المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن الوقت هو حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردد وتتعدد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدد، فدقات قلب المرء في صدره تُشعره في كل لحظة بأن الحياة دقائق وثوانٍ تمر به متواليةً متتابعةً في "ساعات وأيام"، و"شهور وأعوام"، كلما ذهب منها شيء ذهب...
الخطبة الأولى:
يفرح الناس بالفراغ والإجازة، فالموظف ينتظر إجازته السنوية بفارغ الصبر ليرتاح من هَمّ العمل، والطالب ينتظر الإجازة الصيفية لينسى هموم الدراسة. فالكل يبحث عن الفراغ والإجازة. ولكن كيف يمضي معظم الناس أوقات فراغهم؟ إن الفراغ نعمة من نعم الله -عز وجل- ولكن ينخدع فيه كثير من الناس ويسيئون استغلاله. فقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" (رواه البخاري، والترمذي).
قال ابن بطال -رحمه الله تعالى- على قوله "كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" أي الذي يوفَّق لذلك قليل، فمن استعمل صحته وفراغه في طاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله -تعالى- ومعصية رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو المغبون؛ ذلك لأن الصحة يعقبها السقم، والفراغ يعقبه الشغل.
إن الفراغ جزء من العمر، ومن أساء فهمَه أساء استخدامَه ووقع في الغبن المذكور في الحديث. والمغبون في مصطلح المعامَلَات هو الذي باع شيئا بأقلَّ من ثمنه، أو اشترى شيئا بأكثر من ثمنه، فالصحة والفراغ نعمتانِ عظيمتانِ، أكثرُ الناسِ لا يستفيد منهما ويضيعهما ثم يندم عليهما في وقت لا ينفع فيه الندمُ، والموفَّق مَنْ بذلهما في طاعة الله -عز وجل-.
إن كثيرا من الطلاب عندما أَلْقَوْا عن كواهلهم عبءَ الدراسة والامتحانات تباينوا في صرف أوقاتهم، فكثيرٌ منهم صرفوا فراغَهم فيما لا يعود عليهم بالنفع والفائدة. فهذا أحدُهم خطَّط لإجازته قبل بَدْئها قائلا: في الإجازة سوف أثأر من النوم، سأنام أكثر من عشر ساعات يوميًّا. وقال الآخر: في الإجازة سوف أتفرَّغ لمتابعة القنوات الفضائية، فأنا لم أتمكن من ذلك وقت الدراسة. وثالث وجد نفسَه فارغًا يدور في الشوارع بسيارته رائحًا وغاديًا دون هدف. إن هذه الأنماط من التفكير والسلوكيات تُشعرنا بخطورة قضية الإجازة الصيفية على هذا الصِّنْف من الناس الذي جَهِلَ قيمةَ الوقتِ، فلم يفكر يومًا أن يشارك في دورة علمية أو حلقة قرآنية.
إن الوقت هو حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردد وتتعدد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدد، فدقات قلب المرء في صدره تُشعره في كل لحظة بأن الحياة دقائق وثوانٍ تمر به متواليةً متتابعةً في "ساعات وأيام"، و"شهور وأعوام"، كلما ذهب منها شيء ذهب معه عمره حتى ينتهي به ذلك إلى الدار الآخرة، إما إلى جنة وإما إلى نار. قال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا ابن آدم إنما أنتَ أيامٌ كلما ذهب يومك ذهب بعضك".
فالفراغ جزء من العمر، والعمر إذا مضى لا يعود البتة.
قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- واصفًا أهلَ زمانه في العراق: "رأيتُ عمومَ الخلائقِ يدفعون الزمنَ دفعًا عجيبًا إن طال الليلُ فبشيء لا ينفع، وإن طال النهار فبالنوم المغرِق وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، ولقد شاهدتُ خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة؛ فمنهم من يخلو بلعب الشطرنج، ومنهم مَنْ يقطع الزمان بكثرة الحوادث، فعلمتُ أن الله -تعالى- لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قَدْر أوقات العافية إلا مَنْ وفَّقَه وألهَمَه اغتنامَ ذلك (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فُصِّلَتْ: 35]".
ولذا أُثِرَ عن علَّامة الشام جمال الدين القاسمي -رحمه الله-، أنه كان يمشي مع بعض رفاقه فمر بمقهى فرأى الناس يلعبون، فأطرق مليًّا، فسُئل عن ذلك؟ فقال: "لو أن هؤلاء يبيعونني أوقاتهم لاشتريتُها".
فالفراغ من أَجَلِّ نِعَم الله -تعالى- على عباده، وليتذكر مَنْ رزقه اللهُ الوقتَ والفراغَ أقوامًا لا يجدون لذةَ الراحةِ، وليحمد الله وليستعن بهذا الفراغ على طاعة الله، وليصرفه لله وحدَه دون سواه.
قال بعض الحكماء: "من أمضى يومَه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد حققه، أو حمد حصّله، أو خير أسّسَه، أو علم اقتبسه، فقد عقَّ يومَه وظلم نفسه". وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغلَه فيما لا يعنيه خذلانًا من الله -عز وجل- ولقد أدركتُ أقواما كان أحدهم أشحَّ على عمره منه على درهمه".
فيا أخي المسلم: إن رأس مالك في هذه الحياة دقائق وثوانٍ وأيام وشهور، فماذا قدمتَ فيها من أعمال صالحة؟ وماذا سجلتَ في صحائف أعمالك؟ هل تَسُرُّكَ إذا نظرتَ إليها يومَ القيامة أم تسوؤك؟ فالكَيِّسُ مَنْ حفظ وقتَه واستغلَّه فيما يعود عليه بالنفع والخلاص من النار. فمن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، وسلعة الله غالية، والنار لا ينام هاربُها، والجنةُ لا ينام طالبُها.
فاحذروا -أيها الشباب- البطالةَ وتضييع الأوقات في غير فائدة. قال عمر -رضي الله عنه-: "إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا؛ -أي: عاطلا فارغا- لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة".
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غَرُبَتْ شمسُه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي".
إن كل يوم يعيشه المسلم في هذه الحياة غنيمة يجب ألا تضيع منه؛ فالأوقات والأزمنة عمر قصير، وأجل محدود، ولكنها رأس مال المؤمن، ربحُها الجنةُ، وخسرانها النارُ؛ وذلك ما أكَّد عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك" (رواه الحاكم، والبيهقي).
فالمسلم مسئول عن وقته ومطالَب باستغلاله فيما ينفعه، ولن تزول قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأل عن عمره عامة، وعن شبابه خاصة، وهناك ستكثُر الحسراتُ على أوقات ضُيِّعت، ولحظات ذهبت في غير طاعة الله.
قال تعالى عن حال المفرِّطين في أوقاتهم: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 99-100].
وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فَاطِرٍ: 37].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهدى والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أكرمنا بدينه، وأعزنا بطاعته، وجعلنا من خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، في السماء ملكه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر عظمته، عز جاهُه وتقدست أسماؤُه، ولا إله غيره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصَفِيُّه من خلقه، بعثه بين يدي الساعة فبلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصح الأمةَ وجاهد في الله -تعالى- حقَّ جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه.
أما بعد: لقد اعتنى الإسلام بالوقت في حياتنا، فقد أقسم الله -تعالى- في مطالع سُوَرٍ عديدةٍ من القرآن بأجزاء من الوقت؛ كالليل والنهار والفجر والضحى والعصر. وإذا أقسم الله -تعالى- بشيء مِنْ خَلْقه فإنه بذلك يلفت أنظارَنا إليه، وينبهنا على جليل منفعته وآثاره.
وقد جاءت شعائر الإسلام وفرائضه وآدابه تُثَبِّت هذا المعنى الكبير، وهو قيمة الوقت والاهتمام بكل مرحلة منه وكل جزء وتُوقِظ في الإنسان الوعيَ والانتباهَ منذ استيقاظه حتى منامه.
وجاءت السُّنَّة النبوية تؤكِّد قيمةَ الوقت وتقرِّر مسؤولية الإنسان عنه أمام الله يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله...". فالإنسان سيُسأل عن عمره عامةً، وعن شبابه خاصةً، مع العلم بأن الشباب جزء من العمر، ولكن له قيمة متميزة؛ باعتباره سِنَّ الحيوية الدافقة، والعزيمة الماضية، ومرحلة القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة.
ذاك كله يذكِّر الإنسانَ بقيمة الوقت ويُوقِظ فيه الإحساسَ بأهمية الزمن، فإن هذا الزمن إذا مضى لا يعود، وسرعان ما يمضي وينقضي، وما أحسن ما قاله الحسن البصري -يرحمه الله- في قوله البليغ: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، فَتَزَوَّدْ مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
وينبغي العلمُ بأنَّ الأصل في حياة المسلم الجدّ والحزم، ولا بأسَ بالترفيه المشروع والترويح المُباح في حدود الضّوابط الشرعيّة، ليعلمَ النّاسُ أنَّ في ديننا فسحةً -بحمد الله-.
فإنّ الإسلامَ دينٌ صالح للواقع والحياة، يعامِل الناسَ على أنّهم بشر، لهم أشواقهم القلبيّة وحظوظُهم النفسية، فهو لم يَفترض فيهم أن يكونَ كلُّ كلامهم ذِكْرًا، وكلُّ شرودهم فِكْرًا، وكلُّ تأمّلاتهم عِبرة، وكلّ فراغِهم عبادة. كلَّا، ليس الأمر كذلك، وإنّما وسَّع الإسلام التّعاملَ مع كلّ ما تتطلَّبه الفطرة البشريّة السّليمة من فرح وترح، وضحكٍ وبكاء، ولهو ومرَح، في حدود ما شرعه اللهُ، محكومًا بآداب الإسلام وحدودِه، دون أن نُمضي أوقاتَنا في لهو باطل؛ لأن إضاعة الوقت علامة من علامات المقت، ولا نقول ما يقوله الجهلة من الناس الذين يجلسون على اللهو واللعب ساعاتٍ طويلةً من ليل أو نهار. فإذا سألتهم عن ذلك قالوا بصريح العبارة: "إنما نريد أن نقتل الوقت"، وهم في الحقيقة يقتلون أنفسهم!
قال الحسن البصري: "أدركتُ أقواما كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".
أسأل الله -تعالى- أن يوقظَنا من غفلتنا، ويبصِّرنا بعيوبنا، وصلِّ اللهم وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.