العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
إِنَّهُ لَوَاجِبٌ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَقِفُوا عِندَ حُدودِ اللهِ -تَعَالى- وَلا يَتَعَدَّوهَا، وَإِذَا بُيِّنَ لَهُمُ الحُكمُ الشَّرعِيُّ في أَمرٍ مَا أَو مَسأَلَةٍ أَن يَقُولُوا: سَمِعنَا وَأَطَعنَا، فَهَذِهِ صِفَاتُ المُؤمِنِينَ؛ مَتَى ظَهَرَ لَهُمُ الدَّليلُ أَخَذُوا بِهِ وَلم يَعدِلُوا عَنهُ، وَأَمَّا مَن ظَهَرَ لَهُ الحَقُّ وَبَانَت لَهُ المَحَجَّةُ، فَأَبى إِلاَّ أَن يُطِيعَ غَيرَ اللهِ في تَحلِيلِ مَا حَرَّمَهُ أَو تَحرِيمِ مَا أَحَلَّهُ فَقَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ المُطَاعَ رَبًّا وَمَعبُودًا، وَجَعَلَهُ للهِ شَرِيكًا؛ إِذِ الإِشرَاكُ بِاللهِ في حُكمِهِ..
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ، فَـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ). [البقرة:183]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مِن حَقِّ اللهِ -تَعَالى- وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ حَقُّ التَّحلِيلِ وَالتَّحرِيمِ؛ فَلَهُ -سُبحَانهُ- الخلقُ وَالأَمرُ، وَهُوَ الَّذِي لِكَمَالِ عِلمِهِ وَحِكمَتِهِ يَشْرَعُ لِعِبَادِهِ مَا يَشَاءُ؛ فَيُحِلُّ لَهُم مَا فِيهِ مَصلَحَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ عَاجِلاً أَو آجِلاً، وَيُحَرِّمُ عَلَيهِم مَا لا شَكَّ في ضَرَرِهِ عَلَيهِم في الحَالِ أَوِ المَآلِ، وَأَمَّا مَن سِوَى اللهِ مِنَ المَخلُوقِينَ صَغُرُوا أَو كَبُرُوا، زَادَ عِلمُهُم أَو قَلَّ مِنهُ نَصِيبُهُم، بَلَغُوا مِن عِلمِ الدُّنيَا القِمَّةَ أَو تَخَلَّفُوا فِيهِ، فَغَيرُ مَسمُوحٍ لأَيٍّ مِنهُم كَائِنًا مَن كَانَ أَن يَقُولَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِمَحضِ رَأيِهِ، أَوِ اِتِّبَاعًا لِهَوًى في نَفسِهِ، أَو ضَعفًا أَمَامَ ضَغطِ عَدُوِّهِ، أَو لأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- لَيسَ في الدُّنيَا مَن يُؤخَذُ بِكَلامِهِ في التَّحلِيلِ وَالتَّحرِيمِ دُونَ أَن يَكُونَ مَعَهُ دَلِيلٌ مِن كِتَابِ اللهِ أَو صَحِيحِ السُّنَّةِ، وَلِعِظَمِ هَذَا الأَمرِ وَعُلُوِّ شَأنِهِ، فَإِنَّ اللهَ -تَعَالى- لم يُفَوِّضْ إِلى أَحَدٍ مِن عِبَادِهِ أَن يُشَرِّعَ لِلنَّاسِ مِنَ الأَحكَامِ مَا يُرِيدُ، أَو أَن يَحكُمَ لَهُم أَو فِيهِم بِمَا يَرَاهُ مِن عِندِ نَفَسِهِ، وَمَن زَعَمَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الخَلقِ، مَلَكًا مُقَرَّبًا كَانَ أَو نَبِيًّا مُرسَلاً، أَو وَلِيًّا صَالِحًا أَو عَابِدًا زَاهِدًا، أَو إمَامًا عَادِلاً أَو عَالِمًا عَامِلاً - يَحِقُّ لَهُ تَحلِيلُ مَا حَرَّمَ اللهُ أَو تَحرِيمُ مَا أَحَلَّهُ فَقَد أَشرَكَ بِاللهِ -تَعَالى- وَعَبَدَ مَعَهُ غَيرَهُ، وَاعتَدَى عَلَى حَقِّهِ وَتَعَدَّى حُدُودَهُ، وَافتَرَى عَلَيهِ الكَذِبَ وَعَرَّضَ نَفسَهُ لِعَذَابِهِ، قَالَ -تَعَالى-: (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ) [آلعمران:54]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (إِنِ الحُكمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) [يوسف:40]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (إِنِ الحُكمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيرُ الفَاصِلِينَ) [الأنعام:57]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (أَم لَهُم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدِّينِ مَا لم يَأذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى:21]، وَقَالَ -تَعَالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم وَلا تَعتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعتَدِينَ) [المائدة:87]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لا يُفلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 116-117]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (قُلْ أَرَأَيتُم مَا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِن رِزقٍ فَجَعَلتُم مِنهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُم أَم عَلَى اللهِ تَفتَرُونَ) [يونس: 59].
وعَن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: أَتَيتُ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِن ذَهَبٍ، فَقَالَ: "يَا عَدِيُّ، اِطرَحْ عَنكَ هَذَا الوَثَنَ" فَطَرَحتُهُ، وَسَمِعتُهُ يَقرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ: (اتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَابًا مِن دُونِ اللهِ) حَتَّى فَرَغَ مِنهَا، فَقُلتُ: إِنَّا لَسنَا نَعبُدُهُم، فَقَالَ: "أَلَيسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَستَحِلُّونَهُ؟!" قُلتُ: بَلَى. قَالَ: "فَتِلكَ عِبَادَتُهُم" (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَالطَّبَرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ)، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ..." (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ). وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَا أَحَلَّ اللهُ في كِتَابِهِ فَهُوَ حُلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنهُ فَهُوَ عَفوٌ فَاقبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ لم يَكُنْ لِيَنسَى شَيئًا"... (أَخرَجَهُ البَزَّارُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).
أَجَلْ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ التَّشرِيعَ وَالتَّحلِيلَ وَالتَّحرِيمَ حَقٌّ خَالِصٌ للهِ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَاللهُ لا يَرضَى أَن يُشرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ في عِبَادَتِهِ وَلا في حُكمِهِ، قَالَ -تَعَالى-: (إِنِ الحُكمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ) [يوسف:40].
وَقَد أَجمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى كُفرِ مَن شَرَعَ لِلنَّاسِ شَرعًا لم يَأذَنْ بِهِ اللهُ، وَأَعرَضَ عَن شَرعِ اللهِ وَلم يَحكُمْ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (أَم لَهُم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدِّينِ مَا لم يَأذَن بِهِ اللهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى:21]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَمَن لم يَحكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ).
وَتَحلِيلُ الحَرَامِ وَتَحرِيمُ الحَلالِ اتِّبَاعًا لِغَيرِ اللهِ، لا يَحصُلُ إلاَّ مِن خِفَافِ العُقُولِ الطَّائِشِينَ وَالسُّفًهَاءِ الفَاسِقِينَ، الَّذِينَ تَقُودُهُم شَيَاطِينُ الجِنِّ وَالإِنسِ وَتُضِلُّهُم عَنِ السَّبِيلِ، وَتُغوِيهِم بِكَيدِهَا عَنِ الطَّرِيقِ المُستَقِيمِ، قَالَ-تَعَالى-: (قَد خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَولادَهُم سَفَهًا بِغَيرِ عِلمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افتِرَاءً عَلَى اللهِ قَد ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ) [الأنعام:140].
وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي يَروِيهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَن رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- أَنَّهُ قَالَ: "وَإِنِّي خَلَقتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُم، وَإِنَّهُم أَتَتهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجتَالَتهُم عَن دِينِهِم، وَحَرَّمَت عَلَيهِم مَا أَحلَلتُ لَهُم، وَأَمَرَتهُم أَن يُشرِكُوا بي مَا لم أُنزِلْ بِهِ سُلطَانًا" (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
وَقَولُهُ: "اجتَالَتهُم"، أَي: استَخَفَّت بِهِم، فَجَالُوا مَعَهَا في الحَلالِ وَالحَرَامِ، وَقَالُوا: هَذَا حَلالٌ بِزَعمِهِم، وَهَذَا حَرَامٌ بِزَعمِهِم.
وَقَالَ -تَعَالى- في شَأنِ فِرعَونَ: (فَاستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُم كَانُوا قَومًا فَاسِقِينَ). [الزخرف:54].
أَجَلْ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ الشُّعُوبَ الفَاسِقَةَ، هِيَ الَّتي تُصَدِّقُ الفَرَاعِنَةَ وَتُطِيعُهُم في مُخَالَفَةِ شَرعِ اللهِ، وَتَنقَادُ لَهُم وَتَندَفِعُ مَعَ بَاطِلِهِم، وَتَتَكَلَّفُ لَهُم وَلأَنفُسِهَا في ذَلِكَ المُسَوِّغَاتِ، وَأَمَّا المُؤمِنُونَ الصَّادِقُونَ المُوقِنُونَ فَإِنَّهُم مَهمَا تَنَازَعَ النَّاسُ أَمَامَهُم في أَمرٍ أَوِ اختَلَفُوا في شَيءٍ، لا يَخرُجُونَ عَن حُكمِ رَبِّهِم وَخَالِقِهِم، الَّذِي قَالَ لَهُم: (وَمَا اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَيءٍ فَحُكمُهُ إِلى الله) [آل عمران:103]، وَالقَائِلِ: (فَإِن تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً) [النساء:59]، وَالقَائِلِ: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ) [النحل:43]، وَالقَائِلِ: (وَلَو رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم) [النساء:83].
وَهُم حِينَ يَرجِعُونَ إِلى العُلَمَاءِ وَيَسأَلُونَ أهل الذِّكرِ فَإِنَّهُم لا يَفعَلُونَ ذَلِكَ لأَنَّ العُلَمَاءَ يُحِلُّونَ أَو يُحَرِّمُونَ مِن تِلقَاءِ أَنفُسِهِم كَمَا يَزعُمُ بَعضُ الشَّانِئِينَ لِلعَلمِ وَمُبغضِي العُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَفِيِّينَ وَالمَفتُونِينَ، وَلَكِنْ لأَنَّ العُلَمَاءَ وَأَهلَ الذِّكرِ هُم أَعَلَمُ النَّاسِ بِكَلامِ اللهِ وَكَلامِ رَسُولِهِ، وَأَقدَرُهُم عَلَى استِنبَاطِ الأَحكَامِ مِن نُصُوصِ الوَحيِ، وَلِهَذَا المَعنَى اللَّطِيفِ نَجِدُ الأَمرَ بِطَاعَةِ وُلاةِ الأَمرِ في كِتَابِ اللهِ، قَد أُدخِلَ ضِمنَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَجَاءَ تبعًا لَهَا ولم يَأتِ مُستَقِلاًّ بِذَاتِهِ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم) [النساء:59].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ لَوَاجِبٌ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَقِفُوا عِندَ حُدودِ اللهِ -تَعَالى- وَلا يَتَعَدَّوهَا، وَإِذَا بُيِّنَ لَهُمُ الحُكمُ الشَّرعِيُّ في أَمرٍ مَا أَو مَسأَلَةٍ أَن يَقُولُوا: سَمِعنَا وَأَطَعنَا، فَهَذِهِ صِفَاتُ المُؤمِنِينَ؛ مَتَى ظَهَرَ لَهُمُ الدَّليلُ أَخَذُوا بِهِ وَلم يَعدِلُوا عَنهُ، وَأَمَّا مَن ظَهَرَ لَهُ الحَقُّ وَبَانَت لَهُ المَحَجَّةُ، فَأَبى إِلاَّ أَن يُطِيعَ غَيرَ اللهِ في تَحلِيلِ مَا حَرَّمَهُ أَو تَحرِيمِ مَا أَحَلَّهُ فَقَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ المُطَاعَ رَبًّا وَمَعبُودًا، وَجَعَلَهُ للهِ شَرِيكًا؛ إِذِ الإِشرَاكُ بِاللهِ في حُكمِهِ كَالإِشرَاكِ بِهِ في عِبَادَتِهِ، قَالَ -تَعَالى- في حُكمِهِ: (وَلا يُشرِكُ في حُكمِهِ أَحَدًا) [الكهف:26]، وَقَالَ في الإِشرَاكِ بِهِ في عِبَادَتِهِ: (وَلا يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]، وَقَالَ -تَعَالى-: (وَإِنْ أَطَعتُمُوهُم إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ) [الأنعام:121].
أَلَا فَلنَتَّقِ اللهَ -جَلَّ وَعَلا- وَلنُحِلَّ مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلنُحَرِّم مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلْنَقِفْ عِندَ هَذَا الحَدِّ، وَلْنَصبِرْ عَلى ذَلِكَ حَتَّى نَلقَى اللهَ، وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الانجِرَافِ مَعَ قَولِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَائِنًا مَن كَانَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوا عَنهُ وَأَنتُم تَسمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعنَا وَهُم لا يَسمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ البُكمُ الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ * وَلَو عَلِمَ اللهُ فِيهِم خَيرًا لأَسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا وَهُم مُعرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال:20-25].
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ) [الأنفال:29].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ المُسلِمَ إِمَّا أَن يُمكِنَهُ أَن يَعرِفَ الحَقَّ بِدَلِيلِهِ بِنَفسِهِ، وَيُمَيِّزَ الحَلالَ مِنَ الحَرَامِ عَن عِلمٍ وَاستِنبَاطٍ مِن كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيهِ أَن يَتَّبِعَ الحَقَّ وَلا يَحِيدَ عَنهُ، وَإِمَّا أَلاَّ يَكُونَ عَالِمًا وَلا يُمكِنَهُ التَّعَلُّمُ فَهَذَا وَاجِبُهُ أَن يَسأَلَ العُلَمَاءَ وَيَستَفتِيَ مِنهُم مَن يَثِقُ في عِلمِهِ وَتَقوَاهُ، ثم يُتَابِعَهُ وَيُقَلِّدَهُ، مَا دَامَ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الحَقُّ، وَبِذَلِكَ تَبرَأُ ذِمَّتُهُ وَلا شَيءَ عَلَيهِ وَإِن هُوَ أَخطَأَ؛ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَد وَرَدَ عَنهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَن أُفتِيَ بِغَيرِ عِلمٍ كَانَ إِثمُهُ عَلَى مَن أَفتَاهُ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).
وَأَمَّا اتِّبَاعُ العُلَمَاءِ أَو غَيرِهِم في تَحلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ أَو تَحرِيمِ مَا حَلَّلَهُ فَلا يَخلُو صَاحِبُهُ مِن أَن يُتَابِعَهُم في ذَلِكَ رَاضِيًا بِقَولِهِم مُقَدِّمًا لَهُ، سَاخِطًا لِحُكمِ اللهِ نَابِذًا لِشَرعِهِ وَرَاءَ ظَهرِهِ، أَو أَن يُتَابِعَهُم في ذَلِكَ وَهُوَ رَاضٍ بِحُكمِ اللهِ وَعَالِمٌ بِأَنَّهُ أَمثَلُ وَأَصلَحُ لِلعِبَادِ وَالبِلادِ، وَلَكِنَّهُ اختَارَ رَأيَهُم لِهَوًى في نَفسِهِ، أَو طَلَبًا لِمَصلَحَةٍ دُنيَوِيَّةٍ عَاجِلَةٍ؛ فَأَمَّا الأَوَّلُ فَهُوَ كَافِرٌ وَالعِيَاذُ بِاللهِ؛ لأَنَّهُ كَرِهَ مَا أَنزَلَ اللهُ وَفَضَّلَ حُكمَ غَيرِهِ عَلَى حُكمِهِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعسًا لَهُم وَأَضَلَّ أَعمَالَهُم * ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحبَطَ أَعمَالَهُم) [محمد:8-9] ، وَقَالَ -تَعَالى-: (أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
وَأَمَّا الثَّاني: فَلا يَكفُرُ، وَلَكِنَّهُ فَاسِقٌ، وَلَهُ حُكمُ غَيرِهِ مِنَ العُصَاةِ، وَهُوَ تَحتَ مَشِيئَةِ اللهِ؛ إِن شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِن شَاءَ عَذَّبَهُ.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلْنَتَمَسَّكْ بِالحَقِّ المُبِينِ، وَلْنَحذَرِ التَّلَفُّتَ عَنهُ يَمنَةً أَو يَسَرًة؛ فَإِنَّنَا في زَمَنٍ كَثُرَت فِيهِ الأَقوَالُ البَاطِلَةُ، وَتَشَعَّبَتِ الآرَاءُ المُضِلَّةُ، وَتَنَاوَلَ المُبطِلُونَ أُمُورًا شَرعِيَّةً كَانَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى حُكمٍ لا يَشُكُّونَ فِيهِ، فَشَكَّكُوهُم فِيهَا، وَعَمِلُوا عَلَى إِبعَادِهِم عَن حُكمِ اللهِ فِيهَا إِلى حُكمِ البَشَرِ؛ فَاللهَ اللهَ بِالتَّمَسُّكِ وَالصَّبرِ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُنَا عَمَّا جَاءَنَا في كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، قَالَ -تَعَالى-: (فَلَنَسألَنَّ الَّذِينَ أُرسِلَ إِلَيهِم وَلَنَسأَلَنَّ المُرسَلِينَ) [الأعراف:6]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (فَوَرَبِّكَ لَنَسألَنَّهُم أَجمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعمَلُونَ) [الحجر: 92-93]، وَلا يَعتَذِرَنَّ أَحَدٌ بِأَنَّ الأُمُورَ تَغَيَّرَت أَو أَنَّ الفَتَاوَى تَبَدَّلَت؛ فَإِنَّ كِتَابَ اللهِ بَينَ أَيدِينَا مَحفُوظٌ، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا مَنشُورَةٌ، وَفَتَاوَى العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَاضِحَةٌ وَمَقرُوءَةٌ (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَومًا بَعدَ إِذْ هَدَاهُم حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ) [التوبة:115].