الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
تربية الأولاد بنين وبنات مشروعُ العمر كلِّه؛ فهم يمثلونك ويرثونك، والاجتهاد بالتربية ومعرفتها مطلوب، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- خيرُ قدوة بالتربية (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). ربَّى -عليه الصلاة والسلام- صحابته صغاراً...
الخطبة الأولى:
الحمد للهِ خَلقَ فَسوى، وقدَّر فهدى، وأضحك وأبكى وأسعدَ وأشقى، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأبر الأتقى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ليوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن تربية الأولاد بنين وبنات مشروعُ العمر كلِّه؛ فهم يمثلونك ويرثونك، والاجتهاد بالتربية ومعرفتها مطلوب، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- خيرُ قدوة بالتربية (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب:21]. ربَّى -عليه الصلاة والسلام- صحابته صغاراً وكباراً على الخير والتقوى، وتعامل معهم، فظهرت ثمراتُ صلاحهم خلال سُنيَّات.. فكانوا..
شبابٌ ذلَّلُوا سُبلَ المعالي | وما عرفُوا سوى الإسلامَ دينا |
صحابة أفذاذ من تربيةِ مدرسته -عليه الصلاة والسلام-.
قال أنس -رضي الله عنه-، ما رأيت أحداً أَرحم بالعيالِ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أفكه الناس مع الصبي" وأوصانا بأن يكونَ الوالدان قدوةً لتأثير ذلك على التربية؛ ليكون أولادُهم دعاةَ خيرٍ وحق ونماذجَ خلق وتعامل منذ صغرهم بحسن تسميتهم وسماعهم للآذان بعد ولادتهم وتربيتهم على الخير، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ ببَيْتِنَا، فَقَالَتْ: تَعَالَ أُعْطِكَ، فَقَالَ لَهَا: "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟" قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لها: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ"(أخرجه أحمد). تربية على الصدق وعدم الكذب للطفل منذ صغره؛ كي لا يمارسه تقليداً.
قال النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- للرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني أعطيت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال -صلى الله عليه وسلم-"أكلَّ ولدك نحلتَه مثل هذا؟ " فقال: لا، قال: "فأرجعه اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" فرجع أبي فرد تلك الهبة (متفقٌ عليه)؛ لأنه أراد غرسَ العدل بقلوبِ الآباء من حوله؛ فالظلمُ سببٌ للخصومات والأحقاد وضياع الأولاد، والواقع الآن شاهدٌ لذلك.
ومن قَصَصِه -صلى الله عليه وسلم- مع عبث المراهقين ما روي عن أبي محذورة، أوسِ بن مَعْبر -رضي الله عنه- قال: خرجتُ في نفر عشرة، فكنا ببعض الطريق حين قفل -صلى الله عليه وسلم- من حنين، فأذَّنَ المؤذنُ بالصلاة، ونحن متنكبون نلعب فصرخنا نحكيه، ونستهزئ، فسمع -صلى الله عليه وسلم- الصوت فأرسل، حتى وقفنا بين يديه، فقال: "أيُّكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟" فأشار القوم كلهم إلي وَصَدَقُوا.. فأرسلهم وحبسني، ثم قال: "قم فأذن بالصلاة" فقمت، ولا شيءَ إلي أكرهُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مما يأمرني به، فقمتُ بين يديه، فألقى علي -صلى الله عليه وسلم- التأذينَ هو بنفسه يلقنني؛ قال: "الله أكبر.. الله أكبر" فذكر الآذان، ثم دعاني حين قضيتُ التأذين فأعطاني صُرَّةً فيها فضة، ثم وضع يديه على ناصيتي، ثم مرَّ على صدري، ثم كبدي، حتى بلغَ سُرَّتي، ثم قال: "بارك الله فيك، وبارك عليك" فقلت: يا رسول الله مُرْني بالتأذين بمكة، قال: "قد أمرتك به"، وذهب كل شيءٍ كان بنفسي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كراهة، وعاد ذلك كله محبة له.
ولقد نبه -صلى الله عليه وسلم- بضرورة الرحمة بالأولاد وعدم القسوة وأثرِ الحنان والضم والقُبل للأولاد؛ قال رجلٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنكم تُقبِّلون الصبيان، وإن لي عشرة من الأولاد ما قبلت أحداً منهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وما أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك".
ومتى نزعت -إخوتي- الرحمةُ من قلب الوالدين؛ فهل تنفع تربية ونصح؟ فلا تأنف -أيها الأب- من تقبيل أولادك وضَمِّهم؛ ففيها معانٍ للرحمة والمحبة عظيمة، وما نصح أحدٌ أفضلَ من راحم بمن أخطأَ أو ضلَّ..
ومؤسف أننا نسمعُ ونقرأ عن حالات شاذة لإيذاء الأطفال وعنفٍ أسري من أبٍ أو زوجةٍ مع فقدٍ للرحمةِ يصلُ لحدِّ الإيذاء الجسدي الشديد والقسوة وهذا كله شذوذٌ عن الرحمة بالأولاد.. بينما كان -صلى الله عليه وسلم- مثلاً مُجسَّداً للرحمة بالأولاد.
خطبَ -صلى الله عليه وسلم- الناسَ بالمسجد، فجاء الحسن والحسين -رضي الله عنهما- وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل -صلى الله عليه وسلم- من المنبر، فحملهما ووضعهما بين يديه، وقال: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما. ترك -صلى الله عليه وسلم- الخطبة ونزل تنبيهاً للناس لأهميّةَ الرحمةِ بالأولاد.
وبينما كان -صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي بالناس، جاءه الحسين فركبَ عنقَه وهو ساجد فأطال السجود بالناس، حتى ظنُّوا أنه حدث أمر، فلما قضى صلاته، قالوا: أطلتَ السجودَ يا رسول الله حتى ظنَّنا أنه حدث أمر، فقال: "إن ابني صعد على ظهري، فكرهتُ أن أُعجله حتى ينزلَ عن ظهري".
وفي الإصابة أنه -صلى الله عليه وسلم- يُداعبُ الحسنَ والحسين -رضي الله عنهما- فيمشي على يديه وركبتيه ويتعلّقان به من الجانبين فيمشي بهما ويقول: "نعمَ الجملُ جملكما، ونعم العِدلان أنتما".
وكان يدخل في الصلاة يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيختصرُ صلاته؛ لوجْدِ أمّه من بكائه.
وكان -صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيحين- إذا مر على الصبيان يُسلِّم عليهم ويُحادثهم..
وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- حملَ أمامة بنت زينب وهو يصلي بالناس فكان يضعُها إذا سجد ويحملُها إذا رفع.
إنها رحمته -عليه الصلاة والسلام- بالأولاد وملاطفته لهم، كان يفعلها ولم تشغلْه مشاغله وهمومه الكثيرة عن كل ذلك، فأي رحمة أعظم من رحمة فعلها -عليه الصلاة والسلام-، وهو يعلم أثرها في تربية الولد ومحبته.
ومن رحمته أيضاً: تأديب الولد وحضه على حسن الخلق، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "من وُلدَ له ولد فليُحسنْ اسمه وأدبه"؛ فتأديبُ الأطفال مطلوب، وحضهم على فعل الخير مرغوب، وإبعادهم عن مواطن الشر حصن لهم من الضياع والفساد، وبالحوار معهم وبتقديرهم نقنعهم.
في البخاري يؤتى لرسول الله بقدح لبن فشرب منه فإذا يمينه غلام والشيوخ يساره فيستأذنُ الصبيَّ يعطيه للأشياخ فيرفض الصبي أن يؤثر غيره عقب النبي فيُعطيَه إياه.
وروى البخاري عن عمرو بن أبي سلمى قال: كانت يدي تطيشُ وتعبثُ بصفحة الطعام فقال لي -صلى الله عليه وسلم-: "يا غلام سمّ الله وكل بيمينك ومما يليك" فما زالت تلك طُعمتي بعد.
وروى أحمد أن غلاماً يرمي نخلاً للأنصار فأُتيَ به للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فسأله "لِمَ ترم النخل؟" فقال: آكل، فقال له: "لا ترمي النخل، وكل مما يسقط في أسافلها" ثم مسح رأسه، وقال: "اللهم أشبع بطنه".
إذاً فوقوع الصغار في الخطأ وارد، وعلاجه واجب بعدم إهماله والسكوت عنه وإقناعهم بالصحيح، والخطأُ أن بعضَ الآباء اليوم؛ إما أن يُشدِّدوا على الطفل عند وقوعه في الخطأ فيَخْرُجوا عن التربية الشرعية والعقل، أو يُهملوه إذا أخطأ ولو كان مُؤذياً لنفسه وللغير..
وإن ما أفسد كثيراً من الأولاد اليوم دلالٌ زاد عن حدِّه لدى بعض الآباء والأمهات، مما يُفسدُ أخلاقَه؛ فلتأديبِه أثرٌ في تربيته ولو كان بضربٍ غير مبرح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اضربوهم عليها وهم أبناء عشر"؛ أي على من تخلَّفَ عن الصلاة، ويقول -صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في مسنده-: "وأنفق على عيالك من من قدرتك ولا ترفع عصاك أدبا وأخِفْهُم في الله"، وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتعليق السوط تأديباً في البيت.
واحذروا من الدعاء على الأولاد بالشر والعقوبة؛ فقد نهى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجاب لكم"(رواه مسلم).
وعلموهم الفوائدَ والخبرة؛ يُركبُ -عليه الصلاة والسلام- ابنَ عباس معه رديفاً، فيستغلَّ الفرصةَ لتعليمه: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك.." الحديث..
وأما تربيته -عليه الصلاة والسلام- للبنات أشدُّ اهتماماً ورحمةً لإعداد أمٍ صالحة؛ بتعويدهن على الحياء، وعدم مخالطة الرجال وحرصهن على العلم والعبادة، والورع والتربية للأولاد؛ ففاطمةُ -رضي الله عنها- بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسماءُ بنت أبي بكر، وأمامة بنت أبي العاص وغيرهن من الصحابيات -رضوان الله عليهن- دليلٌ على ذلك، نقول هذا لمن أهمل بناته بعدم رعاية أخلاقهن ولباسهن وحجابهن، أو أساء معاملتهن وضيّعَ حقوقهن وقدمَ الأولاد عليهن.
التربيةُ مسئوليةٌ على عاتق كلِّ أبٍ أو أم؛ بل هو تكليفٌ رباني حمّله الله للمسؤول عن الأبناء والبنات، وإن كان الأب مشغولاً أو لا يُحسن التربية؛ فليستعنْ بمن يثق به لتربية أولاده وتأديبهم من الثقات والمربين.. والسنة النبوية غنيةٌ بدروس التربية.
فإن المتطلّعَ لمجتمعنا اليوم يرى أحوالاً لأولادنا ما كنا نعرفها قبلُ، ولا توافق ما قرأناه من نماذج رائعة، بطالةٌ وعدمُ جدِّية. ميوعةٌ زائدة وتفننٌ بأنواع الملابس وتعلقٌ بالموضات وتعدٍّ على الأنظمة وإفسادٌ بالسيارات وعدمُ التزامٍ بالقوانين المرور وسهرٌ وممارسةُ فوضى مما أصبح طابعاً لبعض الشباب إلا من رحم الله.. أحوالٌ مؤسفة ليست مسؤوليتها على الأب والأم فقط بل يشترك الجميع بها تعليمٌ وإعلامٌ وثقافةُ مجتمع.. ووسائلُ تواصل اخترقت ببيوتنا كلَّ الحواجز.. فباتت همومُ بعضِ شبابنا بعيدةً كلَّ البعد عن الجدّية وحمل همِّ دينه ووطنه وأهله ومجتمعه مما يدعونا كآباء وأمهات لتربية جادة بلا قسوة مع بذل الرحمة واهتمام بوقتهم والصحبة.. وانتبهوا من التقصير والغفلة..
ليس اليتيمُ من انتهى أبواه | من همِّ الحياةِ وخلَّفاه ذليلاً |
إن اليتيمَ هو الذي تلقى له | أمَّاً تخلّت أو أباً مشغولاً |
فإن لم نتولَّ التربية فمن يقوم بها؟! وإذا لم نقتدِ بتربيته -عليه الصلاة والسلام- فبمن نقتدي إذن؟!
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التحريم:6].
اللهم أصلح لنا النية والذرية وأقرَّ عينهم بصلاتهم أقول ماتسمعون..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام...
بعضُ الناس يقول معتذراً: أنا لا أستطيع تربية أولادي؛ فهم كبروا أو تمرّدوا علي وقد تجد أنه من أسباب ذهاب هيبته واحترامه في نفوسهم؛ لأنه أضاع أمر الله فيهم في أول أمرهم، فأضعتهم ولم تسأل عن أحوالهم ولا تأنس بالاجتماع إليهم، على طعام أو نزهة، فتقع الجفوة بينك وبينهم وتحصل النفرة؛ فكيف ينقادوا لك أو يأخذوا بتوجيهاتك وإلى من يلجئون عند المشكلة أو المصيبة؛ فلا بد إذاً من بذل الجهد في تربيتهم والدعاء لهم مع التوكل على الله وحين ذا نعذر أمام الله..
وتقوى الله أولاً وأخيراً تصلح الدنيا والدين (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور:21].
اللهم أصلح لنا الذرية واجعلهم قرة عين لوالديهم، وجنبهم الكفر والفسوق والعصيان (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما)[الفرقان:74].
اللهم ارحم ضعف إخواننا المسلمين وتولَّ أمرهم، واجمع شملهم واحفظ عليهم دينهم وأموالهم وأعراضهم، كن لهم مؤيداً ونصيراً ومعيناً وظهيراً.
اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل بلاء وفتنة، ومن شر كل ذي شر يا ذا الجلال والإكرام، انصر جنودنا واحم حدودنا ووفق ولاة أمورنا..