الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
ولقد أصبحت الرؤيا بابًا من أبواب الدعوة إلى الخير وترك الشر، فكم من أناس كانوا على غير هدى؛ فجاءت الرؤيا لتأخذ بنواصيهم إلى طريق الهدى والنور، بل كم من أناسٍ كانوا على الكفر والشرك، فجاءت إليهم الرؤيا لتكون سببًا في هدايتهم إلى الإسلام. فقد روى الحاكم في مستدركه عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال: "كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديمًا، وكان أول إخوانه أسلم، وكان بدء إسلامه أنه رأى في النوم أنه واقف على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله به أعلم، ويرى في النوم كأن أباه يدفعه فيها، ويرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخذًا بحقويه لئلا يقع ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: الآية 102].
عباد الله: لقد كانت الرؤيا ولا تزال موضع جدٍّ واهتمامٍ لدى أصحابها. وربنا -جل وعلا- يقصُّ علينا في القرآن شيئاً من ذلك، وكأنه –سبحانه- يدعونا إلى الاهتمام بها وبتعبيرها. قال الله -جل وعلا- عن يوسف -عليه الصلاة والسلام-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف: 6]. وقال ربنا -جل وعلا-: (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ)، أي: يعلمك تفسير الرؤيا.
وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر -رضي الله عنه-؛ فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ".
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله -عز وجل-: (لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ) [يونس: 64]؛ قال: "هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا المُسلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ".
وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ".
وقولُه -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ" أي: في آخر الزمان وذلك عند كثرة الفتن، وغربة الدين، وشدة الحاجة إلى المبشرات التي تطمئِنُ بها قلوبُ المؤمنين، ولذلك قال: "لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا المُؤْمِنِ"، فهي خاصةٌ بالمؤمنين.
وقوله: "جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا"؛ قال بعضُ أهلِ العلمِ: إن مدة النبوة ثلاثٌ وعشرون سنةً منها؛ نصفُ سنةٍ، الوحي فيها رؤيا يراها النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم؛ فيكون ذلك جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْهُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ".
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في آخر الحديث السابق: "أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا"، دليل على أهمية الصدق، وأن أصدق الناس كلامًا هو أصدقهم رؤيا.
ولقد أصبحت الرؤيا بابًا من أبواب الدعوة إلى الخير وترك الشر، فكم من أناس كانوا على غير هدى؛ فجاءت الرؤيا لتأخذ بنواصيهم إلى طريق الهدى والنور، بل كم من أناسٍ كانوا على الكفر والشرك، فجاءت إليهم الرؤيا لتكون سببًا في هدايتهم إلى الإسلام.
فقد روى الحاكم في مستدركه عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال: "كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديمًا، وكان أول إخوانه أسلم، وكان بدء إسلامه أنه رأى في النوم أنه واقف على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله به أعلم، ويرى في النوم كأن أباه يدفعه فيها، ويرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخذًا بحقويه لئلا يقع ففزع من نومه، فقال: أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن قحافة، فذكر ذلك له فقال أبو بكر: أُرِيدَ بك خيرٌ، هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها.
فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بأجياد فقال: يا محمد إلى ما تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده.
قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فَسُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه.
فهذه رؤيا كانت سببًا في إسلام خالد بن سعيد بن العاص -رضي الله عنه-، وغير خالد الكثير.
عباد الله: ولما كانت الرؤيا بهذه المنزلة العظيمة؛ كان لا بد من عرضها على أهل الخبرة من معبريها؛ فلا تُقَصُّ على حسود لدود، ولا على جاهل قوله مردود، بل تقص على أهل العلم والفضل من العلماء العالمين العاملين من أهل الفقه في الدين.
ومما يؤسَف له أن الكثير أخطأوا في جانب الرؤيا، والخطأ ناتج من صاحب الرؤيا كذا ناتج من المعبر؛ فإن صاحب الرؤيا تجده لا يتحرى مَن يعبّر له رؤياه، بل يعرضها على من هو ليس بأهل للتعبير، وبالتالي تضيع الفائدة المرجوة من الرؤيا.
أما الخطأ الناتج عن المعبر، فهذا أمرٌ للأسف استشرى في مجتمعاتنا؛ فتجد الرجل الذي لا يصلح للتأويل والتعبير يتجرأ على تعبير الرؤى، وهذا مما لا شك فيه جهل بأحكام ديننا الحنيف.
قيل لمالك: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: "أبالنبوة يلعب؟".
وقال مالك أيضاً: "لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرًا أخبره، وإن رأى مكروهًا فليقل خيرًا أو ليصمت، فقيل هل يعبرها على الخير، وهي عنده على المكروه لقول من قال: إنها على ما تؤولت عليه؟ فقال: لا، ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يُتلاعب بالنبوة".
عباد الله: إن مما يلاحظ في هذه الأزمنة المتأخرة كثرة المعبرين للرؤى، ولا نعني بذلك أهل الخبرة بالتعبير والتأويل، لكن نعني بهم من تجرؤا عليها بدون وعي ولا إدراك، وظنوا أن الأمر سهل، ونسوا أنها ما دامت جزءًا من النبوة؛ فلا يجوز التجرؤ عليها، وعلى تأويلها إلا بعلمٍ وقوةِ إدراك.
فكم سمعنا عن أناس عبروا الرؤيا بأمور غير صحيحة، فأفسدت على الرائي أمور دينه ودنياه، فقطعت الرحم المأمور بإيصالها، وتشتت الأسر المأمور باجتماعها؛ كل ذلك بسبب تعبير خاطئ من شاب طائش أو جاهلٍ يريد الشهرة.
إن تجرأ البعض على التعبير دون علم له أسباب، منها:
ضعفُ الوازع الديني والغفلة عن الآخرة: فإن أهل التأويل المتطفلين عليه، الذين لا يعبئون ولا يقدرون الأمور تقديرها هم في الحقيقة غافلون عن الآخرة، ووقوفهم بين يدي الله -جل وعلا-.
فقد تكون الرؤيا بمثابة دعوة إلى استقامة أو دعوة إلى أن يتخلص صاحبها من أمور منكرة وهذا أمرٌ واقع، فإذا بالمعبر لها يعبرها بطريقة خاطئة، فما كان من الرائي إلا أن بقي على ما هو عليه، وبالتالي لا يستقيم على طاعة ولا يقلع عن معصية، وهنا يكون المعبر سبباً في هلاكه وعذابِه يومَ القيامة.
ومن الأسباب أيضًا، وهذا أكثرها حب الشهرة: وهذا أعظم آفة يصاب بها بعض معبري زماننا، ولاسيما عبر القنوات الفضائية، وذلك لكثرة الرؤى في هذه الأزمنة.
ولقد وقفت أيها المؤمنون على تعبير لبعض الرؤى، والله إنه فرق بين زوجين، وفرق بين أب وولده، وفرق بين عائلتين، وأيضاً أخبر المعبر الجاهل أن فلانة وفلاناً مسحور، وهذا سيقف بين يدي الله -جل وعلا-، فينبغي للإنسان أن يتقي الله، وألا يتكلم إلا بما يحسن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علَّم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن التقوى هي زادكم في هذه الدنيا للدار الآخرة.
عباد الله: ولما كانت الرؤيا منزلتها عظيمة في ديننا كان لا بد من وجود ضوابط معتبرة، وهذه الضوابطُ لا شك أنها تخدم المعبر قبل أن تخدم صاحب الرؤيا؛ لأن الخطر الأعظم ليس في حق الرائي، وإنما في حق صاحب التأويل.
أما الضوابط المعتبرة في صاحب الرؤيا، فمنها ما يأتي:
أولاً: إذا أراد أن تصدق رؤياه فليكن الصدق خُلقه، وليحذر الكذب والغيبة والنميمة.
ثانياً: يُستحب أن ينام على وضوء لتكون رؤياه صالحة.
ثالثاً: التزام العفة؛ فإنَّ غير العفيف يرى الرؤيا، ولا يذكر شيئًا منها لضعف نيته وكثرة ذنوبه ومعاصيه.
رابعاً: أن لا يقصّها على جاهل أو عدو؛ فـ"إن الرؤيا على رجل طائر ما لم يحدث بها، فإذا حدث بها وقعت".
خامساً: أن لا يقصِّها على معبر، وفي بلده أو في وطنه من هو أحذق منه في التعبير، ألا ترى ما جاء في ملك مصر حين رأى ما رأى فقصَّ رؤياه على معبري بلده، فقالوا له: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ)، فسأل عنها يوسف فعبرها له تعبيراً صحيحاً.
سادساً: أن يحترز من الكذب في رؤياه قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب في الرؤيا كُلِّف يوم القيامة عقد شعيرتين، ومن كذَب على يمينه لا يجد رائحة الجنة، وإن أعظم الفِرْية أن يفتري الرجل على عينيه يقول: رأيت ولم ير شيئًا".
أما الضوابط المعتبرة في حق المعبر، فمنها:
أولاً: أن يكون عالما حاذقا بعلم تأويل الرؤى.
ثانياً: أن لا يؤولها إلا بعلم وإدراك.
ثالثاً: إذا قصت عليه الرؤيا أن يقول خيرًا، أو يقول خيرًا تلقاه، وشرًّا تتوقاه.
رابعاً: أن يكتم على الناس عوراتهم فلا يذهب فيقول فلان رأى كذا أو كذا؛ مما فيه كشف لعوراته ونحوه.
خامساً: أن لا يعبر الرؤيا إلا بعد أن يتعرف ويميز كل جنس وما يليق به.
سادساً: أن يكون فطنًا ذكيًّا تقيًّا نقيًّا من الفواحش عالمًا بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولغة العرب وأمثالها وما يجري على ألسنة الناس.
سابعاً: أن لا يعبر الرؤيا وقت الاضطرار.
ثامناً: أن يعبر الرؤيا على مقادير الناس ومذاهبهم وأديانهم وبلدانهم مع الاستعانة بالله -جل وعلا-، وسؤاله التوفيق والسداد في تعبيره للرؤيا.
تاسعاً: إذا لم يمكنه تأويلها فإن الأولى أن يُحيلها على من هو أعلم منه بالتأويل، ولا يتحرج في ذلك.
عاشراً: إذا كانت الرؤيا فيها شيء يكرهه صاحبها فإنه يصمت أو ليقل خيرًا، وذلك بأن يدعو صاحبها إلى التزام تقوى الله ويذكِّره بوقوفه بين يديه، وينصح له، وغير ذلك مما فيه مصلحة.
حادي عشر: أن ينوي بتعبيره التقرب إلى الله بذلك؛ لأن هذا كان مسلكًا من مسالك الأنبياء يعني مسلك التعبير؛ فإن نواه على أنه قُربة إلى الله أُجِرَ على ذلك، أما إن كان من أجل مالٍ، أو شهرةٍ، أو غير ذلك فهو في خسار إلى خسار.
ثاني عشر: أن لا يعبر الرؤيا حتى يعرف لمن هي، ولا يعبرها على المكروه وهي عنده على الخير ولا على الخير وهي عنده على المكروه.
وهنا أختم بما قاله العلامة ابن سعدي -رحمه الله- في ذكره للفوائد من سورة يوسف -عليه السلام-، ومنها: أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير الرؤيا داخل في الفتوى لقوله سبحانه للفتيين (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) [يوسف: 41]. وقال الملك: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ) [يوسف: 43]، وقال الفتى ليوسف (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ) [يوسف: 46]، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم أبداً، وما أوقع كثيراً من الناس في هذا الأمر.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: ٥٦].