الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
والمشركون الأوائل عرفوا معنى (لا إله إلا الله)، فامتنعوا عن قولها، على النقيض من حال كثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم يقولون: (لا إله إلا الله) صباح مساء، ولا يعرفون معناها؛ فتجدهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويتصدقون، ومع ذلك يدعون الأنبياء والصالحين، أو غير ذلك من المعبودات الباطلة، فوقعوا في الشرك الأكبر الذي ينافي كلمة التوحيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71]
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله -عز وجل- سبب الأمن في الدنيا، والهداية في الآخرة: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]
أيها المسلمون: يقول الله عز وجل: (قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) [الإسراء: 56-57]
نزلت هذه الآية الكريمة فيمن يعبد الملائكة والأنبياء، وقيل: نزلت في أناس كانوا يعبدون الجن، فأسلم الجن وبقي من يعبدهم على عبادته، ولا منافاة بين القولين فإنها عامة لكل من دعا غير الله -تعالى- وهذا المدعو صالح في نفسه.
وقد بينت الآية أن الذين يدعوهم أهل الشرك من الملائكة والأنبياء والصالحين، خَلقٌ من خلق الله، يتقربون إلى الله بعبادته وطاعته وحده، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، لا يملكون كشف الضر ولا جلب النفع لأحد فكيف يُدعون مع الله؟ ففي هذه الآية بطلان عبادة غير الله، فهل العابد الخائف الراجي يستحق أن يُعبد؟!
قال شيخ الإِسلام: "فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين، سواء كان بلفظ الإستغاثة، أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع آخر، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال (وَلاَ تَحْوِيلاً) نكرة تعم أنواع التحويل؛ فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يُغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله".
فإذا كان دعاء الأولياء والصالحين شركًا، عرفنا أن التوحيد هو دعاء الله وحده لا شريك له؛ فكان في هذه الآية تفسير التوحيد، وأنها دلت على أن دعوة الله وحده هي التوحيد
وكل من أشرك بالله -تعالى- لم تصح له عبادة.
فقريش -مثلاً- كانوا يحجون ويعتمرون ويتصدقون ويصلون الرحم، ويكرمون الضيف، ويذكرون الله، ويعترفون بأن الله هو المتفرد بالخلق، والرزق، والتدبير، ولكنهم يتخذون وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويذبحون لهم.
ففعلهم هذا أفسد جميع عباداتهم، وقد دعا صلى الله عليه وسلم هؤلاء المشركين إلى إفراد الله بالعبادة؛ بقوله صلى الله عليه وسلم -كما روى ذلك الإمام أحمد-: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" فأبوا أن يقولولها، لأنهم يعرفون معناها -لا معبود بحق إلا الله- وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 5] فقاتلهم صلى الله عليه وسلم؛ ليكون الدين كله لله.
والمشركون الأوائل عرفوا معنى (لا إله إلا الله)، فامتنعوا عن قولها، على النقيض من حال كثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم يقولون: (لا إله إلا الله) صباح مساء، ولا يعرفون معناها؛ فتجدهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويتصدقون، ومع ذلك يدعون الأنبياء والصالحين، أو غير ذلك من المعبودات الباطلة، فوقعوا في الشرك الأكبر الذي ينافي كلمة التوحيد.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "فلا خير في رجلٍ جُهال الكفار أعلم منه بلا إله إلا الله".
وبهذا يتبين أن شرك المتأخرين هو جنس شرك الأولين، بل المتأخرين أشد فإنهم يشركون في الرخاء والشدة، وأولئك يشركون في الرخاء فقط.
عباد الله: ذكر الله -عز وجل- قصة إبراهيم -عليه السلام- مع قومه وهي غاية التوحيد، فقال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 26 – 28]
تبرأ إبراهيم -عليه السلام- إمام الحنفاء من كل ما يعبده أبوه وقومه، ولم يستثن إلا الذي خلقه، وهذا واجب على كل مسلم؛ فالعبادة حق الله فلا بد من إخلاصها له وحده.
أما من يعبد الله ويعبد معه غيره فهذا هو الشرك، وهو الواقع من قوم إبراهيم -عليه السلام- فقد عبدوا الله، وعبدوا معه آلهتهم، كما دلت الآية، قال -تعالى-: (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وهذا مع الأسف -هو واقع كثير ممن ينتسب إلى الإِسلام، فيعبدون الله، ويعبدون معه غيره من أصحاب القبور بالذبح لها، والطواف حولها، وغير ذلك، فوقعوا في الشرك الأكبر.
والكلمة الباقية هي: (لا إله إلا الله) بإجماع أهل العلم، وقد عبر عنها الخليل -عليه السلام- بمعناها الذي أريدت به؛ فعبر عما نفته بقوله: (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون)، وعما أثبتته بقوله: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني، فقصر العبادة على الله وحده، ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك.
قال ابن كثير: "هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي (لا إله إلا الله)، جعلها في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله منهم".
عباد الله: حققوا التوحيد في أنفسكم تفوزوا برضى ربكم، فإن من فضائل تحقيق التوحيد: مغفرة الذنوب وتكفيرها، ومن فضائله: أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
ومن أجلِّ فوائده: أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا أكمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
ومنها: أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومنها: أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه.
ومن أعظم فضائله: أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة؛ متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإِخلاص لله؛ كملت هذه الأمور وتمت.
ومن فضائله: أنه يسهِّل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات، ويسليه عند المصيبات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات، لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي، لما يخشى من سخطه وعقابه.
ومنها: أن التوحيد إذا كمل في القلب حبَّب الله لصاحبه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
ومنها: أنه يخفف عن العبد المكاره، ويهون عليه الآلام، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإِيمان، يكون تلقيه المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة، وتسليم ورضى بأقدار الله المؤلمة.
ومن أعظم الفضائل: أنه يحرِّر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألهًا متعبدًا لله، لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء: أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققًا كاملاً بالإِخلاص التام، فإنه يُصير القليل من عمله كثيرًا، وتُضـاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض وعمارها من جميع خلق الله، وذلك لكمال إخلاص قائلها.
وكم ممن يقولها لا تبلغ هذا المبلغ، لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإِخلاص الكامل مثل ولا قريبُّ مما قام بقلب هذا العبد.
ومن فضائل التوحيد: أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الجنة وجعل مفتاحها لا إله إلا الله، أحمده -سبحانه- وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص فيها، موقن بها، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، جدد ما اندرس من معلمها، ومع ذلك قال له ربه: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19]
فصدع بها ونادى، ووالى عليها وعادى، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
دعا إلى هذه الكلمة عشر سنين، ولم يدع قبلها إلى زكاة ولا صيام، ولا حج وعمرة إلى بيت الله الحرام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه؛ الذين جاهدوا من امتنع من قولها، أو صد عنها، أو نقضها.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وأخلصوا العبادة لربكم تسعدوا وتنجوا.
أيها المسلمون: توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له هو لب دعوة الرسل وذروة سنامها، والحد الفاصل بين الإِيمان والكفر، والإِسلام والشرك، وهو القدر المنجي من الخلود في النار في الآخرة، والعاصم للدم والمال والذرية في الدنيا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره، وبه أرسل الرسل وأنزل الكتب، كما قال -تعالى-: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف: 45]"
وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25] وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل: 36]
وقد ذكر الله -عز وجل- عن كل رسول من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه: (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59]
جعلنا الله وإياكم من أهل التوحيد ممن أخلصوا العبادة لربهم وتابعوا سنة نبيهم.
هذا، وصلوا وسلموا.