الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
أيها الإخوة: لقد أنعم الله علينا في أزمنتنا هذه بألبسة لم يحصل كثير من الناس بعضها؛ فهم في العراء تشح ثيابهم عن ستر عوراتهم؛ فضلاً عن شيء يستدفئون، أو يتجملون به. بل إننا نتقلب في نعمة الألبسة، ما كانت عند أبائنا وأجدادنا الأولين. فأين ألبستنا التي امتلأت بها مخازننا! عن ثوب واحد يلبسه الرجل في زمن سبق صيفاً وشتاءً؛ إن اتسخ غسله ثم لزم بيته حتى يجف ليلبسه، وإن انشق بادر ليخيطه حتى لا يعيقه؟!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله أسبغ على عباده النعم، ودفع برحمته النقم، وفق من شاء من عباده فشكر واغتنم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الفضل والكرم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل والهمم.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وتعرفوا على نعم ربكم يزدد بذلك إيمانكم، ويقوى به حب خالقكم.
فضلكم بنعمة الأمن، فلا علم لكم بالحروب إلا سماعاً، فيما يحلُّ قريباً من دياركم، وفضلكم برغد العيش، فصارت تجبى إليكم الثمرات من كل حدب وصوب.
فقيدوا نعمة الله بشكرها، واحذروا كفرها؛ فهو سبب زوالها ومحقها: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
وإن مما أنعم الله به على عباده نعمة اللباس، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26].
والريش، هو: لباس الزينة، والله جميل يحب الجمال.
وإنَّ نعمة اللباس؛ بها يعرف الإنسان ضعفه وحاجته إلى تكميل نفسه، تكميلاً ضرورياً يواري به سوأته، وتكميلاً حاجياً به يظهر زينته وجماله، فتنشرح نفسه.
والرجل يحب أن يكون نعله حسناً، وثوبه حسناً، ولقد كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- حُلَّة يتجمل بها للوفود والجمعة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32].
أيها الإخوة: لقد أنعم الله علينا في أزمنتنا هذه بألبسة لم يحصل كثير من الناس بعضها؛ فهم في العراء تشح ثيابهم عن ستر عوراتهم؛ فضلاً عن شيء يستدفئون، أو يتجملون به.
بل إننا نتقلب في نعمة الألبسة، ما كانت عند أبائنا وأجدادنا الأولين.
فأين ألبستنا التي امتلأت بها مخازننا! عن ثوب واحد يلبسه الرجل في زمن سبق صيفاً وشتاءً؛ إن اتسخ غسله ثم لزم بيته حتى يجف ليلبسه، وإن انشق بادر ليخيطه حتى لا يعيقه؟!.
بل أين ألبستنا كثرة وجودة من ألبسة الجيل الأول من الصحابة -رضي الله عنهم- مع نبيهم ومن بعده؟.
يقول أنس -رضي الله عنه-: كنا عند عمر بن الخطاب، فسأل عن معنى آية، وفي ظهر قميصه أربع رقاع.
وفي قصة الرجل الذي أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يزوجه، قال له: "اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد"، فذهب ثم رجع، فقال: لا والله ما وجدت شيئا، ولا خاتما من حديد.
ثم قال الرجل: ولكن هذا إزاري، ولها نصفه.
قال سهل "راوي الحديث": ما له رداء.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء؟!".
أما قصة عمرو بن سلمة الصحابي الصبي الذي قدمه قومه ليصلي بهم لكثرة أخذه للقرآن، يقول: فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص.
وفي قصة كعب بن مالك: لما بشر بتوبة الله عليه، يقول: فلما جاءني الذي يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشارته.
والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي أخبار أهل الصفة، وهم فقراء الصحابة، قال أبو هريرة: "كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء يستر به أعلى بدنه، وإنما هو إزار يواري به عورته، قال: فلم يجتمع لهم ثوبان، ولا حضرهم من الأطعمة لونان" رضي الله عنهم أجمعين.
وإنَّ هذه النعمة لا بد أن يضبطها المسلم بضابط الشرع، حتى يكون شاكراً لله بذلك، متطلعاً للمزيد من فضل الله.
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته بياناً واضحاً ما لا يجوز لهم من اللباس، حتى يجتنبوه.
وأما يجوز فلا يحتاج إلى بيان؛ لأنه الأصل، وقد امتنَّ الله به على عباده: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة: 29].
ألا وإنَّ مما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته مما لا يجوز من اللباس، اللباس الذي يختص به الكفار، سواء كان مختصاً بهم في شكله، أو تفصيله، أو في لونه ونقوشه.
ومثل الكفار الفساق من المغنين والممثلين وأشباههم.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من تشبه بقوم فهو منهم".
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وأقل أحواله التحريم".
ولأن التشبه بهم في الظاهر يولد الإعجاب بهم، والركون إليهم، وربما يولد التطلع إلى عقائدهم، والميل إلى طريقتهم، فالتشبه بالكفار لا يقتصر على ثوب تضعه على بدنك، أو جزء منه، ولكنه موافقة للكفار والفساق في الظاهر، وربما جرَّت إلى الموافقة في الباطن.
فاتقوا الله -عباد الله- واتقوا الله -يا شباب المسلمين-، فلا تهنوا وأنتم الأعلون.
ومما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- محذراً منه أمته: أن يلبس الرجل لباس المرأة، أو تلبس المرأة لباس الرجل، فلقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
وهذا ربما وقع بقصد التمثيل والفكاهة وإضحاك الحاضرين، فهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال، بل أشباه النساء ولا رجال، ملعونون على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم-، والواجب على من له سلطة الأخذ على أيديهم.
ومما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- تحريمه على الرجال خاصة: أن يلبس الرجل ما نزل على الكعبين، من سراويل أو قميص، وهو ما نسميه الثوب، أو مشلح، وسواء كان لباساَ للبيت أو مما يقابل به الناس، ويخرج به للسوق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" [رواه البخاري].
ولقد تساهل بعض إخواننا في هذا من أهل الخير، ورواد المساجد، فصاروا لا يبالون أن تنزل ثيابهم عن الكعبين، لا يضادون بذلك شرع الله، ولكن هكذا تعودوا، وإن الواجب قطع العادة إذا خالفت الشرع، وربما لا يكون بينك وبين الوعيد المذكور إلا مقدار أصبع أو أصبعين.
فارفع -يا عبد الله- ثوبك عن كعبيك؛ فإنه أتقى لربك، واحفظ وأبقى لثوبك.
ولقد ظنَّ بعض الناس أن الوعيد فيمن نزل ثوبه خيلاء وتكبراً، وليس الأمر كذلك، فإن من نزل ثوبه خيلاء له عقوبة أخرى أعظم من هذه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه".
فهاتان عقوبتان مختلفتان.
فمن نزل ثوبه أسفل الكعبين، فعقوبته: أن يعذب مقدار ما نزل عليه الثوب في النار، فإن جر ثوبه خيلاء فعقوبته أن لا ينظر الله إليه، بل في صحيح مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قالها ثلاثاً، فقال: أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
فاتقوا الله -يا عباد الله-، وأنتم تستقبلون فصل الشتاء، فلا تشتروا ولا تفصلوا لكم، ولا لأبنائكم ثياباً تعصون بها ربكم، فتكونوا ممن بدل نعمة الله كفراً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
رزقني الله وإياكم تعظيم حرماته، والوقوف عند حدوده، وجنبنا أسباب سخطه وعقابه.
أقول قولي هذا …
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإنَّ من تمام نعمة الله على عباده: أن يسر لهم ألبسة يلبسونها في الصيف، وأخرى يلبسونها في الشتاء، يتجملون بها، ويتقون بها برد الشتاء، فلم يبق الشتاء -بحمد الله- شبحاً مخيفاً بسبب ما أنعم الله به.
ملابس واقية، ومياه مسخنة، وبيوت محكمة دافئة، فاعرفوا نعمة الله عليكم لعلكم تشكرون.
وإنَّ من التيسير الذي يسَّر الله به على عباده خصوصاً في أيام البرد: أن أباح لهم أن يمسحوا على ما يلبسونه على أرجلهم، من كنادر وشراب، فإذا لبسوها على طهارة فيمسح المقيم يوماً وليلة من أول مسح بعد الحدث إلى مثله من اليوم الثاني، والمسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليها.
فمن مسح عند صلاة الظهر مثلاً فله المسح إلى الظهر من اليوم الثاني، لا يتجاوز هذه المدة.
وإن كان عند الظهر من اليوم الثاني لا يزال على طهارته، فلا حرج أن يصلِّي الظهر والعصر أيضاً، وأكثر من ذلك إذا كان لا يحتاج إلى وضوء؛ لأنَّ من انتهت مدَّة مسحه وهو باقٍ على طهارته فهو على طهارته ولو طالت المدَّة ما لم يحدث.
ومن خلع شرابه وهو على طهارة فهو على طهارته أيضاً حتى يحدث.
واعلموا: أنَّ القول الراجح أنه يمسح على كلِّ شراب لبسه، ولو كان خفيفاً، أو كثرت خروقه.
وإننا نرى بعض المتوضئين يخلعون شرابهم باستمرار عند كل وضوء، فشقوا على أنفسهم، لما جهلوا الحكم، فتعلموا من دينكم ما تصلحون به عباداتكم، وتعرفون به يسر شريعتكم.
فاللهم إنا نسألك الفقه في الدين ...
أيها الإخوة: من شكر النعمة أن المؤمن لا يستأثر بنعمة الله عليه، وهو قادر على أن يواسي ببعضها أخاً له في الدين، فالفصل شتاء، وقد علمتم حال المهجرين في بلاد الشام، كيف تخلى عنهم العالم، وتقطعت حبالهم إلا من ربهم؟!
فلننصرهم، ولنواسيهم بالثوب الذي يسترهم، والغطاء الذي يدفئهم، والطعام يشبعهم، فحالهم حال بؤس ومسغبة، كان الله في عونهم.
فتعرفوا على الجهات الموثوقة التي قامت بفرض الكفاية، وتحملت مسؤولية إغاثتهم بصدق وأمانة، وكل بحسبه: (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ) [البقرة: 272].
و(إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
"وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"...