اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
كثير من الحجاج عقِب حجه يميل إلى التحدث عن المصاعب والمتاعب والمشاق ويغفَل ذكْر النعَم وعدَّها, قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات:6], قال الحسن البصري -رحمه الله- في معنى هذه الآية: "يعدُّ المصائب وينسى النعم". ولهذا ينبغي على كل مسلم أنعم الله عليه بالحج أو غيره من نعَم الله وأفضاله أن يحرص على عدِّها على وجه الثناء على الله بها, لا على وجه المفاخرة والمباهاة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله على نعمه المتتالية, وآلائه المتوالية, وعطاياه التي لا تُعد ولا تحصى, لك الحمد ربنا بكلِّ نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديث, أو سرٍ أو علانية, أو خاصةٍ أو عامة, أو حيٍّ أو ميت, أو شاهدٍ أو غائب, حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه, لك الحمد ربنا حتى ترضى ولك الحمدُ إذا رضيت, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
عباد الله: اتقوا الله -تعالى-, وكونوا لنعمائه من الشاكرين, ولمنَنِه وأفضاله حامدين, ومثنين على الله -جل وعلا- بها.
أيها المؤمنون: إن تَعداد النِّعم واستشعار تفضل الله بها يُعدُّ بابًا من أبواب شكر النعمة, وقد قال الله -تعالى- لنبيه ومصطفاه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:11], والمراد بالتحدُّث بالنعم: أي على وجه استشعار تفضُّل الله بها, وأنها إنما وصلتْه منه وبفضله ومنِّه -جلَّ في علاه-, والله -عز وجل- يحب الحمد والثناء, وهو أهل الحمد والثناء والمجد -جلَّ في علاه-.
أيها المؤمنون: ينبغي على المسلم أن يستشعر دومًا وأبدًا نعَم الله عليه المتوالية وآلاءه المتتالية, وأن يستشعر عظيم الفضل وجزيل المنة؛ ليُثمر ذلك حمدًا وثناء وشكرًا للمنعِم -جلَّ في علاه-.
أيها المؤمنون: نحن في هذه الأيام نعيش أثَر طاعةٍ عظيمة وعبادةٍ جليلة, يسَّر الله -عز وجل- للقيام بها من يسَّر من عباده, ولهذا ينبغي على من أكرمه الله بالحج أن يستشعر هذه النعمة؛ نعمة التيسير لحج بيته الحرام، وأن يستشعر في الوقت نفسه ما اكتنف هذه النعمة من نعَم.
أيها المؤمنون: روى الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره عن سعيد بن إياس الجُريري عن أبي نضرة العبدي -وهو تابعي جليل روى عن جمْعٍ من الصحابة- قال: "كان المسلمون -ويعني بذلك الصحابة حيث أدرك عددًا منهم- يرون أن من شُكْرِ النِّعَم أن يُحَدِّثَ بها", ومعنى التحدث بها: أي على وجه الاستشعار أنها من الله, فيقول على إثر النعمة: "أنعم الله عليَّ بكذا, ويسَّر لي كذا, وتفضَّل عليَّ بكذا؛ فإنَّ هذا باٌب من أبواب شكر المنعِم -جل في علاه-.
وانظروا -رعاكم الله- أثر هذا الخبر العظيم على راويه سعيد بن إياس الجريري -رحمه الله-, فقد روى أبو نُعيم في الحلية عن سلَّام بن أبي مطيع قال: أتينا سعيد بن إياس الجريري وكان قد قدِم من الحج فكان يقول: "أَبْلَانَا اللهُ فِي سَفَرِنَا كَذَا, وَأَبْلَانَا فِي سَفَرِنَا كَذَا -يعدِّد نعم الله عليه في حجِّه لبيته الحرام- ثُمَّ قَالَ: كَانَ يُقَالُ إِنَّ تَعْدَادَ النَّعَمِ مِنَ الشُّكْرِ".
أيها المؤمنون: كثير من الحجاج عقِب حجه يميل إلى التحدث عن المصاعب والمتاعب والمشاق ويغفَل ذكْر النعَم وعدَّها, قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات:6], قال الحسن البصري -رحمه الله- في معنى هذه الآية: "يعدُّ المصائب وينسى النعم". ولهذا ينبغي على كل مسلم أنعم الله عليه بالحج أو غيره من نعَم الله وأفضاله أن يحرص على عدِّها على وجه الثناء على الله بها, لا على وجه المفاخرة والمباهاة؛ فإن هذا من خوارم النية ومفسدات العمل, والله -عز وجل- عليمٌ بالسرائر مطلعٌ على النيات, فيتحدث بنعمة الله عليه على وجه الشكر والثناء والحمد للمنعِم -جل في علاه-.
وما من عمل إلا وتكتنفه شيء من المتاعب والمصاعب والمشاق ولاسيما ما كان على وجه السفر والانتقال من مكان إلى مكان, وهذا من عظيم أجر العبد عند الله إذا كان سفره سفر طاعة، فكيف إذا كان السفر سفر حجٍ لبيت الله الحرام!, ولهذا يحتسب المؤمن ما يناله من متاعب ومصاعب أجرًا وثوابًا عند الله -عز وجل-, ويثني على الله على عظيم نعمائه ووافر عطائه وجزيل منِّه.
أيها المؤمنون: إن شكر النعمة من أسباب حفظها وبقائها ودوامها, فهو الحافظ الجالب, الحافظ للنعَم الموجودات، والجالب للنعَم المفقودات, ودليل ذلك قول الله -عز وجل-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7], وفي الأدب المفرد من دعاء عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- كان يقول: "اللهم اجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ, مُثْنِينَ بِهَا، قَائِلِينَ بِهَا، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا". وينبغي أن يكون هذا لسان حال كل عبدٍ مؤمن.
نسأل الله -جل في علاه- أن يوزعنا أجمعين شكر نعمه, وأن يتقبَّل من حجاج بيت الله الحرام حجهم, وأن يخلُف عليهم ما أنفقوا وبذلوا بخير خلَف, وأن يعظِم لهم الأجر والثواب, وأن يردَّهم إلى بلادهم سالمين غانمين مأجورين، حُطت عنهم الأوزار وغُفرت الذنوب بمنِّ الله وفضله -جل في علاه-.
أقولُ هذا القول وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين, وأثنى عليه ثناء الذاكرين, لا أحصي ثناءً عليه, هو كما أثنى على نفسه, وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله, صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: اتقوا الله -تعالى-.
عباد الله: روى الإمام أحمد في مسنده وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ" وهو حديثٌ صحيح.
أيها المؤمنون: وفي هذا الحديث تنبيهٌ على بابٍ آخر من أبواب الشكر ينبغي على المسلم أن يعتني به؛ ألا وهو العنايةُ بشكر من أسدى إلى المرء معروفا, كما قال -عليه الصلاة- والسلام: "مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ".
أيها المؤمنون: ومن يتأمل في الجهود العظيمة التي تبذلها حكومة بلادنا في خدمة حجاج بيت الله ورعايتهم وتيسير أمور حجهم, وما يبذل في ذلك من نفقات طائلة ومشاريع كبيرة وجهودٍ عظيمة, وفي كل عام يُفاجئ الناس في أيام الحج بأعمالٍ ضخمة تتجدَّد خدمةً لحجاج بيت الله الحرام وتيسيرًا لأداء هذه الطاعة العظيمة بنفوسٍ سخية وبذلٍ كبير يدركه القاصي والداني والمحب والمبغِض.
وحقٌ على كل حاج أن يشكر لولاة أمر هذه البلاد؛ أن يشكر لهم جهدهم, وأن يثني عليهم خيرا, وأن يدعو لهم بالتوفيق والسداد, وأن يجزيهم الله خيرا على ما يقومون به من أعمال مبرورة وجهودٍ مشكورة ومساعٍ حثيثة خدمةٍ لحجاج بيت الله الحرام.
حتى إن ولي أمرنا وفَّقه الله ومن قبله من الولاة -رحمهم الله- لم يفضِّلوا لأنفسهم لقبًا إلا (خادم الحرمين), فهي خدمة يرجون بها ما عند الله -جل في علاه-.
فنسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجزيهم خير الجزاء, وأن يزيدهم كرمًا ونُبلًا وتوفيقًا وتسديدا, وأن يخلُف عليهم بخير, وأن يُعظم لهم الأجر والمثوبة, وأن يرُدَّ عنا وعنهم وعن المسلمين كيد الكائدين وحسد الحاسدين بمنِّه وكرمه إنه -تعالى- سميع الدعاء.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمَّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56], وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد, وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد. وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي, وارض اللهم عن الصحابة أجمعين, وعن التابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين, وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-, اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان. اللهم كُن لهم ناصرًا ومعينا وحافظا ومؤيدا, اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك, اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها, زكِّها أنت خير من زكاها, أنت وليُّها ومولاها, اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى, اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.