القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | يوسف بن جمعة سلامة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
عجيب أمر المسلمين! إلههم واحد، ورسولهم واحد، وقرآنهم واحد، وسنتهم واحدة، ولغة قرآنهم، وسنتهم واحدة، ومع ذلك فهم دول ممزقة، وشعوب متفرقة، وفرق متناحرة، وجماعات متصارعة، ومذاهب مختلفة، مع أن الإسلام يدعوهم إلى الوحدة في صراحة واضحة لا تحتاج إلى تفسير، ولا إلى تأويل، ولا إلى اجتهاد. أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية أمة عظيمة، فهي تضم ملتقى القارات، ومنبع الحضارات، ومهبط الرسالات، وقد خصها الله ب...
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: يقول الله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
هذه الآية الكريمة تشتمل على أمر إلهي للمسلمين جميعاً، بضرورة أن يعتصموا بحبله، وأن يتوحدوا حول دعوته.
كما يجب عليهم أن يتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وأن يكونوا صفاً واحداً في وحدة مترابطة تجمعهم؛ لأن الوحدة سبب قوتهم، وغلبتهم وعزتهم.
وذكرتهم الآية الكريمة بنعمة الله عليهم: أن هداهم للإسلام الذي وحد شملهم، وجمع كلمتهم، فأصبحوا إخواناً متحابين بعد أن كانوا في الجاهلية أعداء متناحرين يضرب بعضهم رقاب بعض.
لذلك يجب عليكم -أيها المسلمون-: أن تجتمعوا على طاعة الله، وأن تكونوا يداً واحدة في وحدة مترابطة على كلمة سواء.
وإذا حدتم -لا قدر الله- عن هذا الطريق السوى، فلن تجنوا إلا الضعف والهوان والذلة والخسران.
أيها المسلمون: إن ديننا الإسلامي يرشدنا إلى أهمية الاتحاد، واجتماع الكلمة، ليرقى بذلك أن يكون أصلاً من أصول الدين، وأمراً ربانيا ًتضمّنه القرآن الكريم، وتأكيداً نبوياً فيما لا يحصى من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وتطبيقاً عملياً لحياة الصحابة والتابعين، حيث كانوا بفضل الله كالجسد الواحد، والبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا!.
بينما نجد واقع المسلمين اليوم –وللأسف- يخالف ذلك، حيث نجد الاختلاف والتباغض، وكما قال الشاعر:
بحثت عن الأديان في الأرض كلها | وجبت بلاد الله غرباً ومشرقاً |
فلم أر كالإسلام أدعى لألفـــــةٍ | ولا مثل أهليـــه أشد تفرقا |
عجيب أمر المسلمين! إلههم واحد، ورسولهم واحد، وقرآنهم واحد، وسنتهم واحدة، ولغة قرآنهم، وسنتهم واحدة، ومع ذلك فهم دول ممزقة، وشعوب متفرقة، وفرق متناحرة، وجماعات متصارعة، ومذاهب مختلفة، مع أن الإسلام يدعوهم إلى الوحدة في صراحة واضحة لا تحتاج إلى تفسير، ولا إلى تأويل، ولا إلى اجتهاد.
أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية أمة عظيمة، فهي تضم ملتقى القارات، ومنبع الحضارات، ومهبط الرسالات، وقد خصها الله بميزتين:
الخيرية: فهي خير الأمم ما اعتصمت بكتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110].
والوسطية: والوسطية هنا ليست النقطة بين طرفين، لكنها الخيار والأفضل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].
ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى في سورة القلم: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) [القلم: 28] أي قال خيارهم.
وفي الحديث: "الفردوس وسط الجنة" وهي أعلاها مرتبة.
هذه هي الأمة الإسلامية التي كانت الرائدة دائماً، وطأطأ لها الشرق والغرب إجلالا واحتراما، ما بالها أصبحت اليوم في العالم الثالث في الدول النامية؟! ولو كان هناك عالم عاشر ومائة لكانت فيه!.
لقد حذر رسولنا -صلى الله عليه وسلم- المسلمين من مؤامرة دولية تحاك ضدهم، تتداعى فيها قوى العالم كله ضد المسلمين الذين أصبحوا لقمة سائغة لكل طامع.
وهذا ما صدقه الواقع، حيث اجتمع علينا الشرق والغرب واليمين واليسار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها" قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "إنكم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" قلنا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
أيها المسلمون: إن ما يحدث من مؤامرات دولية في هذه الأيام ضد العالمين العربي والإسلامي ليس عنا ببعيد، حيث نرى ما يجري في فلسطين والعراق من جرائم يقوم بها المحتلون صباح مساء.
وكذلك ما يجرى في السودان الشقيق من تقسيم لأرضه وشعبه، ونهب لثرواته، وتمزيق لوحدته، مع أن السودان كان دائماً بلداً واحداً موحداً عبر تاريخه الطويل.
إننا نؤكد هنا على أهمية وحدة السودان الشقيق، حيث يحرم شرعاً التصويت لصالح انفصال جنوب السودان عن شماله؛ لأن الاستعمار يخطط لهذا العمل منذ سنوات طويلة، فيجب على الجميع العمل على إفشال مخطط الانفصال، كما يجب تضافر الجهود المخلصة للمحافظة على وحدة السودان الشقيق.
إن هذه المخططات الإجرامية تهدف إلى تفتيت الأمتين العربية والإسلامية، وجعلها دويلات ضعيفة متفرقة، فهل ينجح أعداؤنا في ذلك؟!
لذلك يجب على الأمة: أن تجمع شملها، وتوحد صفها، لإفشال هذه المشاريع الاستعمارية الحاقدة التي تعمل على تفتيت الأمة وإضعافها.
أيها المسلمون: إن شعبنا الفلسطيني أحوج ما يكون إلى الوحدة والمحبة، والتكاتف والتعاضد، ورص الصفوف، وجمع الشمل، وتوحيد الكلمة خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا الفلسطيني، وفي هذا الوقت العصيب من حياة شعبنا حيث تتعرض المدينة المقدسة لخطر التهويد.
كما يتعرض المسجد الأقصى المبارك لمؤامرات عديدة من أجل هدمه وإقامة ما يسمى بالهيكل المزعوم بدلاً منه.
كما يتعرض شعبنا الفلسطيني لسياسة الاغتيالات، وهدم المنازل والمصانع، وتجريف الأراضي الزراعية، وتدمير المؤسسات، لننظر إلى الأمهات الثكلى، وإلى النساء الأرامل، وإلى الأيتام والمعوقين، وإلى المنازل والمصانع التي دمرت، والأشجار التي اقتلعت، ولننظر أيضاً إلى ما يحدث في سائر محافظات الوطن، وإلى آلاف الأسرى الأبطال في سجون وزنازين الاحتلال الذين ينتظرون ساعة الفرج والحرية.
هؤلاء الأبطال رغم ظلم السجن والسجان إلا أنهم يناشدوننا دائماً بضرورة الوحدة والمحبة ورص الصفوف، والعودة إلى طاولة الحوار، لنجمع شملنا، ونوحد كلمتنا، ونترفع على جراحنا وآلامنا، ولنفتح صفحة جديدة من المحبة والوحدة والتراحم -إن شاء الله-.
ما أحوج أبناء شعبنا إلى الترفع على الأحقاد، وطيّ صفحات الماضي المؤلمة، فقد أثنى رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على أهل فلسطين، فقال: "لا تزال طائفةٌ من أمتي على الدينِ ظاهرين لعدوُّهم قاهرين لا يضرُّهم مَنْ خالفهم إِلاّ ما أصابَهُم من َلأْوَاء حتى يأتيهم أمرُ اللهِ وهم كذلك" قالوا: وأين هم؟ قال: "ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدس".
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني، وأمتنا العربية والإسلامية إلا أننا نتفاءل دائماً بمستقبل زاهر -إن شاء الله-، فالإسلام حرم اليأس، وأوجد البديل وهو الأمل، وحرم التشاؤم وأوجد البديل وهو التفاؤل!.
لذلك فإننا نرى صاحب الأمل الكبير، عال الهمة، دؤوب العمل، كثير البذل، سريع التضحية، بعكس الآخرين العاجزين.
ومن المعلوم أنه بقدر تفاوت الناس في آمالهم وأعمالهم، تتفاوت عزائم الرجال؛ كما قال الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم | وتأتي على قدر الكرام المكارم |
وعند دراستنا للسيرة النبوية الشريفة نلاحظ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد واجه المشاق والمتاعب عندما بدأ بتبليغ الرسالة، كما وواجه المقاطعة، وجميع أشكال الأذى والتعذيب، ومع ذلك صبر، وسلَّم الأمر لصاحب الأمر، فما هي إلا فترة وجيزة، وإذا بالضيق ينقلب فرجاً، والعسر يسرا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وعلى الرغم من الجراح المؤلمة والظروف القاسية التي تعصف بالأمتين العربية والإسلامية، إلاّ أن ثقتنا في الله كبيرة، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة فيها ما يطمئن القلوب، ويبعث الأمل في النفوس، ويبشر الأمة بأن المستقبل لهذا الدين -إن شاء الله-.
فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *َ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 5-6].
فالعسر جاء معرفا، والمعرفة إذا كررت كانت عين الأولى، واليسر جاء منكراً والنكرة إذا كررت كانت غير الأولى، فلن يغلب عسر يسرين؛ كما وورد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "بشروا ولا تنفروا".
أيها المسلمون: إن بلادنا فلسطين قد لفظت المحتلين عبر التاريخ، وستلفظ هذا المحتل -إن شاء الله-.
كما أن أمتنا العربية والإسلامية تعرضت لمحن شديدة عبر التاريخ، لكنها زالت بفضل الله، ثم بوحدة الأمة وتكاتفها.
فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، وإن الفجر آتٍ -بإذن الله-.
فالخير سيستمر في هذه الأمة -إن شاء الله- إلى يوم القيامة، لن تهزه عواصف هوجاء، ولا رياح عاتية، وستبقى أمتنا قادرة -إن شاء الله- على تجاوز المحن والشدائد مهما اشتدَّ الظلام، وسوف تتوحَّد الأمة، وتكون صفًا واحدًا، كما كانت دائماً -إن شاء الله-.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.