المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
الحديث عن هذه الصحابية مؤثر وشيق وجميل، حديث يسر النفوس والعقول، فلو ذكرنا الزوجات الوفيات كانت من أولات السبق، وإن تحدثنا عن السبق إلى الإيمان كانت من الأوائل، وإذا تحدثنا عن أهل العبادة والطاعة لله -عز وجل- وجدناها عابدة قانتة، وإذا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سخر لدينه رجالا قام بهم وبه قاموا، واعتزَّ بدعوتهم وجهادهم وبه اعتزوا، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، كان يربي ويعلّم ويدعو، ويصوم ويقوم ويغزو، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين والصالحات: اعلموا أننا في زمن كثرت فيه الفتن، واختلطت فيه المعالم، وإن من أكبر الحصون لبناتنا وأخواتنا وزوجاتنا لمواجهة ذلك بعد تقوى الله: التربية الإيمانية الحقة، التربية على منهج القرآن والسنة.
وإن من أكبر ما يعين على ذلك: أن نقص عليهن سيرَ وقصص من امتدحهم الله في كتابه، ونبيُّه -صلى الله عليه وسلم- في أقواله، ولهذا نجد أن العهد النبوي قد حفل بنماذج مُشرقةٍ لنساءٍ كن بمثابة بذْرات أُلقيت في حقل الإسلام، فلما جاءت سحابة الإيمان وسكبت ماءها فى هذا الحقل، وإذا بتلكم البذْرات النقية التقية تتغذى من خلال النبعين الصافيين، من كتابِ الله وسنةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا بها تتفتح أزهارا لتنشر عطرها وعبيرها، فيملأُ الكونَ كلُّه بأريج وعبَقِ الإيمان والتوحيد.
فتعالوا بنا -معاشر أحباب الله وأحباب رسوله -صلى الله عليه وسلم- لنعيش لحظات مع سيرة عطرة لامرأة صحابية عطرت كتب السير بسيرتها المباركة.
فهي ليست من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا من أزواج كبار الصحابة، هي امرأة من أسرة عُرفت بالمكارم، وشأنها شأنُ كثيرات من النساء ممّن أحببنَ الله ورسوله، وتاقت أنفسُهن إلى ما أعده الله لهن في الدار الآخرة.
هي واحدة من الصحابيات الجليلات اللواتي يُضرب بهن المثل في التضحية والإيثار والبذل والعطاء.
هي صحابية أنصارية من القوم الذين وصفهم الله في القرآن بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة) [الحشر: 9].
ولا شك أنكم بشوق لمعرفة هذه الصحابية الفاضلة.
إنها المرأة التي خاطبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شجاعة أدبية وكأنها تتطلع إلى حق جديد تطمح أن يكون مُخبأً بين أسطُرِ الشريعة الغَراء، من فيض الحقوق التي انهالت عليها وعلى نساء عصرها من المُهاجِرات والأنصاريات، قائلة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أرى كلَّ شيء إلا للرجال وما أرى النساء يُذْكَرن في شيء؟ " فنَزَل قولُ الله -تعالى-: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [الأحزاب: 35].
ولقد وصفها الإمام أبو نُعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء" فقال: "أُمُّ عُمَارَةَ الْمُبَايِعَةُ بِالْعَقَبَةِ، الْمُحَارِبَةُ عَنِ الرِّجَالِ وَالشِّيبَةِ، كَانَتْ ذَاتَ جِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَصَوْمٍ ونُسُكٍ وَاعْتِمَاد".
وترجم لها الذهبي في "سير أعلام النبلاء "بقوله: "أُمُّ عُمَارَةَ، نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّةُ الفَاضِلَةُ".
نعم، إنها أُمُّ عُمَارَةَ، نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، نموذجٌ من النساء اللاتي شاركن وتحملن المسئوليةَ في إقامة هذا الدين العظيم.
فإليكن أيتها الأمهات والزوجات والبنات والحفيدات والأخوات، إليكن جميعاً أقدم هذا النموذج، وإليك خاصة أيتها الفتاة المسلمة، يا من تسميت باسم هذه المرأة: نسيبة، وانتسبت إلى صفوف الصالحات العابدات المجاهدات الفاضلات العفيفات، وإليك يا فتاة الإسلام، يا من اتخذت من الصحابيات مثالا لك في التضحية والإيمان والتقوى والحياء والفضيلة، مثالا تَقتدي بهن في الإيثار والصمود أمام الشهوات والمغريات.
فالحديث عن هذه الصحابية مؤثر وشيق وجميل، حديث يسر النفوس والعقول.
فلو ذكرنا الزوجات الوفيات كانت من أولات السبق.
وإن تحدثنا عن السبق إلى الإيمان كانت من الأوائل.
وإذا تحدثنا عن أهل العبادة والطاعة لله -عز وجل- وجدناها عابدة قانتة.
وإذا سألنا عن العلم والحديث النبوي وجدناها راويةً مُتقنة لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا تحدثنا عن تربية أولادها وجدناها هي منبَتُ وصانعةُ رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وإذا تحدثنا عن الميدان الجهادي فقد قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: "لمقام نسيبة بنت كعب اليومَ خَيْرٌ من مقام فلان وفلان".
فأي امرأة هذه التي حازت كل هذه الخصال العظيمة الحميدة؟
امرأةٌ امتلأ قلبها بحب الله -تعالى- وحب نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فضربت أعظمَ الأمثلة في حبِّ وخدمة الدين الحنيف، فقدمت صفوةَ الأوقات، وعظيمَ الجهد، وبذلت وضحت في سبيل ذلك الحب كلَّ ما هو غالٍ ونفيس، لتمضي رضي الله عنها قُدمًا تهَبُ طاقاتِها لذلك منذُ لحظاتها الأولى في الإسلام.
وهبت طاقاتٍ عظيمة وسخرتها من موقعها كأم في بناء جيلٍ مسلم بالتربية القويمة والتنشئة الطيبة، فكانت أنموذجا فريدا حين عكفت على تربية أولادها تُلقِّنهم وتغرس فيهم مفاهيمَ الإسلام وأُسُسَه، فأخذوا ينهلون من هذا النبع الصافي، فصاغتهم رجالا بحق ليضربوا بعد ذلك أروعَ الأمثلة في البطولة والجِهاد.
ولم تكن تلك التضحية التي ملأت على أم عُمارة فؤادَها نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام؛ بل كان مصدرُها إيمانا عميقا، ويقينا بالله ورسوله، وهو إيمانٌ ثابت لا يزول أو يتزحزح أمام أيِّ قُوة من قوى الظلم، فاستطاعت بذلك أن تُسجل من الأعمال والفضائل ما قلَّ نظيره في زماننا اليوم، وأن تُسجِّل أعظمَ البطولات التي خلد التاريخُ ذِكْرَها، وسطرها بمداد من نور، وتناقلتها الأجيالُ جيلا بعدَ جيل، إلا هذا الجيل الذي يعرف عن لاعبي فريق من كرة القدم أكثر ما يعرف عن هذه المرأة المجاهدة الصابرة ولا عن غيرها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وجاء يوم بيعة العقبة الثانية فكانت مِن أوائل مَن بايع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي واحدة من امرأتين حضرتا بيعة العقبة الثانية، حيث أَتَت مع زوجها في الثلث الأخير من الليل متيقِّظة لتلك اللحظات، مستخفية مع مَن استخفى للقاء ومبايعة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند العقَبَة.
لقد كانت رضي الله عنها تمتلك شخصيةً قوية، لكنها في الوقت ذاته شخصيةٌ تقية طاهرة عفيفة، حيث وَظَّفَت قوتها من أول يوم لخدمة الدين، واستطاعت أن تحقِّق موازنةً صعبة ومعادلة عجزت عن استيعابها محافلُ ومؤتمراتُ المرأة في العصر الحديث، فجمعت رضي الله عنها بين الحياء والقوة، وبين الإيمان والشجاعة.
فأم عُمارة رسمت من خلال هذه البيعة، وخطت منهجا جديدا لمكانة المرأة في المجتمع الإسلامي الوليد، منهجا يَحُوطه الكثير من القِيَم التي سترتقي إليها المرأةُ لتعزيز مكانتها وإعلاء شأنها.
كان شغلُها وهمُّها أن تُثبت للمرأة المسلمة دَورَها الواضح في خِدمة الدين والمجتمع، فقدمت للنساء في كل عصر دروسا وضَّاءة فيما يجب أن تكون عليه حياةُ المرأة المسلمة في واقعها، وأن تضع حدودا فاصلة بين أوهام الدعاوي التحررية المزيَّفة، وضلالات التقاليد الخرافية، ليتَّضِح بين هذا وذاك وسطية الإسلام في مواقفها التلقائية التي برَزت من خلالها حقوقٌ ذهبية، وهِبَات كالكنوز مُنِحت للمرأة المسلمة، فلا إفراط أو استخفاف برأيها، ولا تضييق أو حَجْر لحقوقها، ولا استحقار لمكانتها، ولا استغلال لقدراتها وإمكانياتها الخاصة كما يُريد أدعِياء تحرير المرأة، فصوت الإسلام كان يقول لها: "إنَّ رأيَك أيتها المرأة حقٌّ لكِ أن تعبري عنه، وصوتك واجب علينا أن نسمعه منك؛ لأنك جزء من المجتمع الذي خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنَّما النساءُ شقائقُ الرجال".
فلكِ أيتها المرأة وعليكِ من الحقوق والواجبات ما يُلائم تكوينَك وفِطرتَك.
وفي الوقت ذاته علمها النبي -صلى الله عليه وسلم- ويعلم كل امرأة كيف ما كان موقعها في المجتمع أو مكانتها، كيف تكون العلاقة التعاملية بين الجنسين وحدودَها داخل المجتمع، وكيف يكون احترام المرأة والحفاظُ على كيانها الطاهر النقي، حين اكتفى النبي -صلى الله عليه وسلم- بسماع البيعة منها، فكانت بيعتها قولا، وما صافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدها.
فمنهج الإسلام أن يَحفظ للمرأة حقوقها في وسطية غَراء، تحفُّها العفة والطهر والحياء، وتحُوطها هالةٌ من الهيبة والوقار والإكبار، متمثلة في حجابِها، الأشبهِ بغلاف لؤلؤة ثمينة يُخشى عليها من المس والتلوث.
فالمقصد الأعلى الذي يريد أن يحققه الإسلام من خلال نظامه الاجتماعي هو صَون الأعراض وحفظُها، وكَبْحُ جِماح الشهوات وضبطُها وتقييدُها بضوابط أخلاقية تَضمن استعمالَها في خير الإنسان وسعادته، بدل إهمالِها أو تضييعها في الفوضى والهمجية، كما يريد بذلك النظام الاجتماعي الغربي التغريبي الذي شقَت به الإنسانية رجالاً ونساءً.
هذا النظام الغربي الذي تطور بصورة شرسة في الآونة الأخيرة، حتى أصبح يمثل سعارا صريحا على القِيم والمبادئ الإنسانية على المُجمَل، وكلُّ ذلك تحت ستار حرّية المرأة، وأي حرية قدموها للمرأة؟
وما زال في النفس شوق للحديث عنها، والنهل من بعض ما رُوي عنها، وحديثنا القادم -بإذن الله- سيكون أيضاً إشارة لها وعنها -رضي الله عنها-.