السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
إن الله -تعالى برحمته ولُطفه- شرعَ لخلقه وأخبرَهم بمن يلوذون، وكيف يستعيذُون؛ لتصلُحَ أديانُهم وتسلمَ أبدانُهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألم ترَ آياتٍ أُنزلَت هذه الليلة لم يُرَ مثلهنَّ قط:.. هكذا وصفَ -صلى الله عليه وسلم- السورتَين العظيمَتَين؛ لأنهما تحوِيان سرًّا إلهيًّا كبيرًا، وحِصنًا من الله عظيمًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله لا مانِعَ لما وهَب، ولا واهب لما سلَب، أحمده سبحانه وأشكره، فطاعته أفضَل مكتَسَب، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، هو المرجوّ لكشف الشدائد والكُرَب، وأشهد أنّ نبيَّنا محمَدًا عبد الله ورسوله الأسوَةُ في كمال الخلُق وحسنِ الأدَب، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المقاماتِ والرُّتَب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المنقَلَب.
أما بعد: (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
إن الله -تعالى برحمته ولُطفه- شرعَ لخلقه وأخبرَهم بمن يلوذون، وكيف يستعيذُون؛ لتصلُحَ أديانُهم وتسلمَ أبدانُهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألم ترَ آياتٍ أُنزلَت هذه الليلة لم يُرَ مثلهنَّ قط: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق:1]، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس:1]" (رواه مسلم).
هكذا وصفَ -صلى الله عليه وسلم- السورتَين العظيمَتَين؛ لأنهما تحوِيان سرًّا إلهيًّا كبيرًا، وحِصنًا من الله عظيمًا، وسلاحًا يدفعُ به المؤمنُ شياطينَ الجنِّ والإنس، ويُواجِهُ بها شُرورَ الحياة ومصاعِبها، والكائدِين فيها والحاسِدين، والساحرين، والوسواس والموسوِسين.
وسورةُ الفلق وأختُها سورةُ الناس آياتٌ بيِّناتٌ تذكُر الداء والدواء، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُولِيهما عنايةً خاصَّةً، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتعوَّذ من الجانِّ وعين الإنسان، حتى نزلَت المُعوِّذتان، فلما نزلَتا أخذَ بهما وتركَ ما سِواهما" (رواه الترمذي وحسَّنه).
قال ابنُ القيم -رحمه الله- عن هاتين السورتين: "إنَّه لا يستغني عنهما أحدٌ قطُّ، وحاجة العبد إلى الاستعاذة بهما أعظمُ مِن حاجته إلى النَّفَس والطّعام والشّراب واللِّبا".
وقال أيضا: "بل هاتان السورتان من أعظم براهين صدق رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-".
وقال أيضا: "فقد جمعتا الاستعاذة من كل شر ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها".
أيها المسلمون: هاتان السورتان توجيهٌ من الله -تعالى-؛ للعِياذ بكنَفِه، وكأنما يفتحُ الله -تعالى- للمُؤمنين حِماه، ويقول لهم في مودَّةٍ ورحمةٍ: تعالَوا إلى الحِمَى، تعالَوا فأنا أعلمُ بضعفِكم وما حولَكم من مخاوف، وأقدرُ على عدوِّكم.
والقصدُ منهما: هو تعميقُ التوحيد في النفوس، وأنه وحده القادرُ على دفع الخطَر ورفعِه. بعبادة عظيمة، ألا وهي الاستعاذة؛ لنسترضِيَ بها من نستعيذُ به -سبحانه-.
ففي المُعوِّذة الأولى نستعيذَ ونحتمِي بربِّ الصباح المُنفلِق بنور الصُّبح بعد شدَّة الظُّلمة، وهذا كالمثَل لمجِيء الفرَج بعد الشدَّة. "فإن الفلق الذي هو مبدأ ظهور النور وهو الذي يطرد عسكر المفسدين في الليل، فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص إلى (مخبئه) وتأوي الهوام إلى أحجرتها، والشياطين إلى أمكنتها، والشيطانُ تُساعِدُه الظُّلمةُ على الانطِلاق والإيحاء.. فأمر الله -تعالى- عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها ويقهر عسكرها وجيشها" ( بدائع الفوائد لابن القيم).
وفي تخصيصِ الفلق بالذِّكر إيماءٌ بأن القادرَ على فلقِ الصُّبحِ وإزالَة ظلُمات الليل عن العالَم قادرٌ على أن يُزيلَ كلَّ ظلامٍ، وأن يرفعَ كل ظُّلم عن كل مظلومٍ؛ فلا يأسَ ولا قُنوطَ مع فَالِقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وهذا هو الذي نُؤمِّلُه ونرجُوه مهما ضاقَت الحالُ بالناس في معايشهم، وبتربص العدو بهم.. نتفاءل بالانجلاء عن مرابطينا ومجاهدينا في حدودنا وعلى أهلِ فلسطين واليمن وبورما وسنة إيران، ونتفاءل أن ذلك مُؤذِنٌ بفرَجٍ -إن شاء الله- قريب؛ فإن الفرَجَ مع الكرْبِ، وإن النصرَ مع الصبرِ، وإن مع العُسر يُسرًا.
أيها المسلمون: وفي المُعوِّذة الثانية أمرَ الله الناس أن يستعيذُوا بربِّهم الذي يصُونُهم، وبملِكِهم الذي أمرَهم ونهاهم، وبإلههم الذي يعبُدونَه من شرِّ الشيطان الوسواس الخنَّاس؛ الذي هو أصلُ الشرِّ الذي يصدُرُ منهم والذي يرِدُ عليهم. والوسوسةُ هي أخطَر صِفاتِه، وأشدّها شرًّا، وأقواها تأثيرًا؛ فإن القلبَ يكون فارِغًا من المعصِية، فيُوسوِسُ إليه ويُحسِّنُها له، ويُقبِّحُ له الخيرَ ويُثبِّطُه عنه، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الشيطانُ جاثِمٌ على قلبِ ابنِ آدم؛ فإذا سهَا وغفلَ وسوسَ، وإذا ذكرَ اللهَ خنَس"؛ أي: هربَ وتراجَع.
عباد الله: قراءةُ المُعوِّذتين تُشرعُ في كل وقتٍ، وتتأكَّدُ قراءتُهما دُبُر كلِّ صلاة؛ وإذا أوَى إلى فِراشِه كلَّ ليلةٍ ويمسحُ بهما ما استطاعَ من جسَده، كما تُسنُّ قراءةُ المُعوِّذتين ثلاثًا في أذكار الصباح والمساء؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عنها بأنها: "تكفيكَ من كل شيءٍ".
والمُعوِّذتان رُقيةٌ يرقِي بها المُسلمُ نفسَه، ويرقِي بها غيرَه؛ بل إن المُعوِّذتين تُقرأُ لتحصينِ النفسِ قبل نُزول البلاء.
الخطبة الثانية:
فإن من أعظم السنن التي هجرها كثير من المسلمين سُنَّةُ مَجالس الذكر؛ فقد حضَّ عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حضًّا مباشرًا، ورَغَّب فيها ترغيبًا عظيمًا، ورتَّب لها جائزة جزلة؛ أتدرون ما هي؟ إذًا استمعوا لهذا الحديث: قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلاً، يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ قَعَدُوا مَعَهُمْ وتَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ-: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ. فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، فيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ. فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ".
فعرفنا من هذا الحديث العظيم أن مجلس الذكر يعني اجتماع عدد من المسلمين في مسجد أو بيت أو غيرهما، يقومون بالتسبيح والتكبير والتهليل والحمد والاستغفار والدعاء، فكانت النتيجة أن غفر الله لهم، وأجارهم من النار؛ بل وغفر لمن شاركهم مجلسهم مع عدم انعقاد نيَّته للذكر! ولذا روى مسلم أن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "مَا أَجْلَسَكُمْ؟" قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلاَمِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: "آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟" قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ: "أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ".
فلنعود جلساءنا -ولو لدقائق- على مثل هذه المجالس، والخير عادة، وفي اجتماعاتنا الأسرية كل مغرب، وفي تنزهاتنا، وفي لقاءاتنا الأخوية.. لنخصص كتبًا يقرأ منه صفحة مثلاً، أو حديث مرتجل من وحي الخاطر عن تذاكُر نعم الله؛ لا سيما نعمة الإسلام.
اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين، واجمَعهم على الهدى، واكفِهم شِرارَهم، واجمَعهم على الحق والهُدى. اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.