المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
إذاً؛ زمزم ليست مجرَّد عينٍ تنبع منها الماء, وإنما هي قصَّة إيمانٍ حقيقية, تشهد عليها وتقصُّها لمَنْ يُشاهدها ويراها, وتخليدٌ لذكرى تلك المرأة المؤمنة الواثقة من رحمةِ ربِّها, الموقنة بفضله. وهي دليل ماديٌّ ملموس لكلِّ مَنْ أراد العبرة, وطَلَب القدوة في التوكل على الله, وحُسن الظنِّ به, ضَرَبَه الله مثلاً غير مكتوبٍ, ولا مسموعٍ, وإنما مَثَلاً مرئياً؛ ليكون أوقعَ في النفس, وأبلَغَ في الفَهم, لمَنْ كان له قلب, وكان له عقل..
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
لَمَّا ترك إبراهيمُ -عليه السلام- هاجرَ وابنَها إسماعيلَ عند البيت المُحَرَّم "تَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ, فقالت: يا إِبْرَاهِيمُ, أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بهذا الْوَادِي, الذي ليس فيه إِنْسٌ ولا شَيْءٌ؟ فقالت له ذلك مِرَارًا, وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا, فقالت له: آلله الذي أَمَرَكَ بهذا؟ قال: نعم, قالت: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا, ثُمَّ رَجَعَتْ, فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حتى إذا كان عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ, اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ, ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ, وَرَفَعَ يَدَيْهِ, فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].
... فإذا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ, فَبَحَثَ بِعَقِبِه - أو قال: بِجَنَاحِهِ - حتى ظَهَرَ الْمَاءُ, فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ -أي: تجعله مثل الحوض- وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا, وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الْمَاءِ في سِقَائِهَا وهو يَفُورُ بَعْدَ ما تَغْرِفُ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ, لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ؛ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا -أي: ظاهراً جارياً على وجه الأرض-"(رواه البخاري: 3/1227, ح 3184).
فبدأ تدفُّق ماء زمزم المبارك إكرامًا لآل إبراهيم -عليهم السلام-, واستمرَّ حتى وقتنا الحاضر, وإلى أن يشاء الله تعالى.
أيها الإخوة الكرام .. تقع بئر زمزم شرقي الكعبة المشرفة، على بُعد "واحدٍ وعشرين" متراً من الكعبة, ويبلغ عمقها أكثر من "ثلاثين" متراً.
وقد منحها الخلفاء والملوك والحكام عنايةً كبرى ورعايةً عُظمى، فقاموا بعمارتها, وجاء العهد السعودي فازداد الاهتمام بها, فقد أُتِيح ماء زمزم للشُّرب في كلِّ أنحاء الحرم المكي الشريف, وتبيَّن من اختبارات الضَّخ أن البئر تَضُخُّ في الثانية الواحدة ما بين "أحد عشر" إلى "ثمانية عشر" لتراً من الماء, بمتوسط "تسعمائة" لترٍ في الدقيقة الواحدة. فَقِسْ على هذا؛ كم ضخَّت البئرُ من مياهٍ منذ نَبَشَها بِعَقِبِه جبريلُ - عليه السلام - لإسماعيلَ وأُمِّه هاجر! وكم روت وتروي! أجيالاً وأجيالاً من البشر(انظر: موقع الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي)!
عباد الله .. تبقى زمزمُ شاهداً على توكُّل هاجر على ربِّها وحسن ظنِّها به؛ إذ أذعنت لأمره وانقادت لمشيئته, قائلةً: "إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا", فرجعت واثقةً من فضل الله تعالى, وعنايته بها وبرضيعها.
إذاً؛ زمزم ليست مجرَّد عينٍ تنبع منها الماء, وإنما هي قصَّة إيمانٍ حقيقية, تشهد عليها وتقصُّها لمَنْ يُشاهدها ويراها, وتخليدٌ لذكرى تلك المرأة المؤمنة الواثقة من رحمةِ ربِّها, الموقنة بفضله.
وهي دليل ماديٌّ ملموس لكلِّ مَنْ أراد العبرة, وطَلَب القدوة في التوكل على الله, وحُسن الظنِّ به, ضَرَبَه الله مثلاً غير مكتوبٍ, ولا مسموعٍ, وإنما مَثَلاً مرئياً؛ ليكون أوقعَ في النفس, وأبلَغَ في الفَهم, لمَنْ كان له قلب, وكان له عقل.
معشر الفضلاء .. إنَّ من بركة ماء زمزم أنه انبثق بواسطة جبريل الأمين - عليه السلام - بأمرِ الله تعالى له, ولو شاء الله تعالى لأمر الماء أن يَنْبُع بنفسه كباقي المياه, ولكن أراد سبحانه إظهار شرف هذا الماء المبارك, فكان ذلك زيادةً له في التشريف والبركة والتعظيم.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في شأن انبثاق عين زمزم: (فلما أَشْرَفَتْ -أي: هاجر- على الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا, فقالت: صَهٍ - تُرِيدُ نَفْسَهَا - ثُمَّ تَسَمَّعَتْ, فَسَمِعَتْ أَيْضًا, فقالت: قد أَسْمَعْتَ إن كان عِنْدَكَ غَوَاثٌ -أي: إغاثة-" (رواه البخاري, (3/1227، ح 3184).
وفي روايةٍ: "قالت: أَغِثْ إِنْ كان عِنْدَكَ خَيْرٌ, فإذا جِبْرِيل ُ- عليه السلام, قال: فقال بِعَقِبِهِ هَكَذَا, وَغَمَزَ عَقِبَهُ على الأرض, قال: فَانْبَثَقَ الْمَاءُ, فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ, فَجَعَلَتْ تَحْفِرُ, قال: فقال أبو الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-: لو تَرَكَتْهُ كان الْمَاءُ ظَاهِرًا"( رواه البخاري, 3/1230, ح 3185).
عباد الله .. ومن بركة ماء زمزم أنَّ الله -تعالى- اختار أن ينبثق في أطهر بقعة على وجه المعمورة, وبجوار بيته المعظم, وفي الوادي الخالي من مظاهر الحياة؛ ليظهر بذلك عظيم قَدْره, إذ اختار له هذا المكان المُحرَّم, وأحاطه بهذه الخاصية النادرة, وجعله سُقْيا مباركة لحجاج وعمار البيت العتيق, بل للناس أجمعين.
لقد كانت زمزمُ - وما زالت - من أعظم النعم والمنافع المباركة التي وهَبَها الله -تعالى- لخليله إبراهيم - عليه السلام - استجابةً لدعائه: (وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ), ما جعل هذا الماءَ المبارك سبباً أوَّلياً لعمارة مكة, ونشوء الحياة فيها وازدهارها على مرِّ السنين, وعلى رأس هذا الازدهار: عمارة البيت الحرام, وما يعقب ذلك من مجيء الناس من كلِّ فجٍّ عميق؛ ليشهدوا منافع لهم في الدنيا والآخرة.
فزمزم هي اللَّبنة الأُولى في بناء البلد الحرام؛ بل هي الوسيلة الأُولى لتحقيق هذا البناء, وجذب الناس إلى هذا المكان المبارك.
"فمن أعظم المنافع العِظام التي يَشْهدُها الحجاج والعُمَّار في حرم الله: منفعةُ ماء زمزم, حيث يشربون ويتضلَّعون منه, وينالون من خيراته وبركاته, ويكسبون الدعاء المستجاب عند شربه, فماء زمزم لما شرب له من حوائج الدنيا والآخرة, فهو حقاً من نِعَم الله العظمى التي جعلها الله -تعالى- للمؤمنين في هذا المكان الطيب المبارك عند بيته المحرَّم.
وهناك مَنْ لا يُحصى من المرضى قد أكرمهم الله بشفائهم ببركة ماء زمزم من أمراض مُعضِلة عَجَزَ عنها جَمْعُ الأطباء, وحكمة الحكماء" (فضل ماء زمزم, د. سائد بكداش (ص 90).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
عباد الله .. إنَّ فضائل زمزم لا تُحصى ولا تُعدُّ, "فمَنْ يُحْصي فضائلَه؟ فكم مِنْ مُبتلىً قد عُوفي بالمُقام عليه, والشُّربِ منه, والاغتسالِ به؟ بعد أن لم يَدَعْ في الأرض يَنبوعاً إلاَّ أتاه, واستنقع فيه! وكم من مُتَزَوِّدٍ منه في القوارير إلى أقاصي البلدان؛ لدوائه, وغاسِلِ ثيابِه بمائِه؛ لما يرجوه من بركته وحُسْنِ عائدته؟"(ثمار القلوب في المضاف والمنسوب, للثعالبي (ص 559). وانظر: تهذيب اللغة, 4/92).
يقول الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) [آل عمران:96-97]، فمن أعظم الآيات البيِّنات عند بيت الله المحرَّم عين زمزم؛ شأنها شأن مقام إبراهيم, والحَجَر الأسود, والركن اليماني, والحَطِيم, ونحوها.
ومن بركة ماء زمزم أنَّ الله -تعالى- اختاره من بين سائر المياه؛ لغسل قلب حبيبه ومصطفاه من خَلْقِه -صلى الله عليه وسلم-؛ لِيُستخرج من قلبه حظُّ الشيطان, ولتقوية قلبه وإعداده لتلقي الوحي, فقد شُقَّ صدره الشريف -صلى الله عليه وسلم- أربع مرات, وفي كل مَرَّة يُغسل بماء زمزم. (انظر: صحيح البخاري 1/135 ح 342؛ وصحيح مسلم، 1/147، ح 162).
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فُرِجَ عن سَقْفِ بَيْتِي وأنا بِمَكَّةَ, فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عليه السلام, فَفَرَجَ صَدْرِي, ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ, ثُمَّ جاء بِطَسْتٍ من ذَهَبٍ, مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا, فَأَفْرَغَهُ في صَدْرِي, ثُمَّ أَطْبَقَهُ, ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا..." (رواه البخاري 1/135، ح 342).
ومن بركة ماء زمزم أنها عين لا تَنْضُب, ولا تنقطع أبداً, على كثرة استخدامها والاستقاء منها منذ ما يُقارب خمسة آلاف سنة.
فمن أسماء بئر زمزم وأوصافها عند العرب: أنها لا تُنْزَفُ أبداً. ومعنى: "لا تُنْزَفُ" أي: "لا يَفْنَى ماؤُها على كَثْرةِ الاسْتِقاءِ".
وجاء في قصة نبع زمزم – من قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ, لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ؛ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا" (رواه البخاري 3/1228، ح 3184).
وفي رواية أُخرى, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ تَرَكَتْهُ كان الْمَاءُ ظَاهِرًا" (رواه البخاري 3/1230، ح 3185).. قال: "فَشَرِبَتْ, وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا, فقال لها الْمَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ" (رواه البخاري 3/1228، ح 3184).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "قوله: "لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ" أي: الهلاك. وفي حديث أبي جَهْمٍ: "لاَ تَخَافِي أَنْ يَنْفَدَ المَاءُ". وفي روايةٍ للفاكهي: "لاَ تَخَافِي عَلَى أَهْلِ هَذا الوَادِي ظَمَأً؛ فَإِنَّهَا عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا ضِيْفَانُ اللهِ". زاد في حديثِ أبي جَهْمٍ: "فَقَالَتْ: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ".
وقد شهد التاريخ لماء زمزم؛ فالواقع الآن يُثْبِت أن ماء زمزم لم ينقطع منذ أن نَبَعَ, مع كثرة الاستقاء منه, ولا سيما في أيام رمضان والحج, إذ تُسحب منه كميات كبيرة جداً.
أيها الأحبة الكرام .. إنَّ الناظر في بئر زمزم يجد أنَّ مستوى الماء فيها لا يتغيَّر, فهو على مستوىً واحد, لا يقِلُّ ولا يكثر مهما أُخِذ منه, فلا ينبع بكثرة بحيث يسيل على وجه الأرض, ولا يقِلُّ بحيث لا يبقى منه شيء" (فضل ماء زمزم, ص 175).
ولله الأمر من قبل ومن بعد, وهو على كل شيء قدير.
الدعاء ...