المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالرحمن الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
إن الهدف الذي يسعى إليه عدوُّنا إبليس أن يجعلنا معه في نار الجحيم، هذا هو الهدف الذي يريد الوصول إليه، وإنما يصل إليه من خلال خُطوات يتدرج فيها؛ ولذا قال ربنا وهو الصادق الحكيم -جل وعلا- في أربعة مواضع من القرآن الكريم: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) [البقرة: 168].
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نَحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فاعلموا -رحمكم الله- أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون: لقد أبدى الله -جل وعلا- وأعاد في كتابه العزيز الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42] أبدى وأعاد في شأن قصة وجود الخليقة في هذه الحياة الدنيا.
قصتنا نحن البشر مع عدوِّنا وعدوِّ الله إبليس بيَّنها الله -جل وعلا- منذ اللحظات الأولى التي خلَق الله فيها أبانا آدم -عليه السلام-، وبيَّن لنا نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- تفاصيلَ هذه القصة وبدايتاها في الأزَل الأول، حينما عزَم عدوُّنا إبليس على عداوة هذا المخلوق الذي كرَّمه الله بأن أسْجَد له الملائكة، لكن إبليس حمَله الحسد والاستكبارُ على أن يُعلن العداوة لهذا النبي الكريم والمخلوق الجديد أبينا آدم -عليه السلام-، وقد جاء في الخبر أنه أطاف بأبينا آدم، ورأى أنه أجوف، فقال: لئن سُلِّط عليّ لأَعصينه، ولئن سُلِّطت عليه لأُغوينه.
ثم إن الله -جل وعلا- قد أعلَمنا وأخبرنا بهذه العداوة العظيمة التي قطع فيها الشيطان ميثاقًا على نفسه بأن يُضلنا، وأن يُغوينا، وأن يتسلَّط علينا من كل صوب وحَدَبٍ؛ ولذلك قال ربنا -جل وعلا-: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27].
هذه موعظة من الله لعموم المكلفين من بني آدم ألا يَفتنهم الشيطان، وألا يَجعلهم زائغين عن الهدى والحق الذي بيَّنه لنا، وضرَب الله لنا المثل وذكَّرنا ببَدء الخليقة: (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]، أخرجهما من دار النعيم المقيم إلى دار النَّصَب والتعب، وسعى لأن يكشِف عنهما عوراتهما؛ ليبدي لهما ما وُوُرِي عنهما من سوءَاتها، يَنزع عنهما لباسهما، هكذا أراد، وهكذا فعَل؛ ولذلك احتال وكذَب، وقاسَمهما إني لكما لمن الناصحين: (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27].
ثم إن الله -جل وعلا- بيَّن لنا أن هذا العدو عدوٌّ مبين، وواضح في عداوته، فقال عز من قائل: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 6].
إن الهدف الذي يسعى إليه عدوُّنا إبليس أن يجعلنا معه في نار الجحيم، هذا هو الهدف الذي يريد الوصول إليه، وإنما يصل إليه من خلال خُطوات يتدرج فيها؛ ولذا قال ربنا وهو الصادق الحكيم -جل وعلا- في أربعة مواضع من القرآن الكريم: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) [البقرة: 168].
إنها خطوات واحدة بعد أخرى، قال سبحانه في موضعين من سورة البقرة: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ) [البقرة: 168]، وقال سبحانه في سورة الأنعام: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأنعام: 142]، وقال جل وعلا في سورة النور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور: 21].
وفي سورة البقرة: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 169]، فلن يدعو الشيطان أحدًا من المكلفين إلا إلى السوء، وإلى كل شر، وإلى كل بغي، وإلى كل ظلم: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، وهذا أعظم وأشد وأشنع من الأول، فيدخل فيه كل كافر وكل مبتدع، وكل فاسق وكل عاص؛ لأن مَن حرَّف بالقول أو الفعل، فقد افترى على الله -جل وعلا- لأن سبيل الله بيِّنة واضحة، فيها الهدى والنور، والحق والخير والهدى، وما بضدها إنما فيه كل ضد ذلك.
أيها الإخوة الكرام: إن إبليس لخبير بنفسيات بني آدم، عليم بالمداخل التي يدخل بها على كل أحد، فقد عايَش الخليقة أُمة بعد أُمة، وقرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيلٍ؛ ولذلك يدخل على كل أحد بحسب ما يَعرِف عنه من هذه المداخل.
إن الهدف الأكبر هو أن يَصِلَ بابن آدم إلى الكفر والشرك، والضلال الذي يوصله إلى النار، لكنه في أحوال ربما يتدرج، فلا يأتي إلى الإنسان من باب يعلم أنه يَمتنع من دخوله، فيَرضى بما دون ذلك، قد لا يصل إلى بعض الناس أن يَجعلهم مشركين كفارًا، لكن يرضى منهم بالبدعة، قد لا يستطيع أن يَصِل إلى بعض الناس إلى البدعة، لكنه يرضى منهم بالكبائر من الذنوب، قد لا يستطيع أن يصل ببعض الناس إلى الكبائر، لكنه يرضى منهم أن يَقَعُوا في المعاصي، قد لا يصل إلى بعض الناس أن يُوقعهم بالمعاصي، فيقيم ويُصِر عليها، لكنه يرضى منهم أن ينصرفوا عن المستحبات والأعمال الفاضلات، وهكذا لا يزال الشيطان يتدرج ويتلمَّس المداخل، فتجده يدخل على المؤمن المحافظ على صلاته في المسجد مع المسلمين وفي أوقاتها، فيصرفه ابتداءً عن السنن الرواتب؛ لأن السُّنن سِياج وحماية للفريضة؛ كما جاء في الحديث أن المؤمن إذا نقصت فرائضه يوم القيامة، قيل: انظروا هل له من نوافل؟ فتُكمل بها.
فهو يخترق سياج النوافل والسنن الرواتب، فإذا هدَمها صارت الفريضة بلا سياج، فأمكن بعد ذلك أن يُخِلَّ بهذه الفريضة؛ يتأخر عن تكبيرة الإحرام، يتأخر عن الوقت الفاضل، يتأخر عن كمال هذه الفريضة، وعن شيءٍ من واجباتها، فلا يزال به حتى يَخترق هذه الفريضة، ويُخل بأساساتها.
وهكذا الشيطان حينما يدخل على ابن آدم بمداخل المقارنات: أنت مسلم وغيرك كافر، فما أنت عليه من معصية لا تضرُّك، وهكذا يُزيِّن، ويُسوِّف، ويُخيل، ويتدرَّج خطوة بعد أخرى.
واقرؤوا -أيها الأخوة المؤمنون- إن شئتم فيما ذكره المفسرون في القصة التي أوردوها عند قول الله -جل وعلا-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر: 16].
لو رجعتُم إلى تفسير هذه الآية الكريمة في تفسير ابن كثير، لوجدتم قصة عجيبة لا يَملِك معها الإنسان إلا أن يُكثر من دعاء الله -جل وعلا-: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، يا مُصرِّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك".
إنه انتقال في تلك القصة عبر خطوات الشيطان من كون ذلك الإنسان في منازل العُبَّاد القريبين من الله -جل وعلا-، المعظمين في الملأ الأعلى إلى أن يكون كافرًا مشركًا بالله -جل وعلا-، كيف ذلك؟ إنما كان هذا بخُطوات الشيطان.
ولذلك لا يزال إبليس يُنوِّع في أساليبه على كل أحد، ولا يزال يتدرج به، ويُسلِّط عليه أعوانَه من شياطين الإنس وشياطين الجن؛ ذلك أن إبليس قد اتَّخذ من بعض بني آدم جندًا يسلِّطهم على الخلائق، وخاصة أولئك الذين يدعون الناس إلى الضلال والإغواء، الذين يدعون الناس إلى الضلال والغواية، وبخاصة في مثل زماننا اليوم عبر وسائل الإعلام، حينما تُزيَّن المعاصي والمنكرات، وتُزخرَف الضلالات.
وإلا فهل يُعقَل -أيها الأخوة الكرام- أن يُسمى الفجور والفحش: فنًّا؟ هل يعقل أن يمرَّر على مفاهيم المسلمين بأن من يتعاطى الفواحش علَنًا، فاحشة واضحة بيِّنة، فيها كشف العورات، واقتراف مقدمات الزنا علانيةً في الشاشات، ومع ذلك يقدَّم هؤلاء على أنهم أصحاب فنٍّ؟!
يُمرَّر هذا على مسامع الناس، حتى إن المسلم المصلي العابد الذي يأنَف ذلك في أهله ولا يرضاه، لو قيل له: إنك تقرأ أو تحضُر مقابلةً مع من هذا وصفه الذين يتعاطون الفاحشة ومقدماتها، ويقدمون على أنهم أصحاب فن، لكان حافلًا بأن يشاهد هذا الذي يسمى فنانًا، ولكنه يتعاطى الفواحش ومقدماتها عَلَنًا.
والمقصود بالفاحشة هنا الأمر الفاحش، على سبيل المثال: أن يخرج رجل مع امرأة بثياب شبه عارية، لا تستر إلا السوءَة، وهي ليست بزوجة له، ولو كانت زوجة له وتعاطى هذا على ملأ، فهذه فاحشة بيِّنة، وماذا تكون الفاحشة إن لم يكن هذا وصفها؟! فكيف وهو يتعاطاها حينًا بعد حين، وزمنًا بعد زمن؟
ويرضى كثير من المسلمين أو يتغافلون ويخادعون ويقبلون أن هذا فن، إنها خطوات الشيطان التي تُغيَّر بها المفاهيمُ، وتُبَدَّلُ بها القناعات، وهذا من غُربة الدين، وعدم فَهْم خُطوات الشيطان والحذر منها؛ ولذا حذَّرنا نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- من مثل هذه الحال، حينما أخبر بأنه يأتي في آخر الزمان التلاعب بالألفاظ، وتبديل الحقائق، فتُسمَّى الأشياء بغير اسمها؛ كما قال في شأن الخمر، وهكذا في أمور أخرى.
أيها الإخوة الكرام: إن المؤمن ينبغي أن يكون الهدف الأكبر عنده في هذه الحياة كيف يغادرها والله راض عنه، كيف يغادرها حينما يحل أجله وهو قريب من ربه؛ سليم القلب من الغواية والشرك والبدعة والضلالة، سليم اليد واللسان من التسلط على الناس، وأخذ حقوقهم، والبغي عليهم، فالمؤمن من سَلِم المسلمون من لسانه ويده.
إن الله -جل وعلا- قد أبدى وأعاد في شأن هذه الغواية والخطط التي يَحيكها الشيطان، ونصوص القرآن والسنة حافلة ببيان هذا الأمر.
وتأمَّلوا -أيها الإخوة- في واحدة من الصور والوقائع التي يَعقِد لها الشيطان اجتماعه اليومي مع أوليائه، وقد تقدَّم أن الشيطان له من الأولياء والأعوان والوكلاء مَنْ هم من بني الإنسان، وهكذا له أيضًا من جنسه من بني الشيطان.
إن الشيطان ليَعقِد -أيها الإخوة الكرام- كل يوم اجتماعًا بكبار أوليائه وأعوانه؛ حدثنا بهذا الصادق المصدوق محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقد جاء في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن إبليس يَعقِد عرشه على الماء" يعني: في البحر "مع أعوانه، فيسأل أحدهم: ماذا صنعت؟ قال: ما تركته حتى شرِب الخمر، قال: ما فعلت شيئًا، غدًا يتوب ويرجع، ويسأل الآخر، فيُخبره بغوايةٍ فعَلها مع بني آدم، فيقول: ما صنعت شيئًا، يريد أن يكون الإضلال أكبر من ذلك، حتى يقول أحدهم: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين زوجه، فيقول: أنت، أنت، ويَحتضنه ويُقرِّبه إليه"؛ لأن الطلاق في قاموس الشيطان هدف كبير، لِما يترتَّب عليه من مفاسدَ عظيمة، وشناعات كثيرة؛ في فرقة الأحباب، وحصول العداوات، وانحراف الأولاد في كثير من الأحيان، فالشيطان يعقد هذه الاجتماعات ولا يزال يتابع، حتى إنه ليحرص على الإنسان، وبخاصة في آخر لحظات حياته؛ جاء في الأثر أن الشيطان إذا علِم أن ابن آدم يُحتضَر، قال: "أدركوه، فإن لم تُدركوه فاتَكم، فيُحضِر الشيطان أعوانه عند رأس ابن آدم، فلا يزالون يُزيِّنون له الباطل وهو يُغرغر برُوحه، فيقول أحدهم: مُتْ يهوديًّا، فإنه خير الأديان، وآخر يقول: مُتْ نصرانيًّا، فإنه خير الأديان، وإن لم يستطيعوا ذلك، ذكَّروه بمعاصٍ كان يَأْلَفها".
ولذا أُثِر عن بعض الذين كانوا يُصرون على المعاصي أنهم ينطقون بها عند موتهم -عياذًا بالله-، ومَن لم يُثبَّت في هذه الحال أزاغه الشيطان؛ جاء عن عدد من الناس أنهم ذُكِّروا بمعاص ألِفوها وأقاموا عليها، فنطقوا بها، ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن رجلًا ممن كان يتعاطى الربا، ذُكِّر ب "لا إله إلا الله" عند موته، فرد الثلاثة عشر بأربعة عشر، منطق الربا الذي تعوَّده.
وذُكِّر أحدهم أيضًا ب "لا إله إلا الله" كما ذكَر ابن القيم، فردَّد كلمات الغناء التي كان يَأْلَفها -نعوذ بالله من هذه الحال-؛ لأن المثبَّت هو من ينطق التوحيد، ويستقر بها قلبُه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور: 21] "خطوات الشيطان" كما قال العلماء هي كل معصية، كل معصية هي خطوة؛ لأن المعاصي مثل السلسلة حلقة متصلة بأخرى، إذا أخذ الإنسان وسحَب الحلقة الأولى، قالت: أختي، أختي، وسحَبت مثلها، لا تزال السيئات -خُطوة بعد أخرى- يتدرَّج فيها الشيطان في هدْم سياج الإيمان لبني الإنسان، والمؤمن لا يزال مُحاذرًا من هذه الخطوات؛ لأن منتهى هذه الخطوات الشيطانية أن الإنسان المؤمن يتحول من هذا الإيمان إلى ضَعْفٍ في ضَعْف، خطوة بعد خطوة، حتى يُوشك أن يتلاشى؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام مخبرًا عن نتائج هذه الخطوات الشيطانية: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يَنتهب النُّهبة حين يَنتهبها وهو مؤمن".
إنها خطوات شيطانية يَحرِص من خلالها الشيطان على أن يألَف الإنسان الخطيئة والذنب، فلا يُفارقه حتى آخر لحظاته، وقد جاء فيما رواه الإمام الترمذي -رحمه الله- بسند صحيحٍ عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إن العبد إذا عمل الخطيئة نُكِت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو تاب ورجع صُقِل قلبه، وإن هو زاد، زِيدَ في تلك النكتة السوداء، حتى يَغشى قلبَه الرانُ، ثم تلا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قول الله -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]" إنه الرَّين، إنه الغطاء الذي يكون على قلب الإنسان، حتى تَأْلَف رُوحه هذه الخطوات الشيطانية، ويأْنَس بها، ولا يجد مجالًا للنكير والاستنكار فيها -نعوذ بالله من هذه الحال-.
أيها الإخوة الكرام: إن الخطوات الشيطانية كما تقدَّم قد تكون على مستوى الفرد، وقد تكون على مستوى الناس، ولا يزال الشيطان ينوِّع في هذه الأساليب -منها كما تقدَّم في شأن الفرد، أو في شأن الأمة- ليُفرِّق بينهم، ويُوغر الصدور، ويُثير الإحن، ولا يزال الناس يتفرقون بسبب هذه الإغواءات الشيطانية، وإنما يكون ذلك ببُعد الناس عن منهاج النبوة، وعما أخبر به الرب -جل وعلا-.
وما حال كثير من بلدان المسلمين اليوم إلا بسبب البعد عن منهاج ربِّنا وسُنة نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، هل انتشرت الفرقة والخلاف؟ وهل انتشر القتل والاستخفاف بأرواح الناس؟ وهل انتشر الظلم والتداعي إليه إلا بسبب البُعد عن منهاج النبوة؟!
إن الشيطان اليوم لفَرِحٌ مَحبور لِما يشاهد من فرقة المسلمين، واستهانتهم بدمائهم فيما بينهم، وفيما يكون من تباعُدهم عن تناصُر بعضهم، إن ذلك سببه كله ضَعْف الإيمان، والتعلق بالدنيا، وعدم أخذ الحسابات للآخرة للفوز فيها.
إن ذلك لا شك أنه مخالف لوصف النبي -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين بأنهم كالبنيان يشد بعضه بعضًا، لَمَّا وصل الشيطان إلى أن يكون في قلوب كثير من الناس، كل مُهتم بنفسه وراحته، ولو على حساب ظلم الآخرين؛ وقَع هذا التناحر، وضعْف الإيمان، وكثُرت الغوايات، وامتدت هذه الغوايات إلى الأمور الكبار المتعلقة بالأعراض والأرواح، والأموال والأنفس -نعوذ بالله من مثل هذه الحال-.
وما وُوجِه الشيطان بمثل أن يلازم الإنسان طاعة الرحمن؛ جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أن إبليس إذا رأى ابن آدم يسجد (يعني رآه يصلي) تولَّى باكيًا، ويقول: يا وَيْله (يعني: نفسه) أُمِر بالسجود فأبى، فله النار، وأمر بالسجود، فأطاع (يعني ابن آدم) فله الجنة".
إن المؤمن لن يواجه الشيطان بمثل الطاعة والأَوْبة إلى الرحمن، جاء في الأثر أن إبليس يقول: "أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار".
وربُّنا فتح الأبواب، وهيَّأ السُّبل لكل من تاب وأناب، ولا يهلك على الله بعد ذلك إلا هالك، فالله -جل وعلا- يقبل توبة المسيء مهما عظُم ذنبه: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر: 49]، وقال سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
فلن يكون سبيل في الانتصار على الشيطان بمثل طاعة الرحمن -جل وعلا-، والأَوْبة إليه، كلما زلَّت القدم، وكلما وقع الإنسان في السخط، فالله -جل وعلا- يقبل توبة التائبين، ويُقرِّب المنيبين، ويُعظِّم منازل العائدين.
جعلنا الله وإياكم على هذه السبيل-.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وارضَ عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِل الكفر والكافرين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم احقِن دماءهم، اللهم احمِ أعراضهم.
اللهم أصلح أحوالهم، اللهم فرِّج همومهم، ونفِّس كروبهم، ويَسِّر أمورهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم مَن أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا، فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ بلادنا بالأمن والإيمان، اللهم أسْبِغْ علينا النِّعم.
اللهم احْمِنا من الفتن ما ظهر منها، وما بطَن برحمتك يا أرحم الراحمين، وعُمَّ بذلك بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق وَلِيَّ أمرنا ونائِبَيْه لِما فيه خير للعباد والبلاد، اللهم اجعلهم هُداة مهتدين، غير ضالين ولا مُضلين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكْفِهم شرارهم يا رب العالمين.
اللهم عجِّل بالفرج واحقن الدماء، وصلاح الأحوال لإخواننا المبتلين في الشام وفي العراق، وفي مصر واليمن وفي ليبيا، وفي سائر البلاد يا رب العالمين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.
سبحان ربنا ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.