الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ومما أمر الإسلام بمراعاته وحث المسلم عليه مراعاة شعور وأحاسيس من حوله؛ فلا يؤذيهم بقول أو فعل أو إشارة أو حتى غمز ولمز، وكان الهدف من هذه التوجيهات بناء مجتمع مسلم متحاب ومترابط يسوده الود، وتنتشر بين أفراده الألفة، وتتعمق فيه أواصر الترابط والتعاون والتكافل، ويسود الخير ويعم الصلاح...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي خلق الأرض والسموات، الحمد لله الذي علم العثرات، فسترها على أهلها وانزل الرحمات، ثم غفرها لهم ومحا السيئات، فله الحمد ملئ خزائن البركات، وله الحمد ما تتابعت بالقلب النبضات، وله الحمد ما تعاقبت الخطوات، وله الحمد عدد حبات الرمال في الفلوات، وعدد ذرات الهواء في الأرض والسماوات، وعدد الحركات والسكنات، وأشهد أن لا إله إلا الله لا مفرج للكربات إلا هو، ولا مقيل للعثرات إلا هو، ولا مدبر للملكوت إلا هو، ولا سامع للأصوات إلا هو، ما نزل غيث إلا بمداد حكمته، وما انتصر دين إلا بمداد عزته، وما اقشعرت القلوب إلا من عظمته، وما سقط حجر من جبل إلا من خشيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قام في خدمته، وقضى نحبه في الدعوة لعبادته، واقام اعوجاج الخلق بشريعته، وعاش للتوحيد ففاز بخلته، وصبر على دعوته فارتوى من نهر محبته، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واستن بسنته وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعـد:
عباد الله: لقد جاء الإسلام ليهذب السلوك والأخلاق، ويدعو المسلم إلى حسن التعامل مع من حولة بطريقة حسنة وراقية وحضارية، وجعل ذلك التعامل الحسن من العبادات العظيمة، ورتب عليها -سبحانه وتعالى- عظيم الأجر وأجزل الثواب، ومما أمر الإسلام بمراعاته وحث المسلم عليه مراعاة شعور وأحاسيس من حوله؛ فلا يؤذيهم بقول أو فعل أو إشارة أو حتى غمز ولمز، وكان الهدف من هذه التوجيهات بناء مجتمع مسلم متحاب ومترابط يسوده الود، وتنتشر بين أفراده الألفة، وتتعمق فيه أواصر الترابط والتعاون والتكافل، ويسود الخير ويعم الصلاح، ومراعاة الشعور هو إدراك الفرد أن لمن حوله أحاسيس ومشاعر يجب أن لا تكسر ولا تجرح ولا ينال منها بأي شيء من الأذى؛ انطلاقاً من أحكام الشرع وتوجيهاته وأخلاقه التي أمر بها جميع المسلمين.
أيها المسلمون.. عباد الله: وينطلق المسلم بهذا الخلق ابتداءً من البيت ومع الوالدين ومراعاة شعورهما قول الله -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:23-24].
قالَ ابنُ عباسٍ: "لا تَنْفُضْ ثَوْبَكَ فَيُصيبَهُما الغُبارُ".
وقدْ نهَى اللهُ -تعالى- في هذِهِ الآيةِ عنْ قولِ (أُفٍّ) للوالِدَيْنِ وهوَ صوتٌ يدُلُّ على التَّضَجُّرِ، وهي كلمة تقتل المشاعر وتمزق الاحاسيس؛ فالعبْدُ مأمورٌ بأنْ يستعمِلَ معهُمَا لِينَ الخُلقِ حتَّى لا يقولَ لهما إذا أضجرَهُ شيء منهُمَا كلمة "أُفٍ".. فكيف هو العقوق اليوم وكيف ضاع هذا الخلق مع الوالدين وكم من قصص يندى له الجبين وتعدى الأمر كلمة "أف" إلى الضرب والسب والشتم والاهانة والقطيعة.
ومن ذلك: أن الإسلام يرشدنا، ويعلَّمنا عدم المساس بمشاعر الجار حتَّى برائحة الأكل، فربما يكون مسكينًا، فإذا شم أطفاله رائحة الأكل اشتاقت نفوسهم إليه، وأحبوا تذوقه منه، ولا يجدونه، فيكون ذلك مؤلمًا لنفوسهم، وجارحًا لمشاعرهم، فأرشدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى صفة تُعدُّ في القمة من الأخلاق، وفي الذروة في مراعاة مشاعر الآخرين، وهي إذا أدخلنا السرور على أهلنا وبيوتنا، فينبغي ألا ننسى أولاد الجيران، فقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا طبخت قدرًا فكثِّر مرقتها، فإنَّه أوسع للأهل والجيران"، وفي رواية أخرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي ذر الغفاري: "إذا طبخت قدرًا، فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك، أو أقسم لجيرانك".
وشعور البنت التي تقدم على الزواج وليس لها سابق عهد يجب مراعاته قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر -يعني الثيب- ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: "أن تسكت"(رواه البخاري، ومسلم)؛ إذاً سكوتها كاف لماذا؟ مراعاة للحياء.
ومن مراعاة المشاعر في الإسلام: مراعاة أحاسيس ومشاعر المرضى والضعفاء وذوي الأعذار والحاجات، روى جابرٍ -رضي الله عنه- قال: كانَ معاذٌ يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي فيؤمُ قومَه، فصلّى ليلةً معَ النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاءَ ثم أتى قومَه فأمَّهم فافْتَتَحَ بسورةِ البقرةِ فانْحَرَفَ رجلٌ مسلمٌ ثم صلّى وحدَه وانصَرَفَ، فقالوا له: أنافَقْتَ يا فلانُ؟ قال: لا واللهِ ولآتِيَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فلأُخْبِرَنَّه، فأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسولَ الله، إنا أصحابُ نواضحَ نعملُ بالنهارِ، وإنَّ معاذاً صلى معكَ العشاءَ ثم أتى فافتَتَح بسورةِ البقرةِ، فأقبَلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معاذُ أفتّانٌ أنتَ؟ اقرأ بكذا واقرأ بكذا "(رواه مسلم).
وعن عثمانَ بنِ أبي العاصِ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " أُمَّ قومَكَ، فمنْ أمَّ قومَه فليُخَفَّفْ فإن فيهم الكبيرَ وإن فيهم المريضَ وإن فيهم الضعيفَ وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدُكم وحدَه فليُصَلِّ كيفَ شاءَ "(رواه مسلم).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"(رواه البخاري).. مراعاة لمشاعر الأم وهي في الصلاة.
وهذا عبدُالله بنُ شدَّاد بن الهادِ -رضي الله عنه- لم يملك إلَّا أن يحكيَ لنا هذا المشهد العجيب الغريبَ الذي رواه عن أبيه، يبين فيه حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على مراعاة مشاعر الانسان من حوله حتى وإن كان طفلاً فقال: خرج علينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في إحدى صلاتي العشاء وهو حاملٌ حَسَنًا أو حُسينًا، فتقدَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه، ثم كبَّر للصلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسي، وإذا الصبيُّ على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجدٌ، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاةَ قال الناس: يا رسولَ الله، إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلْتَها حتى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يُوحى إليك؟! قال: "كلُّ ذلك لم يكن، ولكنَّ ابني ارتحلَني؛ فكرهتُ أنْ أُعجلَه حتى يقضي حاجته"(أخرجه أحمد، والنسائي، وصححه الألباني).
عبــاد الله: إن مراعاة مشاعر الناس وأحاسيسهم مما يزيد في الود ويؤلف بين القلوب؛ فقد لا ينسى أحدنا موقفاً لشخص ما راعى فيه مشاعره وشاركه أحاسيسه، فحينما تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك ثم تاب الله عليه، وآذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله عليه وعلى من معه حين صلى الفجر، يقول كعب: "فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنؤوني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حوله الناس، فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام رجل إلي من المهاجرين غيره، لا أنساها لطلحة".
بل قد يرتقي الإنسان بمراعاته لمشاعر الآخرين إلى مراتب عالية من الكمال والسمو والرفعة؛ فهذا يوسف -عليه السلام- قال: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ)[يوسف:100] لم يقل: أخرجني من الجُبّ؛ لا يريد جرح مشاعر إخوته وهم الذين رموه في البئر!
قال عطاء بن رباح -رحمه الله-: "إنّ الرجل ليُحدّثني بالحديثِ فأُنصِت له كأن لم أسمعه قطّ، وقد سمعتُه قبل أن يولد".. كل ذلك مراعاة للمشاعر!!
أيها المسلمون.. عباد الله: ومن مراعاة المشاعر التي حثنا عليها الإسلام: عدم التحدث بين اثنين سرًّا بصوت منخفض وغير مسموع؛ فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التناجي بين اثنين إذا كان الحاضرون ثلاثة؛ مراعاة لشعور الثالث، ويدخل في النهي -أيضاً- من جهة المعنى أن يتكلم اثنان بلغة أجنبية لا يفهمها الثالث؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَ اثنانِ دون الثالث"(رواه البخاري)، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنَّ ذلك يُحزنُه"(رواه مسلم).
قال الخطابي: "وإنما قال ليحزنه؛ لأنه قد يتوهم أن نجواهما إنما هي سوء رأيهما فيه، أو لدسيسة غائلة له".
ومما حثنا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نشعر بحاجة الآخرين، وأن نسارع في قضائها لهم ومساعدتهم فيها دون أن نُعَرِّضهم إلى المسألة التي تجرح مشاعرهم؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بينما نحن في سفرٍ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجلٌ على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصرَه يميناً وشمالاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان معه فضل ظهرٍ فليَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ من زادٍ فليَعُدْ به على من لا زاد له" (الظهر) الدابة يركب عليها. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ منَّا في فضل (رواه مسلم).
ومن ذلك: مراعاة شعور الانسان المقصر عندما تقدم له النصيحة فلتكن نصيحتك لأخيك تلميحاً لا تصريحاً وتصحيحاً لا تجريحا. وقال الإمام الشافعي: "من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه ".
وأنشد رحمه الله:
تعمدني بنصحك في انفـرادي | وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نـوع | من التوبيخ لا أرضى استماعه |
وإن خالفتني وعصيت قولـي | فلا تجزع إذا لم تعط طاعـه |
ومن ذلك: النهي عن سب الأموات: قد يكون الميت يستحق السب لكن له أقارب يتأذون بسَبِّه، ولذلك نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؛ مراعاة لمشاعر الأحياء من أقارب هذا الميت؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"(رواه البخاري)، قال ابن عثيمين: "الأموات يعني: الأموات من المسلمين، أما الكافر فلا حرمة له إلا إذا كان في سبه إيذاء للأحياء من أقاربه فلا يُسب، وأما إذا لم يكن هناك ضرر فإنه لا حرمة له".
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء"(رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
ومن ذلك: مراعاة شعور أصحاب العاهات والأمراض قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تديموا النظر إلى المجذومين"(رواه ابن ماجه)؛ فمن به عاهة لا يحد النظر إليه هذا من الأدب؛ لئلا يحرج، ولذلك الذكر الوارد في رؤية المبتلى: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً"(رواه الترمذي، وصححه الألباني) لا يقال جهراً؛ لئلا يحرج صاحب العاهة، بل يسر في نفسه.
ومراعاة مشاعر الكبير والصغير: بالعودة لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- تستقيم الحياة وتصفو النفوس، ويُعْطَي كل ذي حق حقه، فالصغير يجب مراعاة مشاعره، وذلك برحمته وإشعاره بحبه والشفقة عليه، والكبير ينبغي الاهتمام به وتوقيره وإشعاره بالتوقير لِكَبَرِ سِنِّه؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء شيخ يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا"(رواه الترمذي).
عبــاد الله: ومن ذلك: مراعاة المرء لمشاعر السائل الفقير ولا يجرحه، فإن كان السائل لا يَستحِق المال ردَّه ردًّا جميلاً بكلمة طيبة؛ فعن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في حَجَّة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصرَ وخفضه، فرآنا جَلْدين، فقال: "إن شئتما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مُكتَسِب"(رواه أحمد وصححه الألباني).
ومن الخطأ الذي يقع فيه البعض تعنيف السائل وتغليظ القول له عندما يظن كذبه؛ فصِدْق السائل وكذبه علمه عند الله -عز وجل-، فيُعطى أو يُمنع من غير إهانة، بل يُمنع إذلاله أو المنّ عليه حتى مع العطاء؛ فعن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يُكَلّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إِليهم، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذاب ألِيم" قال: فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مِرارٍ، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: "الْمُسْبِلُ والمَنَّانُ والمُنْفِقُ سلعته بالحلف الكاذب"(رواه مسلم).
قال ابن عثيمين: "المنان: الذي يَمن بما أعطى، إذا أحسن إلى أحد بشيء جعل يمن عليه: فعلتُ بك كذا، وفعلت بك كذا، و(المنّ) من كبائر الذنوب؛ لأن عليه هذا الوعيد، وهو مبطل للأجر لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى)[البقرة:264]".
اللهم جنبنا الزلل في القول والعمل، واجعلنا ممن يقول فيعمل ويعمل فيخلص، ويُخلص فيُقبل منه.
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
عبـاد اللـه: هذا غيض من فيض من توجيهات الإسلام لمراعاة مشاعر الآخرين من حولنا، والتعامل مع من حولنا برفق ورقي وإنسانية وهكذا في كل مجلات الحياة، بل تعدى الإسلام بتوجيهاته إلى مراعاة مشاعر الحيوان والطير والبهيمة وغير ذلك من مخلوقات الله؛ فعن عبد الله بن مسعود - -رضي الله عنه- - قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حُمرَة (طائر صغير) معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تُعَرِّشُ (ترفرف بجناحيها)، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من فجع هذه بولدها؟، ردوا ولدها إليها"( أبو داود).
ومن صور رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالحيوان ومراعاته لمشاعره وأحاسيسه: نهيه عن المُثْلة بالحيوان، وهو قطع قطعة من أطرافه وهو حي، ولعَن من فعل ذلك؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن من مَثَّل بالحيوان(البخاري).
وعن جابر -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر عليه حمار قد وُسِمَ (كوي) في وجهه، فقال: "لعن الله الذي وسمه"(مسلم).
الذبيحة لا تُذبح أمام أختها، لا تُحد السّكين أمام ناظرها، وتُذبح بإحسان.. إنّه دين الرّحمة ومراعاة المشاعر..
أيها المسلمون.. عباد الله: ارفقوا بمن حولكم؛ فدِيننا عظيم، أيقظوا الأحاسيس والمشاعر في نفوسكم، انشروا المحبة والألفة في مجتمعاتكم وأوطانكم، خاصة ونحن في زمن طغت فيه المادة واستشرى الفساد وقست القلوب وحلت القطيعة والهجران وجفت المشاعر بين الناس مما أدى إلى تفشي الغلظة والشدة في تعامل الناس مع بعضهم، وساءت الأخلاق، وعلى المسلم أن يكون معول بناء لا معول هدم، وأن يحسن إلى من حوله، وأن يراعي مشاعر الآخرين، وأن يتميز بسلوكه وأخلاقه؛ التزاماً بدينه وطاعة لخالقه -سبحانه-، واتباعاً لرسوله -صلى الله عليه وسلم-.
كن بلسماً إن صار دهرك أرقما | وحلاوة إن صار غيرك علقما |
إن الحياة حبتك كلَّ كنوزها | لا تبخلنَّ على الحياة ببعض ما |
أحسنْ وإن لم تجزَ حتى بالثنا | أيَّ الجزاء الغيثُ يبغي إن همى؟ |
مَنْ ذا يكافئُ زهرةً فواحةً؟ | أو من يثيبُ البلبل المترنما؟ |
عُدّ الكرامَ المحسنين وقِسْهُمُ | بهما تجدْ هذينِ منهم أكرما |
يا صاحِ خُذ علم المحبة عنهما | إني وجدتُ الحبَّ علما قيما |
لو لم تَفُحْ هذي، وهذا ما شدا، | عاشتْ مذممةً وعاش مذمما |
فاعمل لإسعاد السّوى وهنائهم | إن شئت تسعد في الحياة وتنعما |
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا | لولا الشعور الناس كانوا كالدمى |
فاللهم يا من لا تراه في الدنيا العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون! يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور! يا من عزَّ فارتفع! وذلّ كلُّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت، استعملنا في طاعتك ووفقنا لعبادتك وأحينا بمعرفتك واختم بالصالحات أعمارنا، وحقق آمالنا، وأصلح أعمالنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.