المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنها سلبية لا تقع من المفرّطين وعدم المبالين في فعل السنن والتزود للآخرة، وإنما من أناسٍ عُرف عنهم الخير وسعيهم في فعله وبذله، والطمع في نيل أجره، ومع ذلك يحجمون ويتخلفون ولا يقدمون على فعل تلكم السنة. أعنى أولئك الذين لا يشهدون الجنائز مع المسلمين في المقابر، حتى لو كان المتوفَّى قريباً لهم، أو عزيزاً لديهم، ليس فقط غيابهم عنها مرةً أو مرتين أو مرات، وإنما حضورهم نادرٌ جداً أولا يحضرون أبداً. فما السرُّ في ذلك؟!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، والحمد لله الذي جعل الموت راحة للمتقين الأبرار، ينقلهم من دار الهموم والغموم والبلاء والأكدار، دار الغضب والوصب والأذى والبأساء والمضار، دار الآلام وأنواع الأسقام وصنوف الأخطار، دار الحسد والكدر والنكد والخوف والجوع، دار اللهو واللعب والفخر والزينة والاغترار، ينقلهم إلى دار الرحمة والسرور والفرح والاستبشار، دار الصحة والبهجة والعز والقرار، دار الملك والخلد والبقاء وجوار المحسن العزيز الغفار، دار الأمن من جميع المخاوف في جنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وتختار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالبقاء والدوام، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، لو كان ذو قدر جليل ناج من الموت لكان رسولَ الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فقد ثبت في الصحيح من سنن أبي داود عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
الوهن: الضعف، وموجب الضعف وسببه هو حب الدنيا وكراهية الموت، وهما متلازمان ويؤديان إلى نتيجة واحدة؛ وهي إعطاء الدنية في الدين من العدو المبين.
إن التعلق بالدنيا وتقديمها على حساب الآخرة غفلةٌ وغبن، وحمقٌ وغباء، وقلة عقل، وقصور فهم. لماذا؟ لأن الآخرة خير وأبقى، فمن اختار القصير الفاني وغلَّبه غافلاً عن الطويل الباقي فقد اختار الدون، وهذا الاختيار إمَّا أنه ناتج عن سوء طوية، وكرهٍ للحق، مع خفة العقل، أو ناتج عن الجهل المطبق، واختلال المعيار الصحيح لديه؛ فلا ينظر للأمور نظرة تنفعه، وتجلب له الخير، وتنقذه من كوارث واقعةٍ لا محالة إن لم يتدارك نفسه.
أيها المسلمون: ظاهرة سلبية، أرى من الواجب عليَّ وأمثالي الوقوف عندها، ومحاولة علاجها، لا لأنها منكر عظيم بحد ذاته، وإنما لأنها تعكس واقعاً نفسياً، وخطأً شرعياً، بل ربما انحرافاً عقدياً.
إنها سلبية لا تقع من المفرّطين وعدم المبالين في فعل السنن والتزود للآخرة، وإنما من أناسٍ عُرف عنهم الخير وسعيهم في فعله وبذله، والطمع في نيل أجره، ومع ذلك يحجمون ويتخلفون ولا يقدمون على فعل تلكم السنة. أعنى أولئك الذين لا يشهدون الجنائز مع المسلمين في المقابر، حتى لو كان المتوفَّى قريباً لهم، أو عزيزاً لديهم، ليس فقط غيابهم عنها مرةً أو مرتين أو مرات، وإنما حضورهم نادرٌ جداً أولا يحضرون أبداً. فما السرُّ في ذلك؟!.
لقد حاولت معرفة السبب، ولماذا يتخلف أمثال أولئك الخيِّرين عن شهود الجنائز وهم يعلمون عظم الأجر، ولعلهم سمعوا أو قرؤوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة المتفق عليه: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين".
أيها المؤمنون: لقد حاولت معرفة السبب، وأبدا لي بعض أهل الشأن ممن استطلعت آراءهم أسباباً أجدها غير مقنعة، أو على وجه التحديد ليست جواباً للسؤال الذي طرحته عليهم، إلا سبباً واحداً، وهو أن المقصودين بالحديث؛ أعني الذين يتهربون من شهود الجنائز، الصارف لهم خشيةُ البكاء والتأثر أمام الناس، وهذا عيبٌ عندهم وفي عرفهم أن يبكي الرجل، حتى إن أحدهم وقد توفي له ولد وكان الناس يعزونه في المقبرة بعد دفن ولده يتصنع الضحك طرداً وإبعاداً لعاطفة الأبوة التي قد تغلبه فتبكيه أمام الرجال، فيقع في المحذور في عرفهم، علماً بأن الرجل معروف بالصلاح والخير، ولكن؛ هكذا تغلب الأعراف والتقاليد وتزاحم الشرع لتبرهن وتؤكد جهل صاحبها.
لقد بكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أصدق الناس رجولة، وأكملهم مروءة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميّت، وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان" رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: دخلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي أسيف القين (أي الحَّداد) وكان ظئراً لإبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والظئر زوج المرضعة- فأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله؟ فقال: "يا بن عوف، إنها رحمة"، ثم أتبعها بأخرى، فقال: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" متفق عليه.
وبكى الخليفة الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أقبل أبو بكر -رضي الله عنه- على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، وعمر يكلم الناس، فلم يكلم أبو بكر الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى ببردة حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه، فقبله بين عينيه، ثم بكى فقال: "بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين! أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها"، وفي رواية: "لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها" رواه البخاري.
وبكى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- على أبيه يوم أحد، قال -رضي الله عنه-: "لما أصيب أبي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه" متفق عليه.
معاشر المؤمنين: ليس البكاء على الميت أمام الناس قاصراً على شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فلم يبك غيره. كما لم يقتصر فقط على أفراد من الصحابة، وإنما وقع بصورة أشبه ما تكون بالجماعية، وإليكم الدليل مما رواه البخاري: فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله -أي: الذين يخدمونه- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "قد مضى؟"، يعني: هل مات؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى القوم بكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بكوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم -وأشار إلى لسانه- وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" يعني النوح والندب بما ليس فيه، وأما دمع العين والبكاء الطبيعي الذي لا يكون فيه نوح ولا تكلف فهذا محمود.
وأثنى الله -تعالى- على الذين يبكون إذا كان الدافع لذلك خشية الرحمن، والخوف منه -سبحانه-، والإشفاق من عذابه، والتأثر بآياته، إذ يقول -سبحانه- في محكم التنزيل: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 107-109]. قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: حُقّ لكل من توسم بالعلم، وحصَّل منه شيئاً، أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن، ويتواضع، ويذل. وقال التيمي: من أوتي من العلم ما لم يُبكِّه لخليق ألا يكون أوتي علماً؛ لأن الله -تعالى- نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية.
ومفهوم المخالفة أن عدم التأثر وعدم البكاء من علامات الجهل، لأن البكاء من خشية الله -تعالى- يورث الخير، وصاحبه موعود بالأجر العظيم والثواب الجزيل، وقد صح نقلاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" رواهما الترمذي وصححهما الألباني.
والحاصل -معشر الفضلاء- أن البكاء على الميت أمام الناس جرى من خير الرجال وأكملهم؛ من محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ثم من صحابته، والتابعين ومن بعدهم.
وأما البكاء خشية من الله، وخوفاً من عذابه وسخطه، وطمعاً في مرضاته وثوابه، وتعظيماً وتدبراً لآياته؛ إنما هو من صفات المؤمنين العارفين بالله، الذين يقدرونه حقَّ قدره، فليتنبه إلى ذلك.
نفعنا الله بهدي كتابه، وسنة نبيه، ومسلك أصحابه، ووقانا وعافانا من كل ما يعبد عنها...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88], أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن الأعمال المتعلقة بتجهيز الجنازة من غسل وتكفين وصلاة ودفن كلها فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقط الفرض عن الباقين.
ويستحب للمسلم أن يحرص على صلاة الجنازة، والمشي معها للمقبرة، والانتظار حتى الدفن، إلا أن التكلفَ في ذلك، وتركَ واجبٍ من أجل الصلاة على الميت؛ كمن يترك مثلاً التدريس في حلقة القرآن، أو يترك عملاً يتعلق بوالديه الكبيرين، أو يخلف موعداً مع شخص آخر يتعارض مع شهود الجنازة، ونحو ذلك، فهذا تشدد في غير محله؛ فكما يكره للمسلم إهمال السنن، فلا يجوز له أن ينقل الحكم التكليفي من السنة إلى الواجب، والمعنى الذي وقفت عنده في الخطبة الأولى وبينته إنما هو في حق من يتعمد ترك حضور الجنائز، فلا يحضرها إلا نادراً، أو أقل من النادر، ولو لم يمنعه مانع، فلا إفراط ولا تفريط، والتوسط والاعتدال مطلوب، وهو من أبرز مميزات هذا الدين، وأظهر محاسنه.
فالمسارعة إلى الخيرات، والإكثارُ من النوافل أمرٌ مرغَّب فيه، لكن لا تنكر -أيها المسلم- على من غاب عن حضور جنازةٍ؛ لأنك لا تعرف ظروف الناس، وقد وجد في المدينة زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من يموت من الصحابة ولم يصل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي الصحيحين، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: مات رجلٌ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فدفنوه بالليل، فلما أصبح أعلموه، أي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما منعكم أن تعلموني؟"، قالوا: كان الليل، وكانت الظلمة، فكرهنا أن نشقَّ عليك. فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قبره، فصلى عليه. فلم يعنف عليهم، ولم يشدد بأن قال مثلاً: أخبروني عن كل حالة وفاة تقع في المدينة لأصلى عليها، وأشهد دفنها، لم يقل ذلك ولا شيئاً منه، ففهم إذاً أن التشدد في حضور الجنائز ليس من الشرع.
وفي الصحيحين أيضاً أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد، فماتت، ففقدها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسأل عنها بعد أيام، فقيل له: ماتت. فقال: "هلّا كنتم آذنتموني؟"، قالوا: ماتت من الليل ودفنت، وكرهنا أن نوقظك. قال: فكأنهم صغَّروا أمرها. فقال: "دلوني على قبرها"، فَدَلّوه. فأتى قبرها فصلى عليها.
ومن المعلوم أن الصحابة أعلم الناس بدين الله -تعالى- بعد رسوله، فلو علموا أن نشر خبر الوفاة والمبالغة فيه سنة لسارعوا إليه؛ لأنهم أيضاً أحرص الناس على كسب الثواب، فلما لم يفعلوا ذلك فالاقتداء بهم دين.
وقيام الرسول -صلى الله عليه وسلم-: بالذهاب إلى قبر المرأة ثم الصلاة عليها بعد الدفن بأيام -دون أن ينكر على الصحابة عدم إخبارهم إياه- فيه لفتة إنسانية إن صح التعبير؛ لأن تلك المرأة كانت ضعيفة، وكانت تحتسب تنظيف المسجد، والرسول -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تواضعاً ورحمة بأمته، فلم يغفل، أو تمنعه أعماله الكثيرة أن يفيض على تلك المرأة الضعيفة بصلاته عليها حين لم يصل عليها حال الوفاة.
وأما ما يفعله الكثيرون الآن من إنشاء السفر الطويل من أجل الصلاة على ميت، أو تعزية أوليائه، فإن كان الأمر متيسراً فلا بأس، وإن كان شاقاً والدافع له المجاملة وخوف الملامة فقط فتركه أولى.
هذا وصلوا على البشير النذير...