الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
إن الله يغفر الذنوب جميعًا؛ أي مهما كان الذنب، ومهما عظم الجرم؛ فإن الله -عز وجل- غفور رحيم، تواب يقبل التوبة من عباده، لقد عرض -جل وعلا- التوبة في كتابه على من قتلوا أنبياءه، وعلى من قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وعلى من قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وعلى من خدُّوا الأخاديد، وقتلوا فيها المؤمنين، وحرقوا فيها الموحِّدين...
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطَّول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
معاشر المؤمنين: إن من الطاعات العظيمة، والعبادات الجليلة، والقربات النافعة، التوبة إلى الله -جل وعلا- من كل ذنب وخطيئة، التوبة -عباد الله- طاعة يحبها الله، وقربة يفرح بها من عباده، التوبة -عباد الله- وظيفة العمر، والحاجة إليها ماسة، والضرورة إليها ملحّة.
عباد الله: إن العبد مخلوق ضعيف، يكتنفه في هذه الحياة أعداء يتسلطون عليه من شياطين الجن والإنس، يحسِّنون له القبيح، ويقبحون في نظره الحسن، إضافة إلى نفس بين جنبيه أمّارة بالسوء، ودنيا مليئة بالفتن والمغريات، ولهذا -عباد الله- كان من خصائص الإنسان وشأنه الخطأ، وكلّ بني أدم خطاء، كما أخبر بذلك الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-، فأمام هذا كله وذاك كانت التوبة -عباد الله- وظيفة العمر التي ينبغي أن لا تفوت، والطاعة العظيمة التي ينبغي البدار إليها والمسارعة إلى أدائها قبل فوات الأوان وحلول الندم.
عباد الله: التوبة طاعة عظيمة، يحبها الله، والله -جل وعلا- يحب التوابين ويحب المتطهرين، والله -جل وعلا- مع كمال غناه عن عباده، يفرح بتوبة التائبين فرحًا عظيمًا؛ جاء في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده إذا تاب، من أحدكم: أضل راحلته بفلاة -أي في الصحراء- وعليها طعامه وشرابه، حتى إذا أيس منها استظل تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فبينا هو كذلك إذا بخطام ناقته عند رأسه، فأمسك بخطامها وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك".
تأملوا فرح هذا بناقته؛ فالله -جل وعلا- أشد فرحًا منه بتوبة عبده إذا تاب إليه، مع أنه -جل وعلا- غني عن توبة التائبين، وإنابة المنيبين؛ فهو -جل وعلا- لا تنفعه طاعة من أطاع، ولا تضره معصية من عصاه، وهو -جل وعلا- القائل في الحديث القدسي: "يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا". خرجه مسلم في سياق طويل.
عبادَ الله: والواجب على المسلم -إذا عرف شأن التوبة ومقامها- أن يبادر إليها، وأن يعلم أن ربَّه -سبحانه- دعاه إلى التّوبة ورغّبه فيها مهما كان الذنب، ومهما بلغ الجرم، فالله -جلّ وعلا- يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو القائل –سبحانه-: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر: 53].
وتأملوا -رعاكم الله- هذا الكرم: إن الله يغفر الذنوب جميعًا؛ أي مهما كان الذنب، ومهما عظم الجرم؛ فإن الله -عز وجل- غفور رحيم، تواب يقبل التوبة من عباده، لقد عرض -جل وعلا- التوبة في كتابه على من قتلوا أنبياءه، وعلى من قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وعلى من قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وعلى من خدُّوا الأخاديد، وقتلوا فيها المؤمنين، وحرقوا فيها الموحِّدين؛ قال -جل وعلا- لهؤلاء كلِّهم: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) [المائدة: 74]، وقال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) [البروج: 10]، فدعاهم إلى التوبة، قال بعض السلف: انظروا إلى هذا الجود، انظروا إلى هذا الكرم، قتلوا أولياءه وفعلوا ما فعلوا، وهو -جل وعلا- يدعوهم إلى التوبة.
عباد الله: إن الواجب على المؤمن أن يبادر إلى التوبة قبل أن يفوت الفوت، وقبل أن يدركه الموت، ولا يزال باب التوبة مفتوحًا ما لم يغرغر، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "تقبل توبة أحدكم ما لم يغرغر، وما لم تطلع الشمس من مغربها؛ فإنها إذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه".
عباد الله: إن العبد في خضم عصيانه وانهماكه في عصيانه، عندما تتحرك التوبة في قلبه تأتيه أنواع من الصواد، وصنوف من الصوارف تحول بينه وبين التوبة؛ فمن الناس -عباد الله- من إذا أقبل قلبه على التوبة أخَّرها بالتسويف إلى أمد بعيد أو قريب؛ فمنهم من يقول: أتوب إذا بلغت سنَّ كذا، وآخر يقول: أتوب إذا انتهيت من الدراسة، وثالث يقول: أتوب بعد الزواج... وهكذا في تسويف بغيض وتأجيل مشين.
ومنهم -عباد الله- من يحول بينه وبين التوبة سيطرة القنوط على قلبه؛ إمّا قنوط من رحمة الله؛ بسبب كثرة ذنوبه وخطاياه، أو قنوط من جهة نفسه؛ بسبب استحواذ اليأس على قلبه.
ومنهم -عباد الله- من يحول بينه وبين التوبة خشيته من لمز قرناء السوء وخلطاء الفساد، أو خشيته من فوات جاه أو شهرة أو رئاسة أو نحو ذلك، أو حظ من حظوظ الدنيا ومتعها.
ومنهم -عباد الله- من يحول بينه وبين التوبة اتكاله على سعة رحمة الله، ورحمته -جلّ وعلا- كتبها لعباده المؤمنين التائبين.
ومنهم -عباد الله- من يحول بينه وبين التوبة إمهال الله -جل وعلا- للعصاة، وتأخيره لعقوبة ذنوب المذنبين... إلى غير ذلك من الصوارف والصواد التي صرفت كثيرًا من الناس عن المبادرة إلى التوبة.
والتوبة فريضة؛ تجب على الفور، لا يجوز تأخيرها، بل تأخيرها ذنب يجب أن يتاب منه؛ ولهذا يجب على المؤمن العاقل أن يبادر إلى التوبة، وأن يكون كثير المتاب؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في كل يوم مائة مرة". مع أنه -صلوات الله وسلامه عليه- غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، فما بال المفرطين المضيعين المقصرين.
عباد الله: والتوبة تتناول البعد عن المعاصي، والمحافظة على الطاعات، فهي تتناول الأمرين معًا؛ فالتائب -عباد الله- حقًّا وصدقًا هو الراجع إلى الله -سبحانه- بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر؛ فهذه حقيقة التوبة، ولا بد في ذلك من ندم على ما سلف من فعل الذنوب والمعاصي، مع إقلاع تام عنها، وعزم أكيد على عدم العودة إليها.
والواجب -عباد الله- على المسلم إذا أراد التوبة أن يعرف أجناس ما يتاب إلى الله منه؛ إذ كيف يتوب من لا يدري مم يتوب؟! وكيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟! والله -جل وعلا- دعا عباده في كتابه إلى التوبة من أجناس الذنوب وأفرادها على ما بينه في كتابه وبينه رسوله في سنته -صلوات الله وسلامه عليه-، وأجناس الذنوب هي -عباد الله- الشرك والكفر، والنفاق والفسوق والعصيان، والإثم والعدوان، والفحشاء والمنكر والبغي، والقول على الله بغير علم، واتباع غير سبيل المؤمنين؛ فهذه أجناس الذنوب، وعددها اثنا عشر جنسًا، وأفرادها مبينة في كتاب الله، ولا يكون العبد تائبًا توبة نصوحًا إلا إذا تاب إلى الله توبة صادقة من كل أجناس ما دعا عباده إلى التوبة منه، وأن يقبل على الله إقبالاً صادقًا، بفعل الأوامر وترك النواهي؛ ولهذا -عباد الله- كان الناس متفاوتين في التوبة بحسب تفاوتهم في تحقيق ذلك.
نسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يمنّ علينا أجمعين بتوبة نصوح، وأن يجعلنا في عداد عباده التائبين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات؛ إنه -تبارك وتعالى- غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر على جوده وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في هذه الحياة في دار ممر وانتقال، وأن الحياة الباقية هي الحياة الآخرة، فالدنيا ميدان العمل، والآخرة ميدان الجزاء والحساب، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الآخرة مقبلة، وارتحلت الدنيا مدبرة، ولكل منهما بنون؛ فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، والكيس -عباد الله- من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني".
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على إمام التائبين، وقدوة الموحدين: محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا". اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين لاتباع شرعك، وتحكيم كتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذريتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر ذنوب المذنبين من المسلمين، وتب على التائبين، اللهم وارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم إنا نتوجه إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، وأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، يا من وسعت كل شيء رحمة وعلمًا، أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وديارنا بالمطر، اللهم هذه أيدينا إليك مدت، ودعواتنا إليك رفعت، وأنت -يا الله- لا تردّ عبدًا دعاك، ولا تخيب مؤمنًا ناجاك، اللهم فتقبل دعاءنا، وحقق رجاءنا، وأجب سُؤْلنا يا ذا الجلال والإكرام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبي الله محمد وآله وصحبه أجمعين.