العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
أمنا خديجة هي أم أولاده، وسيدة بيته قبل البعثة وبعدها، وكان زواجه منها نعمة من نعم الله عليه بها، وامتلأ البيت بالنور والحب والحنان، ودبَّت في جنباته حياة جديدة مزينة بأسمى العواطف وأنبل المشاعر؛ عواطف الأبوة الرحيمة والأمومة الكريمة.. وكانت -رضي الله عنها- ودودًا ولودًا منجبة؛ فكل أولاد النبي منها إلا إبراهيم من مارية القبطية، وأجمع العلماء على أن أمنا خديجة ولدت للنبي أربع بنات كلهن أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن؛ وهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وأجمعوا أنها ولدت له ابناً سماه القاسم وبه يُكَنَّى، ومات صغيراً رضيعاً قبل أن يُفطم، وقد درج بالمشي..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، واحرصوا على معرفة سِيَرِ أنبيائِه وأوليائِه؛ فإنَّ معرفتها تزيد بالإيمان.. وتذكي بالنفس محبتَهم والاقتداءَ بهم.. وهو من طاعةِ الله ورسولِه وطاعتهما سببٌ لمرافقة خيار الناس أجمعين، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].
أي: كل مَنْ أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير وكبير، (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة (مِنَ النَّبِيِّينَ) الذين فضَّلهم الله بوحيه، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق، ودعوتهم إلى الله -تعالى- (وَالصِّدِّيقِينَ) وهم: الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم، وبالقيام به قولاً وعملاً وحالاً ودعوة إلى الله، (وَالشُّهَدَاءِ) الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فقُتِلُوا، (وَالصَّالِحِينَ) الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم، فكل من أطاع الله -تعالى- كان مع هؤلاء في صحبتهم (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) بالاجتماع بهم في جنات النعيم والأنْس بقربهم في جوار رب العالمين. اللهم اجعلنا منهم يا كريم.
وممن خُص بالثناء والمنزلة العالية الرفيعة أمنا أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية الأسدية.. وأمُّها فاطمة بنت زائدة بن الأصَمّ. كانت تحت أبي هالة بن زُرَارة التّمِيمي، فولدت له هِنداً، وهَالة، وهما ذكران.. ثم تزوجها عتيق بن عائذ المخزومي، فَوَلَدت له جارية اسمها هند، وبعضهم يقدم عتيقاً على أبي هالة.
وقد أثنى عليها النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ثبت في الصحيح فقال: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ"؛ أي: نساء الدنيا في زمانها. (رواه البخاري عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-).
وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وصححه الألباني عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
ولفضلها ومكانتها في مكة وبين أهلها وعشيرتها كانت تُدْعَى قبل البعثة بالطاهرة، وهي أشرف نساء قريش نسباً، فهي سيدة نساء قريش.
أيها الإخوة: وهذه المكانة الرفيعة لها في قومها علت وارتفعت وجاوزت الثريا؛ فقد خصها الله بشرف رفيع لم يكن لامرأة قبلها ولا معها..
نعم إنه شرف زواجها بمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك قصة: فقد قال محمد بن إسحاق: "وكانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي امرأة تاجرةً ذات شرف ومال، تستجر الرجال في مالها، تضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بلغها من صدق حديثه وعقله وأمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له: ميسرة.
فقبله منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة، فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي.
قال ابن إسحاق: ثم باع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلاً إلى مكة معه ميسرة، وكان ميسرة -فيما يزعمون- إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره.
فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به بأضعف أو قريباً من ذلك! وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه! وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة، مع ما أراد الله بها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت له فيما يذكرون: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسِطَتُكَ في قومك -من الوسط وهي أوصاف المدح في النسب-، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك.
ثم عرضت نفسها عليه! وكانت خديجة يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكل قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك. فلما قالت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك لأعمامه، فوافق عمه أبو طالب على أن يتقدم لخطبتها وذهب مع عشرة من وجوه بني هاشم إلى عمها عمرو بن أسد، فخطبها منه فزوَّجه، وقال: هذا الفحلُ لا يُقدَع أنفُه –أي: لا يضرب-، تقال لمدح الكريم الشريف، والمراد منها لا يُرَدُّ".
وخطب أبو طالب يومئذٍ فقال: "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حَضَنةَ بيته، وسُوَّسَ حرمه، وجعلنا لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا حكام الناس..
ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن به رجلٌ إلا رجح به شرفاً ونبلاً، وفضلاً، وعقلاً، وإن كان في المال قِلٌّ، فإنما المال ظل زائل، وأمرٌ حائل، وعارية مسترجعة، وهو بعد هذا له نبأ عظيم، وخطرٌ جليل، وقد خطب إليكم رغبةً في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصَّداق حكمكم، عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ونَشَّاً.."، وهذه الخطبة من أفضل خطب الجاهلية.
واختلفت الروايات في عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر خديجة عندما تزوجا، وجمهور العلماء أن عمره -صلى الله عليه وسلم- كان خمساً وعشرين سنة.. وأما عمرها -رضي الله عنها-، فأصح الأقوال أنه أربعون سنة.. وكانا أسعد زوجين وأكرم عروسين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: وكانت -رضي الله عنها- ودودًا ولودًا منجبة؛ فكل أولاد النبي منها إلا إبراهيم من مارية القبطية، وأجمع العلماء على أن أمنا خديجة ولدت للنبي أربع بنات كلهن أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن؛ وهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وأجمعوا أنها ولدت له ابناً سماه القاسم وبه يُكَنَّى، ومات صغيراً رضيعاً قبل أن يُفطم، وقد درج بالمشي وقيل إنه ولد ومات قبل البعثة، وقيل بعدها، والله أعلم.
وقال بعض العلماء: إنها ولدت ابنا له اسمه الطاهر، وقيل هو لقب للقاسم، والله أعلم.
أحبتي: أمنا خديجة هي أم أولاده، وسيدة بيته قبل البعثة وبعدها، وكان زواجه منها نعمة من نعم الله عليه بها، وامتلأ البيت بالنور والحب والحنان، ودبت في جنباته حياة جديدة مزينة بأسمى العواطف وأنبل المشاعر؛ عواطف الأبوة الرحيمة والأمومة الكريمة..
وكان في البيت مع أولاده منها علي بن أبي طالب، وهند ابن هالة الأسدي ابن خديجة ربيب رسول الله، أسلم وهاجر، وحضر بدرًا، وتوفي في خلافة عليّ، وكان فصيحًا بليغًا وصافًا، وهو أحسن من وصف خلق رسول الله، وكذلك زيد بن حارثة وكانت كذلك أم أيمن حاضنة رسول الله معهم..
كل هؤلاء ضمَّهم بيت النبوة البيت الذي كانت فيه خديجة السيدة الأولى؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم.
وللحديث عنها بقية…
وصلوا وسلموا...