العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن رخاء العيش، وطيب الحال، من النعم التي تستوجب الشكر على العباد، والقيام بطاعة المنعم الجواد. وإن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة؛ لأنه معافى في بدنه، وآمن في بلده، ومترف في جسده، ولكن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الفضل العظيم، والخير الواسع العميم، أنعم على عباده بنعم لا تحصى، ودفع عنهم من النقم ما لا يعد ولا يستقصى، وتفضل عليهم بالعمل الصالح، وجازاهم عليه أفضل الجزاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلي الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي وصل بفضل ربه إلى أعلى مكان يصله الورى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وتعرفوا إلى ربكم في الرخاء يعرفكم في الشدة، تعرفوا إليه بالقيام بطاعته رغبة في ثوابه، وبالابتعاد عن معصيته خوفًا من عقابه.
إن رخاء العيش، وطيب الحال، من النعم التي تستوجب الشكر على العباد، والقيام بطاعة المنعم الجواد.
وإن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة؛ لأنه معافى في بدنه، وآمن في بلده، ومترف في جسده، ولكن هذه الأحوال لا تدوم، فقد يعقبها شدة، فيصبح مريضًا بعد العافية، وخائفًا بعد الأمن، وجائعًا بعد الشبع والترف.
فإذا كان العبد متعرفًا إلى ربه في حال الرخاء، عرفه الله في حال الشدة، فلطف به، وأعانه على شدائده، ويسر أموره؛ قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 1-2].
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5].
ولقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته مثلًا على ذلك، فيما قصه علينا من نبأ "ثلاثة ممن كانوا قبلنا، انطلقوا فآواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت الغار عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي طلب الشجر يومًا، فلم أرح عليهما، حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أحدًا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى طلع الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، حتى استيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلًا.
وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، أي احتاجت فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنَّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة إلا أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك أجره، وذهب، فثمرت له أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري، فقلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فهو لك من أجرك، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله واستاقه، ولم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرجوا يمشون" (البخاري (2152) مسلم (2743) أبو داود (3387) أحمد (2/116)).
فالأول من هؤلاء: ضرب مثلًا عظيمًا في البر بوالديه، بقي طوال الليل، والإناء على يده، لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والديه نومهما، حتى طلع الفجر.
وأما الثاني: فضرب مثلًا بالغًا في العفة الكاملة، حيث تمكن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه، ولكن لما ذكرته بالله تركها، وهي أحب الناس إليه، ولم يأخذ شيئًا مما أعطاها.
وأما الثالث: فضرب مثلًا في غاية الأمانة والنصح، حيث نمى للأجير أجره، فبلغ ما بلغ، وسلمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئًا، فكان من جزاء هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة، فأنقذهم من الهلاك.
وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة: من تعرف إلى ربه في حال الرخاء عرفه في حال الشدة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة"(الترمذي (2516) أحمد (1/308)).
أيها الناس: إن الشدائد أنواع منوعة، وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شدة الموت عند فراق المألوف، واستقبال المخوف، فإذا كان العبد ممن تعرف إلى الله في حال صحته وحياته، عرفه سبحانه في حال شدته عند وفاته، فهون الأمر عليه، وأحسن له الخاتمة، وانتقل من الدنيا على أحسن حال.
وأما إن كان معرضًا عن الله لم يزده الرخاء إلا بطرًا، وبعدًا عن الله -تعالى-، فحري بأن يكله الله إلى نفسه، ويتخلى عنه حال شدائده، فتحيط به سيئاته، ويموت على أسوأ حال، وأخبث مآل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قال الله -تعالى-: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[الزمر: 61 - 63].
اللهم وفقنا للتعرف إليك، والقيام بطاعتك، والطف بنا في الشدائد، ويسر أمورنا، إنك جواد كريم رؤوف رحيم.