المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
والإيمان بالملائكة هو إيمانٌ بكل ما جاء عنهم في القرآن أو السنة من ذكرٍ لأسمائهم، أو أعدادهم، أو أوصافهم، أو أعمالهم؛ إجمالًا فيما أُجمل وتفصيلًا فيما فُصِّل، وكلما ازداد العبد علمًا بتفاصيل ما جاء في القرآن والسنة مما يتعلق بهذا الأصل العظيم كان ذلك زيادةً في إيمانه وقوةً في يقينه وسببًا عظيمًا لصلاح عمله...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنين عباد الله: اتقوا الله -تعالى- ربكم، وراقبوه -سبحانه- في جميع أعمالكم مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: يشهد معكم هذه الجمعةَ، ويستمعون معكم إلى الذكر فيها؛ خلقٌ مِن خلق الله لا ترونهم، أخبر عنهم نبيكم الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ"، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ".
معاشر العباد: الإيمان بالملائكة أصلٌ من أصول الإيمان وركنٌ من أركان الدين، ومن خواص صفات أهل الإيمان إيمانهم بالغيب كما قال الله -عز وجل-: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[البقرة: 2-3] أي بكل ما غاب عنهم مما أخبرتهم به رسل الله، ومن ذلكم -عباد الله- الإيمان بالملائكة.
وقد جاء هذا الأصل مقررًا في مواطن كثيرة من كتاب الله -عز وجل-؛ فجاء ذكر هذا الأصل العظيم في صفات أهل البر والصدق والتقوى، قال الله –تعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة:177].
وجاء ذكر هذا الأصل في صفات أهل الإيمان أتباع الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-، قال الله –تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)[البقرة:285]، وجاء في القرآن ما يدل على أن عدم الإيمان بهذا الأصل كفرٌ ناقل من الملة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:136].
أيها المؤمنون: والإيمان بالملائكة هو إيمانٌ بكل ما جاء عنهم في القرآن أو السنة من ذكرٍ لأسمائهم، أو أعدادهم، أو أوصافهم، أو أعمالهم؛ إجمالًا فيما أُجمل وتفصيلًا فيما فُصِّل.
أيها المؤمنون: وكلما ازداد العبد علمًا بتفاصيل ما جاء في القرآن والسنة مما يتعلق بهذا الأصل العظيم كان ذلك زيادةً في إيمانه وقوةً في يقينه وسببًا عظيمًا لصلاح عمله.
أيها المؤمنون: وفيما يتعلق بأسماء الملائكة لم يأتِ في القرآن والسنة إلا ذكرٌ لعددٍ قليل من أسمائهم؛ كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، ومنكر ونكير، لكن ذكر الله -عز وجل- في مواطن من القرآن أسماءً تتناول الملائكة كلهم؛ كـ"الملائكة" و"رسل الله"، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)[الحج:75]، وقال -عز وجل- في سورةٍ تُعرف في بعض أسمائها بـ"سورة الملائكة" قال: (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)[فاطر:1]. وسماهم -جل وعلا- الكرام، البررة، السفرة، وسماهم جنود الله (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )[المدثر:31]، فجميع ما جاء من ذلك -عباد الله- نؤمن به.
وفيما يتعلق بأعدادهم؛ فإن عددهم لا يعلمه إلا الذي خلقهم جل في علاه، لكن جاءت نصوص كثيرة تدل على أن الملائكة كثرةٌ كاثرة وعددهم كبير جدا، ففي حديث الإسراء والمعراج قال النبي عليه الصلاة والسلام: "رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ".
وفي المسند أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ"، وذكر نبينا عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم- الملائكة الذين يجرون جهنم إلى أرض المحشر فقال: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا". فالحاصل -عباد الله- أن من إيمان المرء بالملائكة إيمانه بأعدادهم إجمالًا فيما أُجمل وتفصيلًا فيما فُصِّل.
وفيما يتعلق -عباد الله- بأوصاف الملائكة؛ فإنهم خلقٌ من خلق الله خلقهم الله -جل وعلا- من نور، وهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون كما هي الحال في الجن والإنس، ولا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ونؤمن بكل وصف لهم جاء في القرآن والسنة إجمالًا أو تفصيلاً، ومن ذلكم -عباد الله- ما ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت جبريل وقد سدَّ الأفق، وله ستمائة جناح".
وفي الحديث الآخر قال -عليه الصلاة والسلام-: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ" أي لو أن طيرًا طار من عاتق هذا الملك متجهًا إلى أذنه احتاج إلى سبعمائة سنة من الطيران حتى يصل إلى شحمة الأذن، وهذا يدل على عظم خلق الملائكة.
عباد الله: وما يتعلق بوظائف الملائكة وأعمالهم؛ فهم جنودٌ لله، ورسلٌ يأتمرون بأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، منهم من وكل الله إليهم النزول بالوحي، ومنهم من وكل إليه أمر القطر والسحاب والنبات، ومنهم من وكل إليه قبض الأرواح، ومنهم من وكل إليهم النفخ في الصور، قال -صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَ الصُّورَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَأَصْغَى سَمْعَهُ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ"، ومنهم من وكل الله إليه كتابة أعمال العباد (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق:18]، ومنهم من وكل إليه حفظ العباد (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)[الرعد:11]، إلى غير ذلك من وظائف الملائكة العظام وأعمالها الجسام التي تفعلها مؤتمرةً منقادةً مطيعةً لله –سبحانه وتعالى-.
معاشر المؤمنين: واجبٌ على كل مسلم أن يُعنى بهذا الأصل العظيم من أصول الإيمان والركن المتين من أركان الدين، وأن يُعنى بزيادة الإيمان بهذا الخلق معرفةً بأسمائهم وأعدادهم وأوصافهم ووظائفهم في ضوء كتاب الله وسنة نبيه ومصطفاه -صلى الله عليه وسلم-.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتّقوا الله تعالى.
عباد الله: ومما جاء في القرآن والسنة مما يتعلق بالملائكة؛ كثرة دعائهم للمؤمنين، وذلك لجامع وصف الإيمان بينهم وبين المؤمنين، قال الله -عز وجل- (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)[غافر:7].
دعواتٌ صادقات عظيمات تدعو بها ملائكة الله لعباد الله المؤمنين، وهذا من الدلائل والشواهد أن رابطة الإيمان هي أوثق رابطةٍ على الإطلاق، فها هم ملائكة الله مع أن جنسهم جنس آخر غير جنس البشر، لكن لما جمعتهم هذه الرابطة العظيمة كانوا يُعنون بهذه الدعوات العظيمات. وقد جاء في هذا الباب نصوص كثيرة في ذكر دعاء الملائكة للمؤمنين بحسب مناسبات ومقامات متنوعات.
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه مخبرًا بصلاته هو جلَّ في علاه وصلاة ملائكته على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:٥٦]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم وانصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيِّدا، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك، وسدده في أقواله وأعماله يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.