القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | سالم العجمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - فقه النوازل |
إن الدولة الإسلامية منذ قيام دولة بني العباس قد دب فيها التفرق والاختلاف، فحين خرج أبو العباس السفاح على دولة بني أمية فرَّ عبد الرحمن الداخل -رحمه الله-، وأقام دولة بني أمية في بلاد الأندلس، وهذا هو بداية التفرق، على أن حصول التفرق في الأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ كان على مراحل، وكلما تقدم الزمن كان يظهر التفرق جليا واضحاً، ففي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
فإن من المعلوم أن الحق والباطل لا زالا في صراع منذ قيام الدنيا، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وإن في قصص الزمان عبرة للمعتبر، وعظة للمتعظ، وحريٌّ بالمرء أن يطلع على قصص التاريخ، فإن فيها دروسا وعبرا وعظات.
وإننا في هذه الكلمات نريد أن نتكلم حول سقوط الدولة العباسية، تلك الدولة العظيمة التي عمّرت ردحاً من الزمن، وكان سقوطها عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، وهذه هي سنة الله -جل وعلا- في خلقه، قال سبحانه وتعالى: (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس: 24].
وقال نبينا الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه-: "حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" [رواه البخاري (2660)].
ولكن الذي يتأمل هذه القصة يعلم علم اليقين: أنها مأساة، وأنها ليست بقصة تذكر وتمر، فهي قصة، ولكنها في الحقيقة غصة في حلق التاريخ، ويندى لها جبين البشرية، وتتصدع لهولها الجبال الراسيات، وعقت الأيام والليالي أن تلد مثلها.
فإن الذي يتأمل فيها يجد محناً وويلات جُرت على الأمة الإسلامية بسبب غفلة، وحسن ظن، وطيب نية، استغلها من في قلبه حقد ودغل على الإسلام وأهله، وقد بات في خلده حلم لا يغيب يتمثل بتغيير الواقع المنير إلى واقع مظلم بئيس.
إن الدولة الإسلامية منذ قيام دولة بني العباس قد دب فيها التفرق والاختلاف، فحين خرج أبو العباس السفاح على دولة بني أمية فرَّ عبد الرحمن الداخل -رحمه الله-، وأقام دولة بني أمية في بلاد الأندلس، وهذا هو بداية التفرق، على أن حصول التفرق في الأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ كان على مراحل، وكلما تقدم الزمن كان يظهر التفرق جليا واضحاً، ففي البداية كان هناك دولة بني العباس ودولة بني أمية الثانية التي أقامها عبد الرحمن الداخل، وبعد ذلك بدأت تخرج تلك الدويلات، فظهرت دولة خوارزم، ودولة السلاجقة، والدولة الأيوبية، ودولة العبيديين الفاطميين الرافضة في مصر، وهكذا.
ولكن هذا التفرق كما ذُكر جاء على مراحل.
وفي عام 616هـ، كان ظهور التتار، وهم الذين سقطت الدولة العباسية على أيديهم، وواكب ذلك أن دولة بني العباس في هذا التاريخ كانت دولة ضعيفة بالنسبة لما قبلها، فقد كانت سيطرتها الفعلية فقط على بغداد ونواحي بغداد، وكانت الدويلات الصغيرة التي ذُكِرَت وغيرها قد انتشرت في العالم الإسلامي.
في عام 616هـ، كان الحاكم للدولة العباسية الناصر، والناصر هذا كان أطول بني عباس مدة، فقد حكم من عام 575هـ، إلى عام 633هـ، وقد ذُكر من سيرته أنه كان شحيحا، وقد وضع المكوس التي أثقلت كاهل الأمة، ومن ولاه الله عليهم، وقد بقي في الخلافة إلى سنة 622هـ، ثم خلفه بعده ابنه الظاهر، والظاهر -رحمه الله- كان عدلاً حسن السيرة مع من ولاه الله عليهم، وكان وقوراً ديناً عاقلاً وهو أسن بني العباس من ناحية الحكم، فقد كان عمره حين تولى الخلافة اثنين وخمسين عاماً، وقيل فيه من ناحية العدل والإحسان أنه لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز أعدل منه لو طالت مدته، فإنه لم تمض عليه بعد توليه الخلافة تسعة أشهر حتى توفي رحمه الله.
ثم خلفه بعده ابنه المستنصر، والذي تولى الخلافة من عام 623هـ، حتى عام 640هـ، وكان كأبيه كثير الصدقة، محسنا إلى الرعية، كثير النفقات على المحاويج والعلماء، ولم تزل الخلافة له، حتى توفاه الله في عام 640هـ، فتولى الخلافة بعده ابنه المستعصم بالله، وهو الذي زالت الدولة العباسية على يديه.
ما هي قصة مجيء التتار؟ ومن أين جاؤوا؟
التتار كانوا يسكنون في جبال "طغماج" في الصين، وقد عبروا نهر ديجون إلى دولة الإسلام بصحبة حاكمهم "جنكيزخان".
وقصة هذا العبور أن "جنكيزخان" بعث تجاراً له إلى دولة شاه خوارزم ليشتروا له بعض الملابس، ويتبضعوا له من هناك.
فلما وصلوا إلى تلك السلطنة -وكان خوارزم في الخارج- أرسل إليه نائب السلطنة بمجيء هؤلاء التجار من طرف "جنكيزخان" وأن معهم أموالاً كثيرة فلم يحسن شاه خوارزم التصرف، فأمر بقتلهم، ومصادرة الأموال.
يقول المؤرخون: أنه بتصرفه هذا كان هو السبب في مجيء التتار إلى أمة الإسلام، فبسبب ذلك غضب "جنكيزخان" وأرسل يتهدد "شاه" خوارزم.
ثم عبر التتار على إثر ذلك نهر ديجون قادمين إلى بلاد خوارزم، فلما أقبلوا على "شاه" خوارزم حدث بينهم وبينه قتال عظيم، والدولة الخوارزمية كانت دولة عتية وقوية، فحصل بينهم قتال شديد، حتى قتل من الفريقين خلق كثير، حتى أن الخيول كانت تتزحلق في الدماء، وكان جملة من قتل من المسلمين عشرين ألفاً، ومن التتار أضعاف ذلك، وبعد ذلك تحاجز الفريقان، وتولى كل منهم إلى بلاده، ورجع "شاه" خوارزم وأصحابه إلى بخارى وسمرقند.
ثم جاء "جنكيزخان" فحاصر سمرقند وبخارى، فطلب أهلها منه الأمان، فأمَّنهم غدراً وخيانة وخديعة، فأحسن فيهم السيرة، وامتنعت عليه القلعة التي تحصن بها بعض من كان في تلك البلاد، فحاصرها، واستعمل أهل البلاد بأنفسهم لدفنها من أجل أن يفتح تلك القلعة، ولما فتحت تلك القلعة عاد إلى بلاد بخارى وسمرقند، وصادر أموال تجارها وأباحها لجنده، فقتلوا من أهلها خلقا لا يحصيه إلا الله -جل وعلا-، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا بهن الفواحش بحضرة أهليهن، فمن الناس من قاتل دون أهله حتى قُتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب.
وكثر البكاء والضجيج في البلد، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت، حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها.
وفي هذا العام أيضا كان القتال ناشب بين الفرنج وأهل الإسلام، فعدى الفرنج على مدينة "دمياط" ودخلوها بالأمان، حيث أمنوا أهلها ثم غدروا بهم بعد ذلك، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، وفجروا بالنساء، وبعثوا بمنبر الجامع والمصاحف، ورؤوس القتلى إلى الجزائر وجعلوا الجامع كنيسة، وهذه ثمرة من ثمرات التفرق.
ثم دخلت سنة 617هـ، وفي هذه السنة عم البلاء الفعلي ب"جنكيزخان" ومن معه واستفحل أمرهم وامتد فسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق ومن حولها، فكانوا إذا دخلوا بلداً خربوا المنازل، وقتلوا النساء والرجال، وفجروا بالنساء وقتلوا الأطفال، وكانوا يأخذون الأسرى من المسلمين، فيقاتلون بهم، ويحاصرون بهم، وإن لم ينصحوا بالقتال قتلوهم، حتى إنهم كانوا يجعلون المسلمين كحائط صد في قتالهم، حتى إذا وقع القتل، وقع في المسلمين.
وقد عظمت بهم المصيبة في بلاد الإسلام، فكانوا يشقون بطون الحوامل، ويقتلون الأجنة، ولم يكن لهذه الأحداث التي فعلها التتار مثيل فقد استطار شررها في جميع بلاد الإسلام، وما تركوا قرية من قرى الإسلام في ذلك الوقت إلا دخلوها ذهبوا إلى الري وبلاد الجبل، وذهبوا إلى "همادان" وكانت هذه سيرتهم.
والمصيبة العظيمة أن التتار قد نشروا الرعب والخوف في قلوب الناس.
كانوا قد جاؤوا إلى أذربيجان، فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا وحرّقوها، وأيضا كانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهم، ويشقون بطونهم عن الأجنة، وقصدوا مدينة "مرو" واستنزلوا نائبها خديعة، ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغنموهم وسبوهم، وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى قيل: إنهم قتلوا منهم في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور، وفعلوا نفس الفعل.
ثم استمر حالهم على تلك الأفعال منذ ذلك الزمان، وحتى سنة 624هـ، وفي هذه السنة أرسلت الإسماعيلية من الرافضة إلى التتار تخبرهم بأحوال المسلمين، وكانوا من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس، بل إنهم كانوا كما يقول أهل التاريخ أضر على المسلمين من التتار، واستمر الحال على نفس الصورة في القتل والنهب والسبي وشق البطون وقتل الأجنة إلى سنه 628هـ، وهنا خرجت طائفة من التتار مره أخرى من بلاد ما وراء النهر، وكان سبب قدومهم أيضا أن الإسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين ابن خوارزم شاه، وهنا جاءت التتار وتمكنت من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم، وقد ألقى الله -تعالى- الوهن والضعف في قلوب الناس منهم.
كانوا كثيرا ما يقتلون الناس، فيقول المسلم: لا بالله، لا بالله، فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون -يحاكون الناس لا بالله، لا بالله- وهذه طامة عظمى، وداهية كبرى.
وعلى الرغم من هذا كله إلا أن القتال إلى ذلك الوقت لم يكن قريبا من خلافة بني العباس.
ثم دخل عام 640هـ، وهنا تولى المستعصم بالله -رحمه الله- الخلافة، وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة، وقد حفظ القرآن في شبيبته، وأتقن العربية، والخط الحسن، وله غير ذلك من الفضائل، فقد كان يكثر التلاوة، ويحسن الأداء، طيب الصوت، يظهر عليه خشوع وإنابة، كما ذكر من سيرته، وكان مشهوراً بالخير، مقتديا بأبيه المستنصر، وقد سارت الأمور في أيامه على السداد والاستقامة، إلى أن جاء عام 656هـ، وكان فيه سقوط الدولة العباسية، وانتهاء عصرها، وأفول شمسها، بعد أن استمرت ردحا من الزمن.
وكما قال القائل:
لكل شيء إذا ما تم نُقصان | فلا يغر بطيب العيش إنسان |
هي الأمور كما شاهدتها دول | من سره زمن ساءته أزمان |
وهذه الدار لا تبقي على أحد | ولا يدوم على حال لها شان |
وقد كان لهذا السقوط قصة، وأي قصة؟
هذه القصة كانت قصة دامية بحق، وقد جرَّت على الأمة الإسلامية كثيرا من الويلات، وقد قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون)[الأعراف: 176].
والسعيد من أخذ من قصص الزمان عبرة وعظة له.
يذكر أهل التاريخ: أن المستنصر، والد المستعصم -رحمه الله- كان ذا همة عالية، وشجاعة وافرة، ونفس أبية، وعنده إقدام عظيم، وقد استخدم جيوشاً كثيرةً، وعساكر عظيمة، في الخلافة، كما كان له أخ يُعرف بالخفاجي -رحمه الله-، كان يزيد عليه بالشجاعة والإقدام، وقد ذُكر عنه أنه كان يقول: إن ملّكني الله الأرض لأعبرن بالجيوش نهر "ديجون" وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم.
فلما توفي المستنصر، فضّل أكابر الأمراء ممن كانوا بعده أن يعّين المستعصم؛ لأنهم خافوا من إقدام الخفاجي، وعلموا في المستعصم ضعف رأيه وانقياده لهم، فأرادوا أن تكون لهم الكبرياء، فأقاموه خلفا للمستنصر.
ومع الأسف الشديد: بداية الطامة والمصيبة العظمى التي أدت إلى سقوط دولة بني العباس: أن الخليفة المستعصم بالله -غفر الله له- قد اتخذ وزيراً خبيثاً رافضي المذهب، يقال له: "ابن العلقمي" وذلك في عام 642هـ.
و"ابن العلقمي" هذا قد حبب إلى الخليفة جمع المال، والتقليل من العساكر، ولم يعصم المستعصم بالله في وزارته، ولم يكن وزير صدق، ولا مرضي الطريقة.
وكان "ابن العلقمي" معادياً للأمير أبي بكر ابن الخليفة وأصحابه؛ لأن أبا بكر كان من أهل السنة، وقد نهب الكرخ، ومحلة الرافضة في بغداد، حين سمع عن الروافض أنهم قد تعرضوا لأهل السنة بالأذى.
والمتأمل في التاريخ: يجد أن الروافض لم تمض سنة من السنوات إلا ويكيدون لأهل السنة مئات المكائد.
فلما دخل أبو بكر -ابن المستعصم- ومن معه فعلوا بالروافض أمورا عظيمة، ونهبوا دور قرابات ابن العلقمي.
وقد حدث ذلك عام 555ه، وحينذاك فقد تملك الحقد من "ابن العلقمي" وأضمر في نفسه الغل، واشتد حنقه على أهل الإسلام، وكان مما أهاجه على تدبير أكبر مكيدة على الإسلام مما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه، منذ أن بنيت بغداد، وحتى وقوع هذه الحادثة.
وكتب الوزير "ابن العلقمي" إلى الخليفة ب"إربل"، وهو تاج الدين محمد بن صلايا -وهو أيضاً رافضي- رسالة، يقول فيها: "نُهب الكرخ المكرم، والعترة العلوية، وقد عزموا لا أتم الله عزمهم -أي أهل السنة- ولا أنفذ أمرهم على نهب الحلة والنيل، بل سولت لهم أنفسهم أمراً فصبر جميل، والخادم قد أسلف الإنذار وعجل لهم الأعذار، فلا بد من الشنيعة بعد قتل جميع الشيعة، وإحراق كتب الوسيلة والذريعة، فكن لما نقول سميعا وإلا جرعناك الحمام تجريعا، ولآتينَّهم (بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل: 37].
فاجتهد "ابن العلقمي" في إعداد المخططات والمكائد، حتى إنه كان يبذل كل ما في وسعه لصرف جيوش الدولة العباسية، وإسقاط أسهمهم من الديوان، فقد بلغت العساكر في آخر أيام المستنصر -والد المستعصم- قريبا من مائة ألف مقاتل من الأمراء، وممن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فما زال يجتهد "ابن العلقمي" في تقليلهم، ويسول للخليفة؛ بحجة تقليل النفقات، وحجج أخرى واهية، حتى إنه لم يبق في زمان المستعصم سوى عشرة آلاف.
تأمل! من مائة ألف إلى عشرة آلاف!.
خلافة إسلامية، ولها عشرة آلاف جندي؟ كيف يستقيم هذا؟ وكيف يصنعون في مواجهة الأعداء والتتار يبلغون الأعداد الهائلة؟
ثم بعد ذلك كاتب "ابن العلقمي" التتار، وأطمعهم في البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك طمعا في أن يزيل السنّة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضية، ويقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين، وكما قيل:
كل العداوات قد ترجى مودتها | إلا عداوة من عاداك في الدين |
ثم استهلت سنة 656هـ، وجنود التتار كانوا قد نازلوا بغداد، وجاءت إليهم إمدادات صاحب الموصل يساعدونهم -ومع الأسف الشديد- على البغاددة! لماذا؟
كل ذلك خوفا من التتار، فصاحب الموصل خاف على حكمه، فساعد التتار على إخوانه من البغاددة، فعل ذلك مصانعة للتتريين -قبحهم الله جميعا-.
وعند ذلك سترت بغداد، ونصبت عليها المجانيق وغيرها من آلات الممانعة، ولكن لا راد لما قدر الله: (إِنّ أَجَلَ الّلهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح: 4].
فقد أحاطت التتار ببغداد، وبدار الخلافة بالذات، يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية بين يدي أمير المؤمنين المستعصم.
وكان قائد التتار ذلك الوقت هو "هولاكو" فقد ذهب زمن "جنكيزخان".
وقد كان زمن قدومه بجنوده كلها -وهم نحو مائتي ألف مقاتل إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من تلك السنة، وكان "هولاكو" شديد الحنق بسبب ما كان قد تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه، وذلك أن "هولاكو" لما كان أول بروزه من "همادان" كان متوجها إلى العراق، فأشار الوزير "ابن العلقمي" على الخليفة أن يبعث له بالهدايا السنِيّة، ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم في دار الخلافة، وأشار بعض أصحاب الخليفة عليه أن يبعث له شيئاً يسيرا، فأرسل إلى هولاكو بشيء يسير من الهدايا، فلما بلغته تلك الهدايا غضب ورآها شيئاً حقيراً، وأرسل إلى الخليفة يطالبه أن يبعث له من أشار عليه بإرسال تلك الهدايا الحقيرة التي لا تليق بمقامه، فلم يفعل الخليفة ذلك ولا بالى به حتى جاء الوقت ووصل "هولاكو" ومن معه إلى بغداد بتلك الجنود الكثيرة التي لا تحصى عدداً، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم بقية الجيش، قد صُرفوا عن استقطاعاتهم التي يُعطون إياها.
بل ويذكر أهل التاريخ: أن بعضهم صار يستجدي في الأسواق وأبواب المساجد، وصار الجند يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات، ومنهم من يكاري على فرسه، ليصلوا إلى ما يتقوتون به.
حتى أنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم، ويحزنون على الإسلام وأهله.
فتأمل ما آل إليه الحال! من غاية في الضعف والذلة، بسبب مشورة وزير السوء الرافضي "ابن العلقمي".
ولهذا كان أول من برز إلى التتار عندما قدموا بغداد هو "ابن العلقمي"، وقد أشار على الخليفة بمصانعتهم، وقال: أخرج أنا إليهم في تقدير الصلح وتقريره، فخرج وتوثق لنفسه من التتار، ثم رجع إلى المستعصم، وقال: إن السلطان يا مولانا أمير المؤمنين قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يُؤثر إلا أن تكون الطاعة له، وينصرف عنك بجيوشه، وقال له من باب إظهار الصورة الحسنة عند الخليفة، فيا مولانا أمير المؤمنين ليتك تفعل هذا، فإن فيه حقن دماء المسلمين، وبعد ذلك يمكننا أن نفعل ما نريد، ثم عاد وأشار على الخليفة بالخروج إلى "هولاكو" وأن يمثل الخليفة العباسي بين يدي "هولاكو" لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق للخليفة العباسي المستعصم بالله، والنصف الآخر ل"هولاكو".
فخرج الخليفة المستعصم بالله في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء، ورؤوس الأمراء والأعيان، وذلك بمشورة من "ابن العلقمي" الذي ما أراد بهم خيراً، فلما اقتربوا من منزل السلطان "هولاكو" حجبوهم عن الخليفة، وقتلوا عن آخرهم، ولم يبق مع الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، وأحضر الخليفة بين يدي "هولاكو" فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجة نصير الطوسي الرافضي والوزير "ابن العلقمي"، وقد أُحضر من دار الخليفة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والجواهر، والأشياء النفيسة.
ثم أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على "هولاكو" أن يصالح الخليفة، فقال الوزير "ابن العلقمي" -لكيده ومكره وحقده على الإسلام وأهله- متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، فحسّن ل"هولاكو" قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة ل"هولاكو" أمر بقتله، وقيل: إن من أشار بقتل الخليفة الوزير "ابن العلقمي" والمولى نصير الطوسي، وكلاهما رافضي، وكان النصير عند "هولاكو" قد استصحبه ليكون في خدمته كالوزير المشير.
تأمّل! لما قدم الخليفة إلى هولاكو تهيب من قتله لقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما تهيب من ذلك -رغم جبروته وطغيانه- هوّن عليه الطوسي الرافضي والوزير بن العلقمي ذلك فقتلوه، قيل: إنه خنق خنقا، وقيل: إنه أغرق.
وسبحان الله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[عمران: 26].
فباؤوا بإثمه، وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء، وأولي الحل والعقد في بلاده، ثم بعد ذلك مالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والشيوخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقنا الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعلى الأماكن فيقتلونهم بالأسطح، حتى تجري الميازيب من الدماء في الشوارع، وكذلك كانوا يدخلون عليهم في المساجد والجوامع، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إلى اليهود والنصارى! وإلى دار الوزير "ابن العلقمي" الرافضي! وكذلك طائفة من التجار أخذوا لهم أمان بما بذلوا عليه أموال جزيلة، حتى سلموا وسلمت أموالهم.
وعادت بغداد -بعد أن كانت آنس المدن كلها- خرابا، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وصدق فيهم قول القائل:
ودارت على الإسلام أكبر فتنة | وسلت سيوف البغي من كل غادر |
وذُلّت رقاب من رجال أعزة | وكانوا على الإسلام أهل تناصر |
وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق | تزورهمو غرثى السباع الضوامر |
وهتك ستر للحرائر جهرة | بأيدي غواة من بوادٍ وحاضر |
وجاؤوا من الفحشاء مالا يعده | لبيبٌ ولا يحصيه نظم لشاعر |
وبات الأيامى في الشتاء سواغبا | يبكّين أزواجا وخير العشائر |
وشتت شمل الدين وانبتّ حبله | وصار مضاعاً بين شر العساكر |
وقد اختلف في عدد القتلى ممن مات ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة، فقيل: ثمانمائة ألف.
وقيل: مليون.
وقيل: بلغ القتلى مليونين.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان دخول التتار إلى البلاد في أواخر محرم، ومازال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله يوم الأربعاء رابع عشر من شهر صفر، وعفي قبره ولم يعرف، وقُتِل معه ولده الأكبر أحمد وولده الأوسط، وأسر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل -والله أعلم-.
وكان الرجل من بني العباس يُستدعى به من دار الخلافة، فيخرج بأولاده ونسائه، فيُذهب به إلى مقبرة الخلاّل، فيذبح كما تُذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.
فتأمل غاية الذلة والمهانة الذي تسبب به وزير السوء ابن العلقمي، وصدق قول القائل في حالهم آنذاك في تفرقهم وتشتتهم:
يا رُبَّ أم وطفل حيل بينهما | كما تفرق أرواح وأبدان |
وطفلة مثل عين الشمس إذ طلعت | كأنما هي ياقوت ومرجان |
يقودها العلج للمكروه مكرهة | والعين باكية والقلب حيران |
وكان يوماً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان، فتفرقوا وتمزقوا كل ممزق، واقتسم أولئك التتار النساء، وارتكبوا معهن الفواحش، والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئا مما نزل بهم، وأضحت البلاد خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس، وقُتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات، مدة شهور ببغداد.
وأراد الوزير "ابن العلقمي" الرافضي -قبحه الله ولعنه- أن يعطل المدارس والمساجد، ويرفع المشاهد والقبور والأضرحة لمن يزعم أنهم أولياء، ويجعل بغداد مجالا للرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون بها علمهم.
والحمد لله أنّ الله لم يقدره على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة المؤلمة، وأتبعه بولده.
ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوما، بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس!
كأنْ لم يكنْ بين الحجونِ إلى الصفا | أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر |
وأصبح القتلى في الطرقات كأنهم التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت جيفهم، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد غير بغداد، فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون -فإنا لله وإنا إليه راجعون-.
ثم بعد ذلك نودي ببغداد بالأمان، فخرج من تحت الأرض من كان بالمطامن والمقابر، كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه! ولا يُستغرب ذلك، فأربعون يوما وهم مدفونون تحت الأرض -والله المستعان-.
ثم بعد ذلك أخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من شدة الأمراض والوباء، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى) [طه: 8].
فجائع الدهر أنواع منوعة | وللزمان مسرات وأحزان |
وللحوادث سلوان يهونها | وما لما حل بالإسلام سلوان |
وكان رحيل السلطان المسلط "هولاكو" -قاتله الله- عن بغداد، في جمادى الأولى من هذه السنة، رحل إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمين علي بهادر وإلى الوزير الرافضي بن العلقمي الذي لم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، فمات جهدا وغما وحزنا وندما، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وقد كان رافضيا خبيثا رديء الطوية على الإسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، إلا أنه مالأَ الكفار على الإسلام وأهله، وكان نتيجة فعله ما حل بالإسلام وأهله مما تقدم ذكره، ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم، وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة -إن شاء الله- أخزى وأشد.
وقد رأته امرأة ذات يوم وهو في الذل والهوان، وهو راكب في أيام التتار على برذون، وهو مرسّم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه، وقالت: يا "ابن العلقمي" أهكذا كان بنوا العباس يعاملونك؟!
فوقعت كلمتها في قلبه، وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا، وقلة وذلة، ودفن بعد ذلك في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانة والذل على أيدي التتار والمسلمين مالا يحد ولا يوصف.
إخواني: إن هذه القصة تذكر لنا تلك المأساة العظيمة التي تسبب بها وزير السوء "ابن العلقمي"في سقوط تلك الدولة الفتية دولة بني العباس، التي كان تدين لها مشارق الأرض ومغاربها بالولاء والطاعة، ثم تمالأ عليها إلى أن أسقطها حقدا وضغينة للإسلام وأهله.
إنها حقاً قصة مؤلمة، فإن هذه الدولة لم تنته نهاية على عاديّة، أو زالت من غير ضحايا إنما زالت وخلفت جروحا لا تزول من القلوب..
يؤرقني حنينٌ وادّكارُ | وقد خلت المرابع والديارُ |
تناءى الظاعنون ولي فؤاد | يسير مع الهوادج حيث ساروا |
حنين مثلما شاء التنائي | وشوق كلما بعد المزارُ |
وليلي بعد بينهمو طويل | فأين مضت لياليّ القصارُ |
وقد حكم السهاد على جفوني | تساوى الليل عندي والنهارُ |
سهادي بعد نأيهمو كثير | ونومي بعدما رحلوا غرارُ |
فمن ذا يستعير لنا عيونا | تنام وهل ترى عينا تُعارُ؟! |
فلا ليلي له صبح منير | ولا وجدي يقال له عثارُ |
وكم من قائل والحي غادٍ | يحجّب ظعنه النقع المثارُ |
وقوفك في الديار وأنت حي | وقد رحل الخليط عليك عارُ |
ولكن العاقل هو الذي يستفيد من دروس الزمان، والقصص التي تجري على الإنسان في حياته.
وهذه القصة لها فوائد:
منها: الاستفادة من قصص التاريخ، حيث يجب على الإنسان أن يعي قصص التاريخ ويدرسها، حتى لا يقع في الخطأ الذي وقع فيه غيره، وحتى لا يكون ضحية مؤامرة قد وقع مثلها في سالف الأزمان، وهذه سنة الله -جل وعلا- أن تتكرر الوقائع والأحداث، وصاحب البصيرة هو الذي يقلب التاريخ.
ولذا، فالواجب على المؤرخين والعقلاء، وولاة الأمور الذين ولاهم الله -سبحانه وتعالى- على الناس أن يطلعوا على قصص التاريخ، ويعرفوا مكائد العدو، حتى لا يُدخل عليهم من حيث لا يشعرون.
ومنها: الحذر من تقريب العدو، وإبعاد الصديق، ويقال: إن سقوط دولة بني أمية كان سببه أنهم أبعدوا الصديق؛ لأنهم قد أمنوا جانبه، وقربوا العدو، واتخذوه صديقاً، حتى يأمنوا شره!.
فما الذي حدث؟!
بقي العدو على عداوته وازداد عداوة وتمكينا، وأصبح الصديق عدواً.
لم؟
لأن الصديق إذا حرمته، ولم يجد منك وداً ولا مكانة، لعله لا يصبر فينقلب إلى عدو، وهذه فائدة مهمة ودرس مهم، ولذلك إذا وُجد الصديق يجب أن يعطى المكانة التي تنبغي له، وإذا وجد الإنسان الذي يرى منه حرصه على الأمة وعلى سلامة الناس وعلى توجيههم التوجيه السليم أن يُتخذ صديقاً، وأن يُعطى قدره الذي ينبغي له.
ومن الفوائد: اتخاذ المعين الصالح، والمستشار المؤتمن، ولذلك قال الإمام ابن حبان البستي: "رؤساء القوم أعظمهم هموماً، وأدومهم غموماً، وأشغلهم قلوباً، وأشهرهم عيوبا، وأكثرهم عدواً، وأشدهم أحزاناً، وأكثرهم في القيامة حساباً، وأشدهم -إن لم يعفو الله عنهم- عذابا، ومن أحسن ما يستعين به السلطان على أسبابه، اتخاذ وزير عفيف ناصح، فإن الوزير إذا غفل الأمير ذكره، وإذا ذكر أعانه، وإن سولت له نفسه سيئة صده، وإذا أراد طاعة نشّطه، فهو المحبب له إلى الناس، والمستجلب له دعاءهم".
وقال رحمه الله: "الواجب على السلطان قبل كل شيء أن يبدأ بتقوى الله، وإصلاح سريرته بينه وبين خالقه، ثم يتفكر فيما قلده الله من أمر إخوانه ورفعه عليهم، ليعلم أنه مسؤول عنهم في دق الأمور وجلها، ومحاسب على قليلها وكثيرها، ثم يتخذ وزيراً صالحاً عفيفاً نصوحاً، ولا يدوم مُلْكُ ملكٍ إلا بأعوان تطيعه، ولا يطيعه الأعوان إلا بوزير، ولا يتم له ذلك إلا أن يكون الوزير ودوداً نصوحاً، ولا يوجد ذلك من الوزير إلا بالعفاف والرأي، ولا يتم قوام هؤلاء إلا بالمال، ولا يوجد المال إلا بصلاح الرعية، ولا تصلح الرعية إلا بإقامة العدل، فكأن ثبات الملك لا يكون إلا بلزوم العدل، وزواله لا يكون إلا بمفارقته".
وقال بعض الكتّاب: "إن السلطان إذا كان صالحاً ووزراؤه وزراء سوء منعوا خيره، فلا يقدر أحد أن يدنو منه، ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح، لا يقدر أحد أن يتناوله وإن كان إلى الماء محتاجاً، وإنما الملك زينته أن يكون جنده ووزراؤه ذوو صلاح، فيسددون أحوال الناس، وينظرون في صلاحهم".
وكان كسرى يُعرف بالحكمة، ومن أقواله: "إنما الملك بالأعوان".
ومن فوائد هذه القصة: أنه ينبغي تقوية جيش المسلمين، خصوصا إذا كانت تلك البلاد مما يخاف عليها المسلم، ويظنها بعد الله ملجأ إذا حدث أي حادث، ومما يجب حمايتها، فيجب تكثير الجيش والإغداق عليهم، وأذكر مثالاً: هذه دولة النمسا، يقال: إن عدد أهلها أربعة ملايين، ومع ذلك لا تطمع أكبر دولة أن تقتحمها.
لم؟!
يقال: لأنهم يجندون مليوني شخص، كلهم مدربون على السلاح، ومتى احتيج لهم وجُدوا.
فيجب تقوية الجيش، ألا ترى أنّ "ابن العلقمي" عندما أراد تضعيف تلك الدولة العباسية أضعف الجيش وقللهم، وأشار على الحاكم بتقليل رواتبهم، وهذا يؤدي بالإنسان إلى الحقد؛ لأن من طبيعة الإنسان أنه متى أعطي أحب، ومتى مُنع بغض، إلا من رحمه الله ووفقه للعمل بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ولكن مع هذه الشبهات والشهوات، متى يعرف الإنسان هذا الحق؟
ولذلك، يجد من أهل الشر من يدخل عليه مدخل سوء، ويسوّل له شراً، ولكن عندما يعطى يشكر النعمة، وقد قيل:
أَحْسِنْ إِلى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ | فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ |
ومن الفوائد التي يستفيدها المسلم: معرفة منزلة الولاء والبراء، والولاء والبراء هو أوثق عرى الإيمان بنص حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال صلوات ربي وسلامه عليه: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" [رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني، سلسة الأحاديث الصحيحة (998)].
كيف تعرف هذا الفرد معك أو عليك؟
إنما بالولاء للعقيدة الصحيحة، والبراء من العقيدة الباطلة، فيوالي أهل الإسلام وأهل التقوى، ويتبرأ من أهل الشر وأهل الضلال الذين يريدون في أمة الإسلام كيداً وضلالاً.
ومن الفوائد المهمة التي يستفيدها المسلم الذي يخاف على هذه الأمة الضياع: معرفة أحقاد أعداء الإسلام للإسلام وأهله، قال الله -جل وعلا-: (ما يَوَدُّ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِن رَّبِّكُمْ)[البقرة: 105].
وأكثر الناس شراً على أهل الإسلام وأهل السنة، هم أحفاد "ابن العلقمي"، وتأملوا في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، سترون من بداية فتنة ابن سبأ إلى آخر حياة المؤلف، في كل زمن تظهر لهم مئات المكائد لأهل الإسلام.
ولذلك، يجب على أهل الخير من الدعاة والمخلصين أن ينتبهوا لهذا غاية الانتباه، وأن يقربوا وجهات النظر، وأن يعلموا أن كثيراً من الأمور الإفسادية الموجودة، يجب أن تعالج بالحكمة وبالدليل الشرعي، وبالنصيحة والهدوء، وعدم الاستفزاز.
هذه الكلمات أبعثها رسالة لأهل الخير والمخلصين ممن ولاهم الله شأن المسلمين، سواءٌ كان حاكماً أو وزيراً أو متنفذاً، فإن هذه القصة التي ذكرت في سقوط دولة بني العباس إنما هو ربطُ واقعٍ قديم، بواقعٍ حاضر قد تؤدي الغفلة عنه إلى أن يتكرر ذلك الماضي المر الأليم، حتى يكون واقعاً في أزماننا هذه.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يقي هذه الأمة كل شر، وأن ينجينا من مكائد الكائدين، وأحقاد الحاقدين، وأن يسلمنا من مكائد أحفاد "ابن العلقمي"، وأن يبصر ولاتنا بهم، وأن يوفقنا ويسددنا لصالح القول والعمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.