البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتخلف مع رسله ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم، سنة الابتلاء، فلن تقام دعوة وينشر دين وتحيى أمة إلا بسلوك طريق الابتلاء؛ فالابتلاء هو الاختبار الحقيقي لصدق الإيمان، وهو محك الصبر والثبات، وهل دخول الجنات والفوز بالدرجات ونيل المرضات والتمتع بأعلى اللذات إلا بالصبر على الابتلاء والمكروهات، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة..
الحمد لله مبلغ الراجي فوق مأمولة، ومعطي السائل زيادة على مسؤوله، أحمده على نيل الهدى وحصوله، وأصلي على محمد عبده ورسوله، الذي أدى الأمانة،ونشر الديانة، ونصح لهذه الأمة،وكشف تعالى به الغمة، وجاهد في الحق حق جهاده حتى تركنا على المحاجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وداعيا عن دعوته.
أما بعد: فإن من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتخلف مع رسله ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم، سنة الابتلاء، فلن تقام دعوة وينشر دين وتحيى أمة إلا بسلوك طريق الابتلاء؛ فالابتلاء هو الاختبار الحقيقي لصدق الإيمان، وهو محك الصبر والثبات، وهل دخول الجنات والفوز بالدرجات ونيل المرضات والتمتع بأعلى اللذات إلا بالصبر على الابتلاء والمكروهات، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة؛ فالراحة والسرور لن ينالوا إلا بالتعب والجد والحزن قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:34].
وعندما بكت فاطمة رضي الله عنها على أبيها صلى الله عليه وسلم وهو يعاني من سكرات المرض وتقول: واكرب أبتاه، فقال: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم " رواه البخاري، وذلك لأنه سيودع دار المحن والابتلاءات إلى أحسن وأعظم جوار إلي الرفيق الأعلى.
عباد الله: يا أتباع محمد بن عبدالله الابتلاء لازم من لوازم الدنيا وأصل من أصولها لا ينفك عنه أي مخلوق مهما كان حاله مؤمنا كان أم كافرا صالحا كان أم فاسدا، ولكن شتان من كان إبتلاؤه ابتلاء اصطفاء واختيار ومن كان ابتلاؤه محض اختبار، وشتان من ابتلاؤه من أجل الإسلام والدعوة إليه والدفاع عنه، ومن كان ابتلاؤه من أجل الدنيا وحطامها.
وقد يسأل سائل أو يبعث الشيطان برأس حائر فيقول: لماذا يبتلينا الله عز وجل؟ وما يفعل بعذابنا وآلامنما وهو غني عنا؟
وهذا السؤال إنما يسأله من لا يعلم الحكمة من الابتلاء، فإن الابتلاء له حكم كثيرة منها:
1- تنقية الصف المسلم
فالابتلاء يمحص المسلم وينقي المسلمين من الدخلاء والأدعياء والمنافقين، قال تعالى أحكم الحاكمين: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3].
فالابتلاء يظهر الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، ولما نزل الابتلاء بأهل المدينة يوم الأحزاب ثبت المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، في حين قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا.
2- تهذيب النفوس
فالنفس قد تتكبر بما تحت سلطانها من متاع الدنيا الفانية، فتنسى حقيقتها وقدرها وتنسى حقيقة الدنيا، فتركن إلى الدنيا وتظن أنها قادرة عليها،، فيأتي الابتلاء فيعيد للنفس صوابها ورشدها وتعلم أنها قد تسلب ما فيه من نعم ومتع في أي لحظة، قال تعالى:(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
3- معرفة عز الربوبية وقهرها، ومعرفة ذل العبودية وكسرها وما يستتبع ذلك من الإخلاص والإنابة إلى الله والإقبال عليه بالتفرغ والدعاء قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42].
وللابتلاء فوائد جمة ومنافع عظيمة منها:
1- رفع الدرجات وتكفير السيئات
قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشكاها إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.
وعند البخاري والنسائي وابن ماجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".
لذلك قال الله عز وجل في شأن الصابرين: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وقال تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الإنسان:12].
والعبد لئن يكفر الله عز وجل ذنوبه وخطاياه في الدنيا بالابتلاءات خير له من أن تبقى له يوم القيامة حيث لا كفارة لها إلا بالحسنات والسيئات، ونار الآخرة أعظم من نار الدنيا بسبعين ضعفاً.
2- الابتلاء دليل على قوة الإيمان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه..." أخرجه البخاري وأحمد.
فبعض الناس قد يبتلى بفقد ماله وولده فيصبر ويحتسب، وبعضهم يبتلي حذائه فيسخط ويجزع، والله أعلم بعباده فيبتلى كل واحد على قدر دينه وقوة إيمانه.
3- الابتلاء عنوان المحبة
فكثير من الناس يعتقد أن الابتلاء سخط من الله عز وجل على عباده، ولو كان الأمر هكذا لما كان الانبياء أشد الناس إبيتلاء، فالابتلاء في الدنيا عنوان محبة الله عز وجل لعباده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يصب منه" رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضى فله الرضى، ومن سخط فله السخط" أخرجه الترمذي وابن ماجه.
4- الابتلاء طريق الجنة
قال الله عز وجل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ....) [البقرة:214]، وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".
نسأل الله عزو جل أن يرفع درجاتنا ويكفر سيئاتنا ويدخلنا الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه غنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
عباد الله: إن رسولكم الكريم صلوات ربي وتسليماته عليه قد تعرض هو وأصحابه الأكرمين لشتى صنوف الابتلاءات فصبروا لها صبر الجبال الشوامخ وضربوا أروع الأمثلة في ذلك المضمار. فمنذ أن جهر الرسول صلي الله عليه وسلم بدعوته المباركة وصدع بالحق وهو في محن وابتلاءات نفسية ومعنوية وبدنية، قالوا عنه شاعر ومجنون وكاذب وساحر وقالوا يعلمه بشر من أهل الكتاب، وحاولوا إثنائه عن دعوته بشتى الأساليب والمفاوضات والعروض المغرية، ولما تحطمت محاولاتهم البائسة علي صخرة إيمان الرسول صلي الله عليه وسلم وإصراره علي مواصلة الدعوة، أوقدوا له ولأتباعه نار التعذيب والاضطهاد والتنكيل بمنتهي الوحشية، حتى قال الرسول صلي الله عليه وسلم واصفا حاله مع الاضطهاد: "لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يوم وليلة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال" الترمذي وصححه الألباني.
- فقد سبوه وشتموه وتفلوا في وجهه وضربوه بالحجارة، ووضعوا سلا الجزور علي ظهره وهو ساجد، وكادوا أن يخنقوه بثيابه وهو يصلي، وهموا بقتله عدة مرات، وأذوه في بناته عندما طلق ولدي أبي لهب بنتيه رقية وأم كلثوم، ووضعوا الشوك في طريقه، وأغروا به السفهاء والعبيد والسوقة ليعترضوا طريقه، وحاصروه وأتباعه ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، وهو صابر محتسب راض بقضاء يتألم من إعراضهم ويسأل الله لهم الاهتداء والرشاد.
- وأصحابه الأكرمين، مصابيح الدجى، وخير الورى، ثبتوا علي البلاء ثبات الجبال الشوامخ، فهذا أبو بكر يقوم يوما يدعو في المسجد للإسلام فيهجم عليه المشركون، ويضربونه ضربا مبرحا حتى كادوا أن يقتلوه، وينزو علي صدره الكافر الفاجر عتبة بن ربيعة ويضربه بالنعال حتى أخفى معالم وجهه من شدة الضرب، وحمل إلي بيته مغشيا عليه لا يشكون في موته، ومع ذلك أول ما يفيق من إغماءته يقول: ماذا فعل رسول الله؟ فأي حب هذا؟ وأي تضحية تلك التي قدمها الصديق رضي الله عنه لخدمة الدين والثبات حتى الممات؟
وغيره من الصحابة الأطهار ضربوا أروع الأمثلة في الصبر علي الابتلاء، فعثمان بن عفان كان عمه الحكم بن أبي العاص يلفه في الحصير ويدخن عليه حتى يكتم أنفاسه، ومصعب بن عمير حبسته أمه وأجاعته حتى تحشف جلده مثل الحية وكان من أنعم شباب قريش، وخالد بن سعيد حبسه أبوه ومنع عنه الطعام حتى كاد أن يهلك، وعثمان بن مظعون ضرب علي عينه حتى كادت أن تذهب، وهؤلاء جميعا كانوا من ذوى المكانة والشرف في مكة، فما بالكم بالذي جري للضعفاء والأرقاء، منهم من مات تحت التعذيب مثل ياسر وزوجته سمية أول شهيدة في الإسلام، صبروا علي القتل ورفضوا أن يتنازلوا عن دينهم، ورضوا بالجنة عن الدنيا واستعذبوا كل ما نالوه من إيذاء وتنكيل في سبيل الله عز وجل، وزنيرة النهدية ضربت حتى فقدت بصرها، وصبرت علي الابتلاء، فرد الله عليها بصرها يوم الهجرة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:24] وخباب بن الأرت وضعوه علي الجمر المشتعل فما أطفأه إلا ودك ظهره الذي ذاب من جمر النار، وأصابه البرص بعدها، وبلال وما أدراكم ما فعل بلال، الذي صار صبره مضربا للأمثال، فقد هانت عليه نفسه في الله، فلم يعط المشركين أي إجابة سوي قوله: "أحد أحد"
والأمثلة كثيرة -يا عباد الله- ونحن في أمس الحاجة لاقتفاء آثار هؤلاء العظماء والسير علي دربهم للوصول إلي ما وصلوا إليه.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وارزقنا الثبات حتى الممات، وصلي وسلم وبارك علي عبدك ونبيك وحبيبنا وقرة عيوننا محمد وأقم الصلاة.