العربية
المؤلف | عبد الله الجار الله آل جارالله |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
إن كسوف الشمس والقمر ليس مشهدًا طبيعيًّا مجرَّدًا خاليًا عن المعاني والمضامين، بل هو مشهد عظيم مروِّع، ترتعد له قلوب المؤمنين، وتنزعج منه أفئدة المتقين، إنه مشهد يذكِّر العبد المؤمن بيوم القيامة الذي قال الله فيه، ولذلك؛ لما كَسَفت الشمس في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فَزِعًا يجرُّ رداءه، أفيسوغ بعد هذا –أيها المؤمنون- أن يقول قائل يؤمن بالله واليوم الآخِر: إن الكسوف أمرٌ طبيعي وحدَث عادي، كشروق الشمس وغروبها، لا يُوجِب قلقًا ولا فزعًا؟!
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]؛ أحمده -جلَّ شأنه- خلَق الليل والنهار والشمس والقمر، وكلٌّ في فلك يسبحون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
أما بعد: عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلَن والغيب والشهادة، فما استُمطِرت الرحمات ولا استُجلِبت النفحات ولا استُدفِعت المصائب والبليَّات، بمثل تقوى الله ربِّ البريَّات، فاتَّقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون؛ (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر: 61].
عباد الله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54].
خلق الله سبع سماوات طباقًا، وجعل القمر فيهن نورًا وجعل الشمس سراجًا، فالشمس والقمر والليل والنهار آيات عظيمة باهرة، دالَّة على ربٍّ عظيم، وإلهٍ قوي قدير عليم؛ (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 61- 62].
أيها الناس: إن من آيات الله الباهرة في الشمس والقمر ما يُجرِيه الله عليهما من الخسوف والكسوف: وهو ذهاب ضوئهما واضمحلال سلطانهما، وزوال جمالهما وبهائهما:
فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَقْدِرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ | وَمَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ |
عباد الله: إن انكساف الشمس والقمر وخسوفهما يدلاَّن على قدرة الله النافذة وحكمته البالغة، وقد أشار النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى حكمة هذه الآية العظيمة؛ ففي الصحيحين: أن الشمس كُسِفت على عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فخرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى المسجد فَزِعًا فصلى بأصحابه صلاة الكسوف، ثم خطب خطبة بليغة كان منها أن قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة"، وقال أيضًا: "ولكنهما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده".
فالحكمة الكبرى من الكسوف -عباد الله- تخويف العباد وزجرهم عن السيئات وحثُّهم على الطاعات، فالله -تعالى، يا عباد الله- يخوِّفكم بهذه الآية الظاهرة التي يدركها الصغير والكبير، والحاضر والبادي، والعالم والجاهل، ينذركم بهذا الاختلال في نظام الكون حصولَ الكوارث والمصائب ونزولَ النكبات والعقوبات؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].
ولذلك وجَّه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أمته عند ظهور علامات التخويف إلى ما تستدفع به الشرور والنكبات، ويحصل به الأمن من العقوبات، فأمر بالفزع إلى الأعمال الصالحات، من الدعاء والذكر، والصلاة والعتاق، والصدقة والتوبة؛ حتى ينكشف ما بالناس، وينجلي عنهم الكسوف والخسوف؛ (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
أيها المؤمنون: وكان مما قاله -عليه الصلاة والسلام- في خطبة الكسوف: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمَته، يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا".
وهذا يبيِّن ويشير -عبادَ الله- إلى أن من أسباب الكسوف الشرعية كثرةَ الذنوب والمعاصي، والغفلة عن الآخرة، والانهماك في الدنيا، ألاَ وإن من أعظم الأسباب التي يحصل بها كسوف الشمس وخسوف القمر كثرة الزِّنا وظهوره، وقد حذَّر الله أهل الإيمان من قربان الزِّنا فضلاً عن الوقوع فيه؛ قال - تعالى -: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاَّ) [الإسراء: 32].
أيها المؤمنون: إن كثيرًا من الناس غرَّتهم الأمانيُّ، وغرَّهم بالله الغرور، واتبعوا خطوات الشيطان؛ فتورَّطوا في المعاصي والموبقات.
عباد الله: إن الذنوب على اختلاف ألوانها من أعظم أسباب فساد الكون وخراب العالم؛ قال - تعالى -: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 56]، وقال - جل ذكره -: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، فهذه الخسوفات والكسوفات وغيرها من الآيات نُذُرٌ يخوِّف الله بها أولي الألباب.
فاعتبروا -يا عباد الله- وتوبوا إليه واستغفروه لعلكم ترحمون.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المؤمنون، أيها الناس، إن كسوف الشمس والقمر ليس مشهدًا طبيعيًّا مجرَّدًا خاليًا عن المعاني والمضامين، بل هو مشهد عظيم مروِّع، ترتعد له قلوب المؤمنين، وتنزعج منه أفئدة المتقين، إنه مشهد يذكِّر العبد المؤمن بيوم القيامة الذي قال الله فيه: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ) [القيامة: 7- 11]؛ أي: لا ملجأ من الله: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة: 12- 13].
ولذلك؛ لما كَسَفت الشمس في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فَزِعًا يجرُّ رداءه، أفيسوغ بعد هذا –أيها المؤمنون- أن يقول قائل يؤمن بالله واليوم الآخِر: إن الكسوف أمرٌ طبيعي وحدَث عادي، كشروق الشمس وغروبها، لا يُوجِب قلقًا ولا فزعًا؟!
كلاَّ والله، بل الأمر كما قال الله -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) [يوسف: 105- 107].
فلنتَّعظ -عباد الله- بما يدور من حولنا من الآيات والنُّذُر، ولنتب إلى الله، ونبادر إلى الطاعة والإحسان قبل فوات الأوان.
جعلنا الله وإياكم من المتَّعظين المعتبِرين، الذين يقفون عند آيات الله يتأمَّلون ويعتبِرون؛ فيزيدهم ذلك إيمانًا ورجوعًا إلى الله.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ردَّنا إليك ردًّا جميلاً، اللهم ردَّنا إليك ردًّا جميلاً، اللهم ردَّنا إليك ردًّا جميلاً، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين حُكَّامًا ومحكومين، يا ربَّ العالمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضاهم، وفكَّ أسرانا وأسراهم، واغفر لموتانا وموتاهم، وألِّف بين قلوبهم يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنَّا الغلاء والوباء، والزلازل والمِحَن وسوء الفِتَن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة، يا رب العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].