الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
العجيبُ أن ترى من اشتعلْ رأسُه شيباً وقاربَ الزَّوالِ، قد أشغلتْه هذه الأجهزةُ عن خواتيمِ الأعمالِ، فهو يخوضُ مع الخائضينَ، وتضيعُ أوقاتُه مع الجاهلينَ، سَألَ الفُضيلُ بنُ عِياض -رحمَه اللهُ- رجلاً، فقالَ له: كم عمرُك؟، فقالَ الرجلُ:
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، عمَّنا نِعَمًا وإنعامًا، واللهُ أكبرُ منَحَنا عقولًا وأفهامًا، والحمدُ للهِ لا رادَّ لما أرادَ، واللهُ أكبرُ ما لرزقِه من نَفادٍ، والحمدُ للهِ مُصرِّفِ الأوقاتِ، واللهُ أكبرُ مُيسِّرُ الأقواتِ، لا إلهَ إلا اللهُ قدَّرَ الأمورَ وقَضاها، وعلى ما سبقَ من علمِه أجَراها وأمضاها، سبحانَه وبحمدِه خلقَ الإنسانَ وصوَّرَه، وكتبَ رزقَهُ أجلَهُ قدَّرَه، وأشكرُه وأُثنِي عليه فلهُ الحمدُ في الأولى والآخرةِ، والَى علينا نعَمَه وآلاءَه باطنةً وظاهرةً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له مُقِرًّا بتوحيدِه ومُعترِفًا، جلَّ جلالُه لم يزَل بصفاتِ الكمالِ مُتَّصِفًا، إذا وعدَ وَفَى، وإذا أوعدَ عفَا، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه رفيعُ المقامِ جليلُ الجنابِ، اجتباه ربُّه واصطفاه، وقرَّبَه وأدناه، أنزل عليه ذِكرًا حكيمًا، وهدَى به صراطًا مُستقيمًا، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آلِه السادةِ الطيبينَ الأطهارِ، وأصحابِه الغُرِّ الميامينَ الأخيارِ، المُهاجرينَ منهم والأنصارِ، والتابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنَّهارُ .. أما بعد:
مشاهدُ عجيبةٌ .. وأحوالٌ غريبةٌ .. فهذا يجلسُ لوحدِه وليسَ معهُ أحدٌ، فتارةً يضحكُ، وتارةً يغضبُ، وتارةً يحزنُ، وترى في لحظةٍ على وجهِهِ جميعَ الانفعالاتِ، فتقولُ أمجنونٌ هذا أم تأتيهِ بعضُ الحالاتِ؟.
وهؤلاءِ أقاربُ وأصحابُ، قد اجتمعوا بعدَ طولِ غيابٍ، وإذا قد خيَّمَ عليهم صمتٌ مُطبقٌ، فتقولُ وأنتَ عليهم مُشفقٌ، أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لعلَّه ذكَّرَهم ما كانَ من خِصامٍ قديمٍ.
وهذا شابٌ كانَ مشهوراً ببِرِّه بوالديهِ الكِبارُ، يقومُ بخدمتِهم ومؤانستِهم باللَّيلِ والنَّهارِ، فأصبحَ إذا كانَ عندَهم نكَّسَ رأسَه وخفضَ بصرَه، مشغولاً عنهم فيتعجبونَ من حالِه ما الذي غيَّرَه؟.
وهذا زوجٌ وزوجتُه يجلسونَ في غرفةٍ واحدةٍ، الأجسادُ متقاربةٌ والقلوبُ والأرواحُ متباعدةٌ، فيبكي الطِّفلُ بينهما بُكاءً مريراً، فينظرُ كلٌّ منهما لصاحبِه بطَرْفٍ خفيٍّ، ليقومَ بإسكاتِ هذا الطِّفلِ الشَّقيِّ.
وهذا موظفٌ قد عطَّلَ مصالحَ المُراجعينَ، والملفاتُ قد تراكمتْ على مكتبِه مثلُ الجبلينِ، فهو يماطلُ في المواعيدِ البعيدةِ، ليتفرغَ لقِراءةِ ما بينَ يَديهِ من الرسائلِ العديدةِ.
فهل علمتم سببَ هذه المشاهدِ والأحوالِ والمآسي المُحزناتِ؟! .. إنَّها الجوَّالاتُ .. وما أدراكَ ما الجوَّالاتُ.
لن أتكلمَ عن فوائدَ الهواتفِ الذَّكيةِ الكثيرةِ، ولا أُريدُ أن أسردَ مخاطرَها الكبيرةَ، وإنما هذه نفثةُ مهمومٍ، وزفرةُ مكلومٍ، على ما سلبتْه مِنَّا هذه الأجهزةُ من أوقاتٍ، وعلى ما فرطنا بسببِه من أجورٍ وحسناتٍ.
لقد أصبحَ وجودَ هذه الهواتفِ ضرورةً وإدماناً، وبدونَها يصبحُ المرءُ ضائعاً حيراناً، يُدخلُ يدَه في جيبِه ليُخرجَ الجِهازَ لينظرَ فيه، وقبلَ أن يُدخلَه إلى جيبِه، يُخرجُه لينظرَ في شاشتِه مرةً أخرى، دونما سببٌ، وأما إذا نساهُ يوماً في بيتِه، فلا تسلْ عن المزاجِ والحالِ، فهو حزينٌ ومشغولُ البالِ، حتى يرجعَ إليه سريعاً ملهوفاً يُستقبلُ به عندَ البابِ، فيضمُّهُ بينَ يديه كأنَّه أمُّ لقتْ ابنَها بعدَ طولِ غيابٍ.
أخبروني كم ساعةٌ نقضي على هذه الأجهزةِ يوميَّاً؟، وصارحوني كم دقيقةٌ نفتحُ المصحفَ يوميَّاً؟، تخيَّلوا لو قضينا نصفَ الوقتِ الذي نقضيه على الجوَّالِ في قراءةِ القُرآنِ كلَّ يومٍ ونحن نعلمُ حديثَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"، فيا الله .. كم حسنةٌ نفوزُ بها في ذلكَ اليومِ؟ وكم ختمةً سنختمُ في الشَّهرِ؟ بل واللهِ لأصبحنا حفظةً لكتابِ اللهِ -تعالى-، لا ننسى منه حرفاً واحداً.
والوقتُ أنفسُ ما عُنِيتَ بحفظِه | وأراهُ أسهلَ ما عَلَيْكَ يَضيعُ |
يدخلُ أحدُنا في الصَّلاةِ وهي أعظمُ أعمالِنا، وقد أرسلَ رسالةً إلى صديقٍ أو قريبٍ، أو ينتظرُ مكالمةً من خليلٍ أو حبيبٍ، فهو مشغولٌ عن الصَّلاةِ وقراءةِ الإمامِ وأذكارِ الصَّلاةِ، فتكونُ الصَّلاةُ عليه أطولُ من ليلِ المحزونِ، فإذا سلَّمَ الإمامُ قفزَ من مكانِه كالمجنونِ، فيخرجُ ليرى شاشةَ جوَّالِه، هل وصلَ ما كانَ ينتظرُ من اتصالٍ أو رسالةٍ .. فحتى صلاتَنا لم تسلمْ من هذه الأجهزةِ .. يقولُ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه-: "ما ندمتُ على شيءٍ نَدمي على يومٍ غرَبَتْ فيه شمسُهُ، نَقُصَ فيه من أَجلي، ولم يزدَدْ فيه عَملي"، فكيفَ لو رآنا ابنُ مسعودٍ وأحوالَنا، لندِمَ أشدَّ النَّدمِ، على أمَّةٍ هي خيرُ الأمَّمِ.
نقضي ليالينا في تقليبٍ للشَّاشةِ ما بينَ رسالةٍ ومقطعٍ وردٍّ وتعقيبٍ، رسائلُ مختلطةٌ بالغثِّ والسَّمينِ والصِّدقِ والأعاجيبِ .. فآهٍ على ساعاتنِا وأيامِنا .. المفضَّلُ بنُ يونسٍ رأى محمداً بنَ النَّضرِ حزيناً كئيباً، فقالَ له: ما شأنُكَ؟، قَالَ: مَضتْ الليلةُ من عُمري، ولم أكتسبْ شيئاً، فإنَّا للهِ وإنا إليه راجعونَ.
عبادَ اللهِ: أمَّةُ (اقرأ) أصبحتْ لا تقرأُ إلا الرسائلَ ولو كانتْ طويلةً، والرُّدودَ ولو كانتْ ثقيلةً، كانَ الخليلُ بنُ أحمدٍ -رحمَه اللهُ- يقولُ: "أثقلُ السَّاعاتِ علي ساعةٌ آكلُ فيها"، لماذا؟ لأنَّها ساعةٌ لا يستطيعُ أن يقرأُ فيها ولا يكتبُ، وأما نحنُ فقد وجدنا حلَّاً لهذه المشكلةِ، فنحنُ نأكلُ باليُمنى ونقرأُ ونكتبُ ونصوِّرُ باليسرى، حتى لا تضيعَ علينا الأوقاتُ، وأصبحنا كحالِ أبي حاتمٍ الرَّازيِّ -رحمَه اللهُ تعالى-، فقد جاءَ في سِيرِ أعلامِ النُّبلاءِ في ترجمةِ الإمامِ أبي حاتمٍ: أنَّ ابنَه قالَ عنه: أنَّه كانَ يأكلُ واقرأُ عليه -أي: الكتبَ-، ويمشي وأقرأُ عليه، ويدخلُ الخلاءَ وأقرأُ عليه، وهكذا كانَ شُحِّ الوقتِ عندَ العُقلاءِ، أشدُّ من شُحِّ المالِ عندَ البُخلاءِ.
والمحزنُ جِدَّاً .. أنَّه لم يسلمْ من هذه الأجهزةِ، صغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا ذكرٌ ولا أُنثى، ولم يخلُ منها وقتٌ في اللِّيلِ والنَّهارِ، وإن كانَ اللهُ -تعالى- قد أقسمَ بالأوقاتِ لأنَّها عظيمةٌ، (وَالْفَجْرِ)، (وَالضُّحَى)، (وَالْعَصْرِ)، (وَاللَّيْلِ)، فماذا قدَّمنا فيها من الأعمالِ الصَّالحةِ؟ وقد جاءَ في الحديثِ: "لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن: عُمُرِه فيما أفناهُ"
العجيبُ أن ترى من اشتعلْ رأسُه شيباً وقاربَ الزَّوالِ، قد أشغلتْه هذه الأجهزةُ عن خواتيمِ الأعمالِ، فهو يخوضُ مع الخائضينَ، وتضيعُ أوقاتُه مع الجاهلينَ، سَألَ الفُضيلُ بنُ عِياض -رحمَه اللهُ- رجلاً، فقالَ له: كم عمرُك؟، فقالَ الرجلُ: ستُّونَ سنةً، فقالَ الفضيلُ: فأنتَ منذُ سِتينَ سِنةً تَسيرُ إلى ربِّكَ، تُوشكُ أن تَصلَ، فقالَ الرجلُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ، فقالَ الفُضيلُ: مَن عرفَ أنَّهُ عبدٌ للهِ، وأنَّه راجعٌ إليه، فليعلمْ أنهُ موقوفٌ ومسؤولٌ، فليعدَّ للسؤالِ جوابًا، فقالَ الرجلُ: ما الحيلةُ؟، فقالَ الفضيلُ: يَسيرةٌ، تُحسنُ في ما بقيَ، يُغفرُ لك ما مَضى، فإنَّكَ إن أسأتَ فيما بَقيَ، أُخذتَ بما مَضى وما بَقيَ، وصدقَ الشَّاعرُ:
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا | فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ للرَّأْسِ شَاعِلُ |
تَرَحَّلْ مِنَ الدنْيَا بِزَادٍ مِن التُّقَى | فَعُمْرُكَ أَيْامٌ وَهُنَّ قَلائِلُ |
باركَ اللهُ لي ولكم في الأوقاتِ، وجعلَها عامرةً بالطَّاعاتِ، وجعلني وإياكم من الصَّالحينَ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أمرَ بالمسارعةِ إلى الخيراتِ، ومبادرةِ الوقتِ قبلَ الفواتِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له في ربوبيتِه وإلهيتِه وما له من الأسماءِ والصفاتِ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُه ورسولُه المُبادرُ إلى الخَيراتِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه واصحابِه ذوي المناقبِ والكراماتِ، وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:
وأما الحلولُ .. فماذا عسى أن يَقولَ من اكتوى بنارِ هذه الأجهزةِ، وكيفَ يُسعفُ المُصابُ مصاباً مثلَه، وما حالي وحالُكم إلا كما قالَ القائلُ:
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى | طَبِيبٌ يُدَاوِي وَالطَّبِيبُ مَرِيضُ |
ولكن أتمنى أن نكونَ قد وضعنا يدَنا على مكانِ الألمِ، ولعلَّ أن يكونَ مِنَّا فيما مضى من أوقاتِنا بعضُ النَّدمِ، وعسى ربُّنا أن يُنقذَنا من الخسارةِ والإفلاسِ، في نعمةٍ قد خَسِر فيها كثيرٌ من النَّاسِ، كما قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "نِعْمَتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ".
فإن كُنتَ تستطيعُ أن تستغنيَ عن هذا الجهازِ، فعليكَ ب (أبو كشَّافِ)، وصدقَ من قالَ: "قديمُك نديمُك، ولو الجديدُ أغناكَ"، وإن كُنتَ لا تستطيعُ الاستغناءَ عنه طرفةَ عينٍ، فاحذفْ ما استطعتْ من البرامجِ التي تُشغلُ وقتَك الثَّمينَ، وإن كنتَ لا تسطيعُ هذه ولا هذا، فاللهُ المُستعانُ وعليه التُّكلانُ، فاسأل اللهَ -تعالى- النَّجاءَ، وعليكَ بكثرةِ الدُّعاءِ، ووقتُك وقتُكَ، فإنَّه حياتُكَ وعمرُكَ، فعسى يوماً أن تكونَ فخوراً بإنجازِكَ، أنَّك قد تعافيتَ من إدمانِ جِهازِكَ.
اللهمَّ باركْ لنا في أوقاتِنا وأعمارِنا يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ أصلح ذاتَ بينِنا، وألِّف بينَ قلوبِنا، واهدنا سبلَ السلامِ، وأخرجنا من الظلماتِ إلى النَّورِ، وبارك لنا في أسماعِنا وأبصارِنا وأزواجِنا وذرياتِنا وأموالِنا وأوقاتِنا، واجعلنا مباركينَ أينما كُنَّا، اللهم أعِنَّا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرينَ، لك شاكرينَ، إليك أواهينَ منيبينَ، لك مخبتينَ لك مطيعينَ، اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسل حوبتَنا، وثبِّت حجتَنا، واهد قلوبَنا، وسدد ألسنتَنا، واسلل سخيمةَ صدورِنا، اللهم اقسم لنا من خشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصيكَ، ومن طاعتِك ما تبلِّغنا به جنتَك، ومن اليقينِ ما تهوِّن به علينا مصائبَ الدنيا، اللهم وفقنا لما تحبُ وترضى واجعلنا هداةً مهتدينَ، اللهم اختم بالصالحاتِ أعمالَنا واجعل خيرَ أيامِنا يومَ لقائك، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةَ وقنا عذابَ النارِ، اللهم صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.