العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
هذا مرثدُ بن أبي مرثد، كان يُهَرِّبُ الأسرى من مكة إلى المدينة، فعَلِمت به عَنَاق، ودَعَتهُ إلى الزنا، لكنه عَفَّ -رضي الله عنه- عن الحرام مع أن في عفافه هذا هلاكُه وافتضاحُ أمره، وقطعُ طريقٍ على المسلمين، لكنه آثَرَ ما عند الله -تعالى- على شهوة النفس العابرة....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، رافعِ الدرجات، وواضعِ البركات، ومقيلِ العثرات، وربِّنا في الحياة والممات، والصلاةُ والسلامُ على من خُتمت بدعوته الرسالات، نبينِّا محمدٍ عليه أزكى السلام وأفضل الصلوات.
أمَّا بعدُ: فأوصِيكُمْ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ ُفْلِحُونَ)[المائدة:100].
روى الترمذي وغيره وحسنه الألباني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان رجلٌ يقال له: مَرْثَدُ بن أبي مرثد، وكان رجلًا يحمل الأسرى من مكةَ حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بَغيٌّ بمكة يقال لها: عَنَاق، وكانت صديقة له -يعني في الجاهلية-، وإنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إليَّ عرَفَتْ، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحبًا وأهلًا، هلمَّ فبِت عندنا الليلة. قال: قلت: يا عناق، حَرَّم الله الزنا. قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أُسَراءَكم، قال: فتبعني ثمانية، وَسَلَكتُ الخَنْدَمَة -وهو جَبَل قُرب مكة-، فانتهيت إلى كهف أو غار فدَخَلتُ، فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالُوا، فظل بولهم على رأسي وعمَّاهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعتُ إلى صاحِبِي فحملتُه، وكان رجلًا ثقيلًا، حتى انتهيتُ إلى الإذخر -وهو موضع يكثر فيه شجر الإذخر-، ففككت عنه أَكْبُلَه -أي قيوده-، فجعلتُ أحمِلُهُ ويُعيِيني، حتى قدمتُ المدينة، فأتيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله، أَنكِحُ عناقًا؟ فأمسك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يَرُدَّ علي شيئًا حتى نَزَلَت: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)[النور:3]، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا مَرثَد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تَنكِحْهَا".
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: هذا مرثدُ بن أبي مرثد، كان يُهَرِّبُ الأسرى من مكة إلى المدينة، فعَلِمت به عَنَاق، ودَعَتهُ إلى الزنا، لكنه عَفَّ -رضي الله عنه- عن الحرام مع أن في عفافه هذا هلاكُه وافتضاحُ أمره، وقطعُ طريقٍ على المسلمين، لكنه آثَرَ ما عند الله -تعالى- على شهوة النفس العابرة.
إن العفافَ من أخلاق العظماء في كل مِلَّةٍ ونِحلة؛ فالعِفَّةُ خُلُقٌ عظيم من أخلاق أصحابِ المروءة، قال محمّد بن الحنفيّة -رحمه الله تعالى-: "الكمال في ثلاثة: العِفّةُ في الدّين، والصّبرُ على النّوائب، وحسنُ التّدبير في المعيشة".
لقد ذكر الله -تعالى- العِفة في عدة مواضع من كتابه الكريم، ومن أعظم نماذج العفة في القرآن الكريم: قصةُ نبي الله يوسفَ -عليه السلام- (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف:23].
فامتنع عليه الصلاة والسلام عن الوقوع في المعصية مع توفر أسبابها وقوة الداعي، فكان امتناعُه وعفتُه سبيلاً لأن يدخل السجن، والذي كان بوابته ليتسلم خزائن الأرض.
إن للعفة أنواعًا، وليست هي فقط في الامتناع عن إتيان الفاحشة أو مقدماتها، بل لها أنواع أخرى.
قال الماوردي -رحمه الله-: "والعفّة نوعان: أحدهما العفّةُ عن المحارم، والثّاني العفّةُ عن المآثم، فأمّا العفّة عن المحارم، فنوعان: أحدُهما ضبط الفرج عن الحرام، والثّاني كفّ اللّسان عن الأعراض، وأمّا العفّة عن المآثم فنوعان أيضا: أحدهما: الكفُّ عن المجاهرة بالظّلم، والثّاني: زجرُ النّفس عن الإسرار بخيانة".
إذا تبين ذلك فإن للعفة صورًا منها: ما تقدم من البعدِ عن الفاحشةِ ومقدماتِها، ومن أعظم مقدماتها إطلاق البصر فيما حرم الله، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)[النور:31].
من أَطلَقَ بَصَرَهُ أتعب قَلبَه، قال الأصمعي: رأيتُ جارية في الطواف كأنها مَهَاةٌ، فجعلتُ أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها، فقالت لي: يا هذا ما شأنُك؟ قلت: وما عليكِ من النظر! فأنشَأَتْ تقول:
وكنتَ متى أَرسلتَ طرفك رائدًا | لِقلبكَ يومًا أَتعبتك المناظـرُ |
رأيتَ الذي لا كله أنت قادرٌ | عليه ولا عن بعضِهِ أنت صابر |
النظرةُ تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جَرَحَتْهُ، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر | ومعظم النار من مستصغر الشررِ |
كم نظرةٍ فَتَكت في قلب صاحبها | فتك السهام بلا قوس ولا وترِ |
والمرء ما دام ذا عين يُقَلِّبُها | في أَعيُن الغِيدِ موقوفٌ على الخطرِ |
يَسُرّ مُقلَتَه ما ضرّ مُهجته | لا مرحبًا بسـرور عادَ بالضررِ |
ومن صور العفة: الكسبُ الحلال والبعدُ عن الحرام، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أخذ الحسن بن عليّ -رضي الله عنهما- تمرة من تمر الصّدقة فجعلها في فِيهِ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كِخْ كِخْ، ارم بها، أما علمت أنّا لا نأكل الصّدقة؟".
من عَفَّتْ يدُه عن أكل الحرام .. وَجَدَ البركةَ في رزقه وولده، ومن أطلق يده .. مُحِقَت منه البركةُ، وتَنَكَّدَ في عَيشه.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناسُ! إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّبًا. وإنَّ اللهَ أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[المؤمنون:51]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)[البقرة:172]. ثم ذَكَرَ الرجلَ يطيلُ السَّفرَ. أشعثَ أغبَرَ. يمدُّ يدَيه إلى السماءِ. يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ، وملبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام. فأَنَّى يُستجابُ لذلك؟".
ومن صور العفاف: عفة اللسان؛ فلا ينطق إلا بخير، ولا يَذكُرُ على لسانه الفُحشَ وما يُستحى من ذكره. روى الترمذي وغيره، وصححه الألباني من حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا باللَّعَّانِ، ولا بالفاحشِ ولا بالبذيءِ".
وجلس الأحنف بن قيس مجلساً، فكَثُر فيه ذِكرُ شَهَواتِ البطن والفرج، فقال لجلسائه: "جَنِّبوا مجالِسَنا ذِكرَ النساء والطعام، إني أُبغضُ الرجلَ يكونُ وَصّـافاً لفرجه وبطنه"؛ فأين عفةُ الأحنف من مجالسنا اليوم؟!
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: ها قد عرفتم العفةَ وفضلَها وبعضًا من صورها؛ فكيف يكون الإنسان عفيفًا؟
إن من أولى الوسائل لاكتساب العفة: أن يتقي العبدُ ربَّه في السر والعلانية، أن يراقب الله الذي (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 19]، قال ابن عباس في قوله -تعالى-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) قال: "هو الرجل يكون بين الرجال، فتمر بهم امرأة فينظر إليها، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره".
ومن أهم وسائل اكتساب العفة: أن يكثرَ الإنسانُ سؤالَ اللهِ -تعالى- أن يرزقه العفاف، قال سبحانه وتعالى عن نبيه يوسف -عليه السلام-: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[يوسف:34]، ولذلك كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- كما روى مسلم في صحيحه: "اللهمّ إنّي أسألك الهدى والتّقى والعفاف والغنى".
ومن وسائل اكتساب العفة: تربية الأبناءِ على الحياءِ والعفاف؛ كما أمر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"؛ فأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع حرصًا على عفتهم.
وصلاح الآباء وعفتهم طريق وسبب لصلاح وعفاف الأبناء، روى الطبراني وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، وعفّوا تعفّ نساؤكم"، وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا إلا أن معناه صحيح.
قال الشافعي -رحمه الله-:
عِفُّوا تعِفَّ نساؤكم في المحرمِ | وتجنَّبُوا ما لا يليقُ بمسلمِ |
إنَّ الزِّنا دَينٌ إذا أَقرضتَه | كان الوفا مِن أهلِ بيتِك فاعلمِ |
يا هاتِكًا حُرَمَ الرجالِ وقاطعًا | سُبُلَ المودةِ عشتَ غيرَ مُكرَّمِ |
لو كنتَ حرًّا مِن سُلالةِ ماجدٍ | ما كنتَ هتَّاكًا لحُرمةِ مُسلمِ |
من يَزنِ يُزنَ به ولو بجدارِه | إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافهمِ |
ومن وسائل العفة: غض البصر عما حرم الله، وعدم الخلوة بالمرأة الأجنبية، والزواج، وعدم تبرج النساء، وإقامة الحدود، إلى غير ذلك من الوسائل.
نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام؛ فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90]؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].