الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | حسن السبيكي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
فحين يرعى الإسلام حرية الإنسان، فانه يؤسسها بداية على تحريره هو من كل ما يكبل إرادته ويلغي إنسانيته وكرامته, يحرره في قلبه ومشاعره من سيطرة الأهواء والدوافع الشيطانية الانحرافية, ويحرره في عقله وتفكيره من قيود الأوهام والخرافات والانحرافات الفكرية, ويحرره في بدنه وكيانه من عناصر الظلم ..
يقول الله عز وجل: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب:72].
كذلك خلق الله تعالى الانسان في أحسن تقويم، ليحمل هذه الأمانة العظمى التي أبت السموات والأرض والجبال أن تحملها، اشفاقا من وطأتها الجسيمة ومسؤوليتها العظيمة.
لكن الإنسان المكرَّم حملها تكليفا وتشريفا, إنها أمانة الخلافة في الأرض: "إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإنّ الله مستخلفُكم فيها فينظرَ كيف تعملون" رواه مسلم.
أمانة العبودية والعبادة الخالصة لله رب العالمين (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذريات:56], وإعمار الأرض بالصالحات وفعل الخيرات (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) [الأعراف:56], هذه الغاية التي أخبر الله تعالى بها الملائكة فتهيبوها خوفًا من إفساد هذا المخلوق الجديد في الارض: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30].
من أجل ذلك أوجد الله تعالى الانسان، مدعوما بكل المؤهلات والمعينات اللازمة لحمل تلك الأمانة, إذ خلقه على فطرة التوجه إليه بما نفخ فيه من روحه: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم:30], وسلَّحه بطاقة العقل المميز والمفكر ليتبين الخير من الشر، والحق من الباطل، وركَّب فيه مقوِّمات الإحساس والإدراك والاتصال والتواصل، كالسمع والبصر والكلام (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:8-10], ولم يكله إلى خذه المواهب، ولم يجعل حجته عليه فيها وإنما أعانه وأيّده في رحلة الحياة بإنزال الكتب وإرسال الرُّسل، تذكيرًا وهداية وكان ذلك مناط حجته عليه (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) [النساء:165], ثم سخَّر له ما في السموات وما في الارض جميعًا منه، ووضعه في دنيا الابتلاء والاختبار أمام عناصر الفتنة والغواية بين كيد الشيطان وأهواء النفس الأمَّارة وجاذبية متاع الدنيا, لكنه سبحانه أبان له عن مسلك المسير وعاقبة المصير: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طـه:123-124].
هكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الإنسان واقعًا مسرح الحياة الدنيا بين الحرية والمسؤولية، حرًا مريدًا، ومكلفًا مأمورًا، مثلما هو في وجوده وحياته على ازدواجية الخلق والخلق, فهو في خلقه، أي في تكوينه وضرورات وجوده مجبر ومسير لا إرادة له ولا حول، كما في ولادته وموته وما يناله من الابتلاءات والمصائب، وهو في خلقه، أي في تصرفاته وأفعاله حر ومخير، يتحمل عواقب قراراته وأفعاله خيرا أو شرا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46] (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم:39]. وتلتقي فيه الحرية والمسؤولية على التلازم والاقتضاء، فحرُّيته شرط في كونه مسؤولا، وإلا فلا حساب إذن ولا ثواب ولاعقاب, وهل يعقل أن يحاسب على ما لا إرادة له فيه، على غرار قول الشاعر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له * إياك إياك أن تبتل بالماءِ
ومسؤوليته تقييد لحريته, وانضباط والتزام بمقتضيات النظام العام وما يفرضه من واجبات وآداب، في علاقته بربه وبالناس والمجتمع والحياة كلها، حتى يستقيم على مقتضى رسالته على الأرض: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الانسان:2].
بهذا المعنى يربط الإسلام بين الحرية والمسؤولية في تلازم وتكامل، لتكون حرية الإنسان إرادة خيرة فاعلة في مسؤولياته بالرغبة والاقتناع، وتكون المسؤولية استثمارا عاقلا ونافعا لإرادته الحرة، من أجل مصلحة الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والإنسانية جميعا.
أما الحرية المطلقة بغير قيود ولا حدود، فهي سلوك بهيمي فوضوي مفسد ومدمر، لا يليق بكرامة الإنسان صاحب الرسالة، ولا بحياته ومجتمعه.
إن حقيقة التلازم بين الحرية والمسؤولية في حياة الانسان أشبه بحال السائق وقواعد نظام السير: فأنت حر أن تركب سيارتك من ذوقك واختيارك، وتسير حيث تشاء، لكنك مطالب بمراعاة قواعد نظام السير واحترامها، حفاظا على سلامتك وسلامة غيرك، ولو أردتها حرية مطلقة في الطريق بغير التزام ولا انضباط، جنيت على نفسك وعلى غيرك وعلى النظام العام.
والواقع شاهد بالمآسي المفجعة لحوادث السير على مغبة التهور والشطط وخرق حدود الحرية وضوابطها.
فلابد لحرية الإنسان من ضوابط تكبح جماحها وتلزمها سمت الاعتدال وتروضها على التفاعل الإيجابي مع الواجب والمسؤولية, فمهما كانت حريتك حقا مشروعا، فهي تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك، وأيًا كان حقك فيها فهو قرين الواجب نحو غيرك، وتلك ضرورة الحياة الاجتماعية الإنسانية التي لا تستقيم على الأمن والاستقرار بغير انضباط والتزام.
بهذا يرجى زوال مظاهر الخلط والاضطراب والالتباس الحاصلة في هذا الموضوع، لأن كثيرا من الناس يحكمون أهواءهم وأنانياتهم في فهم الحرية وتقدير المسؤولية وممارستهما.
وإنما فسدت أحوال المجتمعات واضطربت وضاعت المصالح والأمن والاستقرار بعاملين رئيسيين:
أحدهما: الإفراط والغلو والشطط في طلب الحرية وممارسة حقها، بغير ضوابط عقلية ولا دينية ولا خلقية، فتصبح تهورا وتمردا تعقبه الشرور والمفاسد.
وثانيهما: التفريط والتقصير في أداء واجب المسؤولية، عن جهل أو تجاهل أو تمرُّد، مما يؤدي الى ضياع الحقوق والمصالح.
لهذا يحرص الإسلام بتشريعه الربَّاني الحكيم على التلازم والتوازن والاعتدال بين الحرية والمسؤولية وما يتعلق بهما من الحقوق والواجبات، كأساسٍ لتوازن الحياة الإنسانية أخلاقيا واجتماعيا وحضاريا.
فحين يرعى الإسلام حرية الإنسان، فانه يؤسسها بداية على تحريره هو من كل ما يكبل إرادته ويلغي إنسانيته وكرامته, يحرره في قلبه ومشاعره من سيطرة الأهواء والدوافع الشيطانية الانحرافية, ويحرره في عقله وتفكيره من قيود الأوهام والخرافات والانحرافات الفكرية, ويحرره في بدنه وكيانه من عناصر الظلم والقهر والاستعباد والمهانة, وذلك من أجل أن تبقى كل معاني العبودية والخضوع خالصة لله وحده، وهو الذي أراد لعباده حياة التحرر والكرامة والامتياز: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الاسراء:70].
وتحضر في هذا السياق قولة الفاروق عمر –رضي الله عنه- المشهورة وهي من حكمة الإسلام: "متى استعبدتم الناس وقد ولَّدتهم أمهاتهم أحرارا".
وحين يرعى مسؤوليته، فإنه يربيه على تقديرها وتعظيم شأنها باعتبارها أمانة وعهدا مرعيا، وذلك من خصال الإيمان: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8] [المعارج:32].
وفي الحديث النبوي: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له", بل يعتبر الإسلام الناس جميعا مسؤولين، كل في دائرته وبحسب استطاعته ووسعه’ كما هو البيان الصريح في الحديث الصحيح: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" رواه الشيخان.
وإنما سميت المسؤولية كذلك ووصف الإنسان بها لأنه متبوع بالمساءلة والحساب بموازين الدنيا أولاً ثم يوم القيامة، فان أفلت من الأولى فلا مفر من موازين الحق يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران:30], (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر:92-93] (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) [الصافات:24]
هكذا يعلمنا الإسلام تقدير أمانة المسؤولية وعدم التهافت عليها بغير مؤهلات ولا اقتدار؛ لأن ذلك من أكبر عوامل الفساد والانهيار، كما يقرر الحديث النبوي: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
ويقصُّ القرآن الكريم علينا أمثلة القدوة الصالحة الجامعة بين شرطين متكاملين في تحمل المسؤوليات: الأهلية التي تعني الخبرة والاقتدار المعرفي والبدني، والأمانة التي تعني الصدق والإخلاص والإحسان في الأداء والانجاز، كما في قصة يوسف حين قربه الملك وخيره بين مهام الدولة: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55], وفي قصة موسى لما اقترحته الفتاة على أبيها: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص:26], وفي قصة سليمان حين طلب إحضار عرش بلقيس: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) [النمل:39].
تلك سير العارفين بقدر أمانة المسؤولية ومقومات تحملها على استحقاق وجدارة لا عن تطفُّلٍ واغترار.
نفعني الله واياكم بالقرآن العظيم وبسنة رسوله الكريم، وأجارنا من عذابه الأليم،
الخطبة الثانية
في صحيح مسلم أن أبا ذر –رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها".
كذلك يعلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقدِّر أمانة المسؤولية، وألا نستهين بها، خاصة إذا كانت إشرافا على مصالح الناس وحقوقهم, فبقدر ما تعظم تكاليفها يعظم حملها ويشتد حسابها يوم القيامة "وانها يوم القيامة خزي وندامة", لهذا لا يجوز التجرؤ على المسؤوليات بغير اقتدار على إنجازها بصدق وكفاية وأمانة "إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها".
ما أحوج الأمة الاسلامية اليوم، بل العالم كله، إلى فهم الحرية والمسؤولية وممارستهما على نور من شريعة الله تعالى، شريعة الحق والعدل والرحمة والتمام والكمال والتوسط والاعتدال.
الدِّين الذي يكلف العباد في غير ما حرج ولا مشقة ولا إعنات، ولا يحاسبهم بما فوق طاقاتهم (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) [البقرة:286], ولا يؤاخذهم بالخطأ والنسيان والإكراه، كما قرَّر الحديث الشريف: "رفع عن أمَّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فلنتذكر أننا بقدر ما نحن أحرار، فنحن مسؤولون أيضا، وإن مآل حياتنا يوم القيامة إلى المساءلة والحساب، يوم يوضع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه" رواه الترمذي.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو اللباب.