العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن الناس في هذا الزمان في أمسِّ الحاجة إلى أن تُقرِّب بينهم الأخلاق قبل المصالِح، والأموال والأفعال قبل ترادُف الأقوال. إنهم يفتقِرون إلى تعارُف القلوب وتوادِّها قبل أن يحكُمها لغةٌ أو أرضٌ أو جنسٌ أو لونٌ. إنهم -بأوضَح عبارةٍ- بحاجةٍ مُلحَّة إذا ما عطَسَ أحدُهم بالمشرق أن يُشمِّتَه أخوهُ بالمغرِب، وإذا مرِضَ فقيرُهم عادَه غنيُّهم، وإذا ظُلِم ضعيفُهم نصرَه قويُّهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الأول والآخر، والظاهر والباطن، لا إله إلا هو خالقُ كل شيءٍ وهو على كل شيءٍ وكيل، لا تُدرِكه الأبصار وهو يُدرِك الأبصار وهو اللطيفُ الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه من خلقِه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وتركَنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم: هي تقوى الله في السرِّ والعلَن، والغضب والرِّضا؛ فهي النورُ في الظُّلمة، والرِّيُ في العطش، والأُنسُ في الوحدة، والحادِي في السفر، وهي الأمانُ من الخوف والحُزن: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89]، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62، 63].
أما بعد:
فيا أيها الناس: في خِضَمِّ الحياة وصُروفِها، وتهافُت أهلِها في جمع حُطامها، ولطِّ نِثارِها هم أحوجُ ما يكونون فيها إلى التقارُب لا التباعُد، والتعاوُن لا التخاذُل، والنُّصرة لا الإسلام إلى الغَير.
إن الناس في هذا الزمان في أمسِّ الحاجة إلى أن تُقرِّب بينهم الأخلاق قبل المصالِح، والأموال والأفعال قبل ترادُف الأقوال. إنهم يفتقِرون إلى تعارُف القلوب وتوادِّها قبل أن يحكُمها لغةٌ أو أرضٌ أو جنسٌ أو لونٌ.
إنهم -بأوضَح عبارةٍ- بحاجةٍ مُلحَّة إذا ما عطَسَ أحدُهم بالمشرق أن يُشمِّتَه أخوهُ بالمغرِب، وإذا مرِضَ فقيرُهم عادَه غنيُّهم، وإذا ظُلِم ضعيفُهم نصرَه قويُّهم.
فتلكم -عباد الله- هي: "المواساة" التي ينشدُها كل أمةٍ تُدرِكُ قيمتَها، وتعضُّ بالنواجِذ على أُسِّ اجتماعها، وجعلها لُحمةً واحدةً لا تتفتَّت أبدًا.
المُواساة -عباد الله- شعورٌ عاطفيٌّ نبيلٌ يُنبِئُ عن صفاء معدِن المُتَّصِف به، وإن أي مُجتمع يتوافَرُ فيه هذا الشعور ليَحِقُّ له أن يكون جسدًا واحدًا يتناوَبُ التعاطُفُ والتوادُّ والتراحُم على رعايتِه؛ ليُصبِح في مأمنٍ من الغوائِل والأَثَرَة التي تقطعُ ذلكم الجسد إلى أشلاء شذَرَ مذَرَ.
وهذا هو ما عنَاه المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثَلُ الجسد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحُمَّى". رواه البخاري ومسلم.
إنه لا يمكن أن يتحقَّق في الأمة معنى الجسد الواحد وهي لا تعرف المُواساة، كما أنها لا يُمكن أن تبلُغ درجة الرِّفعة والتمكين والفلاح إذا كانت تفرحُ وبعضُها يبكِي بفُقدان ما فرِحَت به، وتشبَع وجارُها جائع، وتروَى وقريبُها ظمآن، وتلبَس وشريكُها في الدين عارٍ.
فقد قال الصادقُ المصدوقُ -صلوات الله وسلامه عليه-: "ليس المؤمن الذي يشبعُ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه". رواه الحاكم وغيره.
إن بَلادَة القلوب عن المُواساة محنةٌ ماحِقة يحترقُ في سعيرِها الفضائل، ويُوأَدُ في ترابها التوادُّ والتعاطُف، والخاسِرُ -دون شكٍّ- هو مجموع الأمة أفرادًا وجماعات.
فالمُجتمع المُوجَب هو من استوَى على سُوقه رُوح المُواساة، وإلا فهو مُجتمعٌ سالبٌ صِرف. ولكن ما المانعُ من توطِين النفس وقسرِها على حبِّ الفضائل والشعور العاطفيِّ تجاه الآخرين بسدِّ الخلَل، وستر الزَّلل، وقَبول العِلل، ومدِّ يد الخير لمن مدَّ للخير يدَه، وإعطاء السائل، وابتِداء العفيف الذي لا يسألُ الناسَ إلحافًا.
وبعد ذلكم كلِّه -عباد الله- فلقائلٍ أن يقول: كيف يستطيعُ المُسلم التفاعُل بشعور المُواساة وهو لا يملِكُ من المال ما يُعينُه على ذلك؟!
فالجوابُ على هذا القِيل: أنه من الغلَط الفاحِش قصرُ مفهوم المُواساة على الجانبِ الماليِّ أو القُدرة عليه فحسب؛ بل هي شعورٌ قلبيٌّ قبل أن يُترجَم إلى مالٍ، وإحساسٌ عاطفيٌّ قبل أن يمتدَّ إلى الجوارِح.
ثم إن من المُواساة ما لا يفتقِرُ إلى المال؛ فالمسحُ على رأس اليتيم لا مالَ فيه، واتباعُ الجنائز لا مالَ فيه، وعيادةُ المريض لا مالَ فيها، والتبسُّم في وجهِ أخيك المُسلم لا مالَ فيه، وتعزيةُ المُصاب لا مالَ فيها، وغير ذلكم كثير من أبواب المُواساة التي تفتقِرُ إلى القلب الحيِّ النابِض بالشعور تجاه الآخرين، المُدرِك عاقبةَ المُواساة وأنها سائقٌ ودليلٌ إلى جناتٍ ونهَر، في مقعَدِ صدقٍ عند مليكٍ مُقتدِر.
وفي الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من نفسِ ابنِ آدمَ إلا عليها صدقةٌ في كل يومٍ طلعَت فيه الشمسُ". قيل: يا رسول الله: ومن أين لنا صدقةٌ نتصدَّقُ بها؟! قال: "إن أبوابَ الخير لكثيرةٌ: التسبيحُ والتحميد، والتكبيرُ والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، وتُميطُ الأذى عن الطريق، وتُسمِعُ الأصمَّ، وتهدِي الأعمى وتُدلُّ المُستدلّ على حاجته، وتسعَى بشدَّة ساقَيك مع اللَّهفان المُستغيث، وتحمِلُ بشدَّة ذراعَيك مع الضعيف، فهذا كلُّه صدقةٌ منك على نفسِك". رواه أحمد، والنسائي، وابن حبان.
إنه لمن العجَب العُجاب -عبادَ الله- أن يكون في أمة الرحمة قُساةٌ قد طمسُوا مفهومَ المُواساة من معاجمهم، حتى ماتَت قلوبُهم، فلا يئنُّون لمُتألِّمٍ، ولا يتوجَّعون لمُستصرِخ، ولا يحْنُون على بائِسٍ. قد قسَت قلوبُهم، وغلُظَت أكبادُهم.
في حين أن الواجِب على الأمة المُسلمة ألا تُعظِّم الدنيا ودينارَها ودرهَمها، وتغفُل عن يتيمِها وذي المتربَة فيها، حتى لا تستعبِدَها معاني الانحِراف في النظرة إلى المال والحياة والعاطِفة تجاه الغير؛ لأن مثلَ ذلكم كفيلٌ في أن يكنِزَ الغنيُّ مالاً، فيكنِزَ الفقيرُ عداوةً، فلا يأخذُ القويُّ حينئذٍ بيدِ الضعيف، ولا يشُدُّ المُقتدِر من أَزرِ العاجِز، فيضيعُ الضعفاءُ المُعوِزون وسطَ الزِّحام، ثم تسحَقُهم أقدامُ القسوة والتغافُل المَقيت.
إن أمةً هذه حالُها لا يُمكن أن تغلِبَ عدوَّها؛ لأنها لم تستطِع -قبل ذلك- أن تغلِبَ هواها وشهوات نفسِها؛ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17].
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا لأصحابِه: "من أصبَح منكم اليوم صائِمًا؟!". قال أبو بكر: أنا، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن تبِع منكم اليوم جنازةً؟!". قال أبو بكر: أنا، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أطعمَ اليوم منكم مِسكينًا؟!". قال أبو بكر: أنا، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن عادَ منكم اليوم مريضًا؟!". قال أبو بكر: أنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعنَ في امرئٍ إلا دخلَ الجنةَ". رواه مسلم.
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، ولْتُبادِرُوا إلى إذكاء مفهوم المُواساة بالتوجيه، والحثِّ، والقُدوة من خلال العمل التطوُّعي والخيري فردًا وجماعةً، وعبرَ الأوقاف والوصايا والجمعيات التعاوُنية، ولتكُن الدنيا في أيدينا لا في قُلوبِنا، ولنستحضِر كلَّ حينٍ أن من منَحَنا البسمةَ قادرٌ على أن ينزِعَها منَّا، ومن وهبَنا المال قادرٌ على ألا يُبارِك لنا فيه: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين والمُسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.
وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الله خلقَ الإنسان في كبَد، وأنه كادِحٌ إلى ربِّه كدحًا فمُلاقِيه، وأن من عاشَ لم يخْلُ من المُصيبة، وقلَّ أن ينفكَّ عن عجيبة.
لذا كان خُلُق المُواساة خيرَ مُعينٍ على تلك النوائِب، وعلى كفكَفة الدموع فيها، ودفع الغُصَّة عنها؛ ليتمَّ رصُّ بُنيان المُجتمع ورقعُ فُتوقِه، وزيادةُ ظُلمته لُحمةً واتِّحادًا وتعاضُدًا.
والمرءُ في حياتِه ليس مُبرَّءًا من الشكوى؛ إذ هي من سِمات الحياة وعيشها، غيرَ أن هذه الشكوى تحتاجُ إلى صاحبِ مُروءةٍ يُواسِي ذا الشكوَى، أو يُسلِيه، أو يتوجَّعُ له.
ومع هذا كلِّه فإنك -أيها المرءُ المُبتلَى- مأمورٌ إذا عزَّ وجودُ المُواسِي أن تثِقَ بالله ربِّ العالمين؛ فهو -سبحانه- ربُّ المُواسِي، وأرحمُ الراحمين، وأنه ربما أخذَ منك لأجل أن يُعطِيَك، ومنعَكَ ليحمِيَك من ضرر ما منعَك عنه.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك فإنها رِفعةٌ في الدرجات، وتكفيرٌ للسيئات، وأن من عجزَ عن مُواساتِك بمالِه فلن يبخَل عليك بلِسانِه فيُسلِيكَ بلفظِه، أو يتوجَّعُ لك بقلبِه، فتشعرُ أنك لستَ في الهمِّ وحدك، وأن هناك من يبكِي لبُكائِك ويحزَنُ لحُزنِك.
ومتى أوحشَك خُلُوُّ الواقِع من المُعين؛ فإن للصبر عواقِب أحلَى من الشَّهد المُكرَّر: و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
فقد كان ناسٌ من الأنصار سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفَدَ ما عنده، فقال: "ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِف يُعِفَّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر". رواه أحمد.
هذا، وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكَته المُسبِّحةِ بقُدسِه، وأيَّه بكم -أيها المُؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك صاحبِ الوجه الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.