدنيا بأحداثِ الآخرة.
ففي "الصحيحين" مِن حديث أبي هُريرة -رضي الله عنه-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «نارُكم هذه التي يُوقِدُ بنُو آدم جُزءٌ مِن سبعِين جُزءًا مِن جهنَّم»، قالوا: واللهِ إن كانَت لكافِيَة! قال: «إنها فُضِّلَت عليها بتِسعةٍ وتِسعِين جُزءًا كلُّها مِثلُ حرِّها».
بل لقد أخبَرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن النارَ اشتَكَت إلى ربِّها فقالت: «يا ربِّ! أكَلَ بعضِي بعضًا، فأذِنَ لها بنفَسَين: نفَسٍ في الشتاءِ، ونفَسٍ في الصَّيفِ؛ فهو أشدّث ما تجِدُون مِن الحرِّ، وأشدّث ما تجِدُون مِن الزَّمهَرِير» (متفق عليه، واللفظُ لمُسلم).
ولقد قال الله - عزَّ وجل - في نارِكم هذه التي عليها تُوقِدُون: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة: 73].
بل إن حرارةَ الحُمَّى مِن أعظَم المُذكِّرات؛ ففي الحديثِ: «الحُمَّى كِيرٌ مِن جهنَّم، فنَحُّوها عنكُم بالماءِ البارِدِ».
وفي بعضِ الرِّواياتِ: «هي حظُّ المُؤمنِ مِن النَّار».
ولقد قال بعضُ أهل العلمِ: "ينبَغِي للمُؤمنِ إذا أصَابَتْه الحُمَّى أن يحتَسِبَ ذلك كفَّارةً عند اللهِ - عزَّ وجل -، وتطهِيرًا وتَمحِيصًا".
ويقولُ الحسنُ - رحمه الله -: "كانُوا يتفكَّرُون في تقلُّباتِ الزمانِ، ويعتَبِرُون باختِلافاتِ الدَّهر، فيُحدِثُ لهم ذلك عِبادةً وتقرُّبًا، فلا يرَون شيئًا مِن الدُّنيا إلا وتذكَّرُوا به ما وعَدَ الله مِن جنَّةِ الآخرة".
معاشِرَ المسلمين: وأنتُم تعِيشُون هذه الأيام أيامَ الصَّيف، وتتَّقُونَه بما تستَطِيعُون .. تذكَّرُوا، واعتَبِرُوا، وبالعملِ الصالِحِ بادِرُوا.
يقولُ أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "صُومُوا يومًا شديدًا حرُّه لحَرِّ يومِ النُّشُور، وصَلُّوا ركعتَين في ظُلمةِ الليل لظُلمةِ القُبُور".
ولسَوفَ يذهَبُ الظَّمَا، وتبتَلُّ العُرُوق، ويثبُتُ الأجرُ - إن شاءَ الله -.
ورحِمَ الله السلَف؛ فلقد كانُوا يتأسَّفُون على ظمَأ الهواجِر، ويقولُون: "نصُومُ في الحرِّ ليومٍ أشدَّ حرًّا".
ومِن عجائِبِ فَهمِهم في صِيامِ يوم الحَرِّ قولُهم: "إن السِّعرَ إذا رخُصَ اشتَراهُ كلُّ أحد"؛ يُريدُون: أن الصيامَ في الأيام المُعتَدِلة والبارِدَة ميسُورٌ لكلِّ أحَدٍ، أما صِيامُ يوم الحَرِّ فيحتاجُ إلى مُعاناةٍ ومُصابَرَة، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
ناهِيكُم - عباد الله - بمَن يرَى في الحَرِّ غنِيمةً لا تَفُوت!
فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيتُنا مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في بعضِ أسفَارِه في اليوم الحرِّ الشديدِ، وإن الرجُلَ ليضَعُ يدَهُ على رأسِهِ مِن شدَّة الحرِّ، وما في القَومِ صائِمٌ إلا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وعبدَ الله بنَ رواحَة" (رواه ابنُ ماجه بسندٍ صحيحٍ).
والمَشيُ إلى المساجِدِ أفضلُ مِن الرُّكوبِ ولو في شِدَّة الحَرِّ.
يقولُ أُبَيُّ بن كعبٍ -رضي الله عنه-: كان رجُلٌ لا أعلَمُ رجُلًا أبعَدَ مِن المسجدِ مِنه، وكان لا تُخطِئُه صلاةٌ، فقِيلَ له - أو قُلتُ له -: لو اشتَرَيتَ حِمارًا تركَبُه في الظَّلمَاء وفي الرَّمضاء؟ فقال: ما يسُرُّني أن منزِلِي إلى جنبِ المسجِدِ، إنِّي أُريدُ أن يُكتَبَ لي مَمشايَ إلى المسجِدِ ورُجوعِي إذا رجَعتُ إليهم، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «قد جمَعَ الله لك ذلك كلَّه» (رواه مسلم).
والله لا يُتعبَّدُ بالمشاقِّ، ولكن إذا كانت المشقَّة في طريقِ العبادة، فإنه يُثابُ عليها، والأجرُ على قَدرِ النَّصَب.
يا عبدَ الله: إذا اشتدَّ الحرُّ فاسأَل اللهَ أن يَقِيَكَ حرَّ جهنَّم، وإذا كان اليوم بينَك وبينَ الشمسِ هذه المسافات العظيمة ومع هذا لا تُطيقُ حرَّها، فكيف إذا دنَت الشمسُ مِن الرُّؤوسِ يوم القيامة؟! وإذا بلغَ العرقُ مِنك مبلَغَه، فكيف إذا عرِقَ الجَبِينُ مِن سَكَرَات الموت؟! وكيف إذا غرِقَ الناسُ في عرَقِهم يوم القيامة كلٌّ حسَبَ عملِه، أين سيبلُغُ مِنك العرَقُ؟! أإلَى كعبَيك .. أم إلى رُكبتَيك .. أم إلى حِقْوَيك .. أم سيُلجِمُك العرَقُ إلجامًا؟!
وإذا اتَّقَيتَ لَفحَ الشمسِ ولَهِيبَها، ونعِمتَ بظلِّ الدُّور والقُصُور، وظلِّ الأشجار والبساتين، فتحت أيِّ ظلٍّ ستكُون يوم القِيامة؟!
جعلَنا الله وإياكُم مِن الذين يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه.
وتذكَّر السبعةَ الذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه، فلعلَّك أن تعملَ بعملِهم؛ لتنعَمَ بنعيمِهم، والمرءُ في ظلِّ صدَقَتِه يوم القيامة، والمُتحابُّون بجلالِ الله يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه.
وإذا ألهَبَ الحرُّ جَوفَك، واشتَدَّ ظمَؤُك، ثم شَرِبتَ ماءً بارِدًا، فهنِيئًا مرِيئًا، ثم سَلْ نفسَك: كيف تُسقَى يوم القيامة؟! فإن أقوامًا يرِدُون حَوضَ المُصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ويشرَبُون منه، وآخرين يُذادُون عنه ذَودًا، (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) [الإنسان: 5]، (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) [المطففين: 25].
وأهلُ النَّار يستَغِيُثون فيُغاثُون (بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 29]، (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد: 15].
وإذا تخفَّفتَ مِن ملابِسِك مِن شدَّة الحرِّ، فتذكَّر الذين (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) [الحج: 19، 20].
وإذا فتَحتَ نوافِذَ بيتِك؛ ليتجدَّد الهواء، وتنعَمَ بأجهِزة التكييف والتبريد، فاحمَد اللهَ، وتذكَّر أهلَ دارٍ (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ) [ص: 50، 51].
وتذكَّر دارًا أُخرى هي عليهم (مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) [الهمزة: 8، 9].
معاشِرَ الأحِبَّة: كَم هم المُوفَّقُون الذين يجعَلُون مِن هذه الأجواء الحارَّة بابًا عظيمًا واسِعًا للمعروفِ والإحسانِ، فيتوجَّهُون إلى ربِّهم بالدعاء الصادِقِ أن يقِيَهم وإخوانَهم حرَّ جهنَّم، وحرَّ يوم الوُقوفِ.
الصَّيفُ ولَهِيبُه يُذكِّرُهم بإخوانٍ لهم فُقراء مُتعفِّفِين، أو مُهجَّرين ومُشرَّدِين، أو لاجِئِين منكُوبِين، فرَّقَتْهم الحُروبُ، وأنهَكَتْهم النِّزاعات، مُحتاجُون لمَدِّ يدِ العَون والمُساعَدَة في هذه الأجواء الحارَّة الحارِقة، تتفقَّدُ أحوالَهم، وتقضِي حوائِجَهم، وتُعينُهم على تحمُّل ما يُعانُون بتوفيرِ أدواتِ التكييف والتبريد، أو إصلاحِها ودفع تكالِيفِها، وسَقيِ الماءِ البارِدِ، وحَفرِ الآبار؛ ففي كل كبِدٍ رَطبةٍ أجرٌ مِن الإنسانِ، والحيوان، والطير، واتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمرةٍ.
ومَن كثُرَت ذنُوبُه، فعلَيه بسَقْيِ الماء، والله كتَبَ الإحسانَ على كل شيءٍ.
الصَّيفُ يُذكِّرُ بنِعمةِ الله بالماءِ البارِدِ والهواءِ البارِدِ حيثُما تحِلُّ، وحيثُما ترحَلُ، مما يسَّر الله لأهل هذا الزمان ما يُخفِّفُ عنهم هَجِيرَ الرَّمضاء، ويُطفِئُ لَهِيبَ القَيظِ في المنازِلِ، وفي الأسواق، والمساجِدِ، والمراكِبِ، والمكاتِبِ، والمدارِسِ، وفي كل المرافِقِ. فلله الحمدُ والمنَّة.
فتأمَّلْ، واشكُرْ، واحذَر السَّرَف، والزَم الاقتِصادَ في الاستِهلاك؛ ليصِلَ الخيرُ إلى الجميع.
أيها الإخوة في الله: ومما ينبَغِي مُراعاتُه: حِفظُ الظلِّ وأماكِن الاستِظلالِ للناسِ في المرافِقِ العامَّة؛ فيحرُمُ إفسادُها بتقذيرِها وتنجِيسِها، وإلقاءِ القِمامة والقاذُورات فيها.
وفي الحديث: «اتَّقُوا اللعَّانَين»، قالوا: وما اللعَّانان يا رسولَ الله؟ قال: «الذي يتخلَّى في طريقِ الناسِ أو في ظِلِّهم» (رواه مسلم).
وشِدَّةُ الحرِّ مظِنَّةُ كثرةِ العرَقِ، فمَن يحضُرُ مجامِعَ المُسلمين ومساجِدَهم ينبَغِي أن يُزِيلَ ما يُؤذِي إخوانَه مِن الروائِحِ الكريهَةِ.
وبعدُ .. عباد الله: فالمُؤمنُ يعيشُ حياتَه في تفكُّرٍ واعتِبارٍ، وتبصُّرٍ واتِّعاظٍ؛ فيرَى آياتِ الله فيما حولَه، ويتفقَّدُ مَن حولَه في شُكرِ ربِّه، ورِضًا عن مَولاه، ورِفقٍ بإخوانِه.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل: 81].
نفَعَني اللهُ وإياكم بِالقرآنِ العظيمِ، وبهَديِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله جَزيلِ العطايَا، واسِعِ الجُود، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُهُ وهو بكلِّ لِسانٍ محمُود، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً مُبرَّأةً مِن الشكِّ والجُحُود، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحِبُ المقامِ المحمُود، والحَوضِ المورُود، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه أهلِ الكرَمِ والفضلِ والجُود، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى اليوم الموعُود.
أما بعد .. فيا أيها المُسلمون: ها هُم حُجَّاج بيتِ الله بدؤُوا بالتوافُدِ على هذه الديارِ المُقدَّسة، فحلَلتُم أهلًا، ووطِئتُم سَهلًا، وحيَّاكُم الله، وكتبَ خطواتِكم حسنات، وتقبَّل الله منَّا ومِنكم.
وفصلُ الصَّيف اللاهِب هو المُهيمِنُ هذه الأيام على المنطِقة، فحقٌّ على الجميعِ أن يجعَلُوا مِن هذه الأجواءِ الحارَّة بابًا واسِعًا للمعروفِ، والتعاوُن، والرِّفقِ. فتأمَّلُوا، واشكُرُوا، وتعاوَنُوا، وارفقُوا، وأحسِنُوا.
والمُسلِمون مِن جميعِ أنحاء الدنيا وهم يتوجَّهُون إلى هذه الديار المُقدَّسة، يتمثَّلُون وِحدتَهم الجامِعة، ويُجسِّدُون قُوّضتَهم الإيمانية، وتظهرُ فيهم قُوَّتُهم، وتتجلَّى فيهم عِزَّتُهم، ويتناسَون خِلافاتِهم، وينبِذُون عصبياتهم وصِراعاتهم ليتفرَّغُوا للعبادة، ويستغِلُّوا ثَمِينَ أوقاتِهم لتحصيلِ فضلِ الله وبركاتِ الحرمَين الشريفَين.
واعلَمُوا - حُجَّاج بيتِ الله - أن مِن ثوابِتِ هذه الدولة المُبارَكة، منذ أن استَرعاها الله على الحرمَين الشريفَين خِدمةً وعنايةً ورعايةً، وتشريفًا وتكريمًا وتكليفًا، مِن ثوابِتِها إبعادُ الحجِّ عن أي تشويشٍ على مظهَر هذه الوِحدة الإسلاميَّة التي تعِيشُونها، أو التَّعكِير على الغاياتِ السامِية التي تنشُدُونَها، والتزوُّد مِن البرِّ والتقوَى، (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28].
ومِن ثوابِتِها: أنها لا تمنَعُ أحدًا قصَدَ هذا البيتَ، مهما كان موقِفُه السياسيُّ، أو توجُّهُه المذهبيُّ، ومعاذَ الله أن تصُدَّ أحدًا قصَدَ البيتَ الحرامَ أو مسجِدَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ بل هو محلُّ الترحيبِ والإكرامِ.
ومِن ثوابِتِها: أنها لا تُزايِدُ على أداءِ المُسلمين أيًّا كانت جِنسيَّاتهم ومذاهِبُهم، مِن كل مُسلمٍ يشهَدُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ مُحمدًا رسولُ الله.
فهي مملَكةٌ استطاعَت عبرَ تاريخِها المجيدِ، وعبرَ كل المواسِمِ أن تتعامَلَ مع كافَّة الانتِماءات الإسلاميَّة، وهم جميعًا ينعَمُون برغَدِ العَيشِ، وجَليلِ الخِدمة، وجَميلِ التِّرحاب.
ولقد علِمَ حُجَّاجُ بيت الله الحرام وزُوَّارُ مسجِدِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- موقِفَ المملكَة الحازِمِ في المنعِ الصارِمِ مِن أن يُحوَّلَ الحجُّ إلى منابِرَ سياسيَّة تتصارَعُ فيها الأفكارُ، والأحزابُ، والطوائِفُ، والمذاهِبُ، وأنظِمةُ الحُكم، مما يعنِي - بلا شكٍّ - الانحِرافَ الخطيرَ عن أهدافِ الحجِّ وغاياتِه، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
ومِن ثوابِتِ هذه الدولةِ وسياستها: أن الحجَّ والديارَ المُقدَّسة ليست ميدانًا للخِلافات والعصبيَّات المذهبيَّة، فلا دعوةَ إلا لله وحدَه، ولا شِعارَ إلا شِعارُ التوحيدِ: "لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شَريكَ لك لبَّيكَ".
فلا يحِلُّ لمُؤمنٍ يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر أن يُؤذِيَ مُسلمًا، أو يُروِّعَ آمِنًا؛ فهو في حرَمِ الله المُحاطِ بالهَيبَةِ والتعظيمِ الذي لا يُسفَكُ فيه دمٌ، ولا يُنفَّرُ فيه صَيدٌ، ولا يُعضَدُ فيه شجَرٌ، وكَن دخلَه كان آمِنًا.
هذه البلادُ لا تسمَحُ باستِغلالِ الدينِ ومواسِمِ العبادة وتجمُّعات المُسلمين في المشاعِرِ المُقدَّسة لأغراضٍ مُسيَّسة، وصَرفِ الأنظارِ عن مُعاناةٍ يعِيشُها مَن يعِيشُها، ومُشكلاتٍ واقِعٍ فيها صاحِبُها.
فالفريضَةُ المُقدَّسةُ مُبعَدةٌ ومُنزَّهةٌ عن كل هذه الأغراض؛ فتسيِيسُ الشعائِر لن يجلِبَ خيرًا لأمَّتِنا، وأحوالُ الأمة خيرُ شاهِدٍ في ظُروفِها وخِلافاتِها.
المملَكةُ هي المُؤتمَنَةُ - بفضلِ الله - على ضيوفِ الرحمن وخِدمتهم ورِعايتهم، وهي مُلتزِمةٌ كذلك ومسؤولةٌ عن اتِّخاذِ كل التدابِيرِ الحازِمةِ والصارِمةِ للحِفاظِ على أمنِ البلاد وأمنِ الناسِ: المُواطِن، والمُقيم، والعاكِف، والبادِ، والحاجِّ، والزائِر، والمُعتمِر.
أمنُ البلاد وأمنُ المُقدَّسات لا يَسمَحُ بأيِّ عملٍ أو تصرُّفٍ يُعكِّرُ هذه الأجواءَ الإيمانيَّة، أو يضُرُّ بالمصالِحِ الخاصَّة، أو يَمَسُّ احتِرامَ مشاعِرِ المُسلمين.
إن خادِمَ الحرمَين الشريفَين وولِيَّ عهدِه وحُكومتَه ورِجالَ دولتِه وشعبَه يبذُلُون الغالِي والنَّفيسَ في خِدمةِ الحرمَين الشريفَين، وخِدمةِ قاصِدِيهما، حُجَّاجًا وعُمَّارًا وزُوَّارًا؛ قُربةً إلى الله، وشُعورًا بالمسؤوليَّة.
بُرهانُ ذلك: ما تقَرُّ به عينُ كل مُسلمٍ مِن الأعمال والخِدمات والإنجازات والتسهيلات، منذ دُخُول الحُجَّاج والمُعتمِرِين مداخِلِ البلاد ومنافِذها الجويَّة والبريَّة والبحريَّة، مما يراهُ ويُشاهِدُه ضُيُوفُ الرحمن وكلُّ قاصِدٍ لهذه الديارِ المُقدَّسة، ولسَوفَ يرَون المَزيدَ والمَزيدَ - إن شاء الله -.
ومِن ثوابِتِ هذه الدولة ومما تقرَّبُ به إلى الله: تسخِيرُ إمكاناتِها الماديَّة والبشريَّة، ورسم الخُطط والبرامِج لإعمارِ الحرمَين الشريفَين وخِدمتها، وخِدمة قاصِدِيهما، وبذلِ كلِّ السُّبُل مِن أجل راحتِهم وأمنِهم؛ فإن لدَيها - ولله الحمدُ والمِنَّة - الإمكانيات والكفاءات والقُدرات على إدارة هذه المُناسبة الإسلاميَّة العظيمة، وتقديمِ أفضلِ الخدمات وأكمَلها لضُيُوفِ الرحمن مِن غير تمييزٍ، وهي لا ترجُو مِنَّةً ولا جزاءً ولا شُكُورًا؛ بل ترجُو ثوابَ الله، ثم أداءَ مسؤوليَّتِها نحو إخوانِنا المُسلمين.
وهي تطلُبُ مِن الجميع تقديرَ ذلك، والتفرُّغَ للعبادة، واستِغلالَ أوقاتِهم أيامًا وساعاتٍ ودقائِق لينالُوا فضلَ الحرمَين الشريفَين، وبركتَها، لعلَّ الله أن يتقبَّل منهم، ويتجاوَزَ عن سيئاتِهم، ويمنَحَهم قَبُولًا إلى يومِ يلقَونَه.
ألا فاتَّقُوا اللهَ - رحِمَكم الله -، وتأمَّلُوا، واشكُرُوا، ولا تُسرِفُوا، وتفقَّدُوا إخوانَكم، وتعاوَنُوا على البرِّ والتقوَى، ولا تختَلِفُوا فتختَلِفَ قلوبُكم، ولِينُوا في أيدِي إخوانِكم.
فحرُّ الصَّيف كحَدِّ السَّيف، ومَن لم يغْلُ دِماغُه صائِفًا، لم تَغْلُ قُدورُه شاتِيًا.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على الرحمةِ المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّكُم محمدٍ رسولِ الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم في مُحكَم تنزيلِه، فقالَ - وهو الصادِقُ في قِيلِه - قَولًا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك: نبيِّنا محمدٍ الحَبيبِ المُصطَفى، والنبيِّ المُجتَبَى، وعلى آله الطيبين الطاهِرِين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الأربعةِ الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وإحسانِك وإكرامِك يا أكرَمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمُشركين، واخذُل الطغاةَ، والملاحِدَة، وسائرَ أعداءِ المِلَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمُورِنا، واجعَل اللهم ولايتَنَا فيمن خافَك واتَّقاك واتَّبَع رِضاكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا وولِيَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأَعلِ به كلمَتَك، واجعَله نُصرةً للإسلامِ والمسلمين، ووفِّقه ونائبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وتَرضَى، وخُذ بنواصِيهم للبِرِّ والتقوَى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمورِ المسلمين للعملِ بكتابِك، وبسنَّةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، واجعَلهم رحمةً لعبادِك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ والهُدَى يا ربَّ العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، واحقِن دماءَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى والسنَّةِ كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرَّخاءَ في ديارِهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتَن ما ظهَرَ منها وما بَطَن.
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطِين على الحُدود، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم، وثبِّت أقدامَهم، واربِط على قلوبِهم، وانصُرهم على مَن بغَى عليهم، اللهم أيِّدهم بتأييدِك، وانصُرهم بنصرِك، اللهم وارحَم شُهداءَهم، واشفِ جرحَاهم، واحفَظهم في أهلِهم وذُريَّاتهم، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم يا ولِيَّ المُؤمنين، ويا ناصِرَ المُستضعَفين، ويا غِياثَ المُستغِيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجِيرَ الضُّعفاء، اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعَفين مظلُومين في فلسطين، وفي بُورما، وفي إفريقيا الوُسطى، وفي ليبيا، وفي العِراق، وفي اليمَن، وفي سُوريا، قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكَربُ، واشتَدَّ عليهم الأمرُ، تعرَّضُوا للظُّلم والطُّغيان والتشريدِ والحِصار، اللهم وانصُرهم وانتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قُلوبِهم، واجمَع كلمَتَهم، اللهم مُدَّهم بمَدَدِك، وأيِّدهم بجُندِك، وانصُرهم بنصرِك.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن شايعَهم ومَن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّق، اللهم واجعَل تدميرَهم في تدبيرِهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
سُبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.