الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
الله رقيبٌ عليك في الجوال الذي بيدك تستخدمه بنفسك بخصوصية وأرقام سرية لا يعرفها إلا أنت.. أنت ترسل وأنت تستقبل وأنت من ينشر لا رقيب عليك إلا الله؛ فإن أسأت تأثم، وإن أصلحت تؤجر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليِّ الكبير، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، اللطيف الخبير، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الداعي لأكمَلِ دين وأهدى سبيل، عليه وعلى آله وصحبه أزكى الصلاة والتسليم..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن ديننا نهض بالأمةِ كلِّها ديناً وتوحيداً ليُتمِّم مكارمَ الأخلاق، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه.. يحثُّ على معالي الأمور بقرآنٍ كريمٍ ومنهجٍ نبويٍّ سليم..
ربَّى -صلى الله عليه وسلم- عليه صحابتَه فاستطاعوا -بتوفيق الله سبحانه- بعشر سنوات نبذ الشرك ووضع قيمٍ وأخلاقٍ جذبت مَنْ حولهم ليقتدوا بها، بل غلبَت حضاراتٍ كالروم وفارس جاءتها بقيم الإسلام وبمعالي الأمور، فدخل الناس في دين الله أفواجاً.. وقدّموا للعالمِ حضارةً وعِلْماً استوعب الناسَ أجمعين بقواعدَ تُصلحُهم وترفعُ هِّمتَهم وتزكو بهم..
لكن خطرَ ضعفِ الهمم العالية بتخلف الأمة بتفاهاتٍ غالبة! ليس بسبب الجهل فالأميّةُ قلّت.. ووسائلُ الإعلام والتواصل انتشرت.. العالمُ تقارب وتواصل.. الثقافةُ وطلبُ العلم بالتقنية سَهُلت.. غابت أميّةُ القَلَمِ لكنَّ أميةَ العقل حَضَرت!! وُجدَ الجهلُ مع أن المدارسَ والجامعات انتشرت!! فتوحيد لله جاء به الإسلام وبُعث الرسل لأجله ابتعد بعضُ الأمة عنه.. قدّسوا أشخاصاً وأشركوا مع الله آلهةً أخرى، وربما ألحد بعضهم وهم مُتعلِّمون.. الأخلاقُ ضاعت اليوم بين أوساط المسلمين، بل العالمُ يحتضرُ أخلاقيّاً بغيابِ قيمٍ للعدلِ والأمانةِ والإخاء والحق والوفاءِ.. التي ضعفت وتشوهت بانتشار توافه وغثاء!! أمةٌ مصابةٌ بالخلاف بينها.. وضياع أوطانها وإراقة الدماء.. بل تعيشُ تفاهةً واضحة في وسائل التواصل شوهاء!! فبناءُ الأسرة اهتزَّ بالانشغال بوسائل الجوال، ومكانةُ الوالدين ضَعُفَت.. تماسكُ المجتمع وتكاتفه تخلخل، والجرأةُ على بعض القيم والمحرمات في تلك الوسائل استفحل.. تسارعٌ لخصومةٍ وافتراق وإفساد لأجلِ تفاهاتٍ سياسية فتتحولُ بلدانهم إلى خراب!! أو شتائم واستهزاء بمصاب!!
البعض يعيشون لهواً وغفلةً مُسيطرةً، مهملين ما يُنيرُ عقولَهم ويرفعُ همتهم، فتأثَّروا كغيرهم بثقافةٍ تافهةٍ غالبةٍ أصبحت طاغية.. فسقطت الهممُ العالية بم لا يرقى بفكرٍ ولا عقلٍ ولا علمٍ! حتى وصلنا لزمن سيادة التفاهة وثقافتها المنتشرة؛ فوسائل التواصل بالجوال أظهرت بتنوعها وطريقة استخدامها من واتس وتويتر وسناب شات وفيسبوك وغيرها ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في إظهار سلبياتٍ عندنا ولم نكن نعرفها شئنا أم أبينا.. سَرَقت أوقاتنا وكشفت عن ضعفِ خُلقٍ وقيمٍ وبيّنت ثقافةً تافهةً يتابعها كثيرون لدينا بمشاهداتٍ هائلة لتوافه لا يُضيِّعون بها أوقاتهم فحسب، بل يتابعون ضياعَ أوقات غيرهم وسخافاتهم وترف الأغنياء ومباهاتهم..
سبحان الله!! مع تشويهٍ لمجتمعاتنا عبر نشر ذلك ومتابعته!! ونشرٍ للإشاعة بلا تثبت ولا تروّي يهملون تعاليم دينهم ويسيئون لأوطانهم بالتحريض.. اتهامٌ للأشخاص في ذممهم وأعراضهم، وتُشويهٌ للبلد والجمعيات.. إشاعةٌ تُخلُّ بالأمن والمجتمع وتنشرُ الكذبَ والجريمةَ والخوف والقلق في الناس ولا يبالي بآثارها ناشرُها؛ فالمهمُّ عنده تحقيقُ سبقٍ بنشرها ولو كانت كذباً أو تمّ نفيها لاحقاً مع نيله لإثمِ نشرِها وأثرِها.. حتى تخصصت مؤامرات ووجدت مراكز بالعالم تستهدفُ أمنَ البلدان عبر وسائل التواصل.. تبث التغريدات والشائعات والمقاطع بهدف التدمير وزرع الفتن فيها والناس ينشرون (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء:83].
يظنُّ الناشر بلا تثبت أنه سلم من الإثم والغيبة، وقد يكتبُ باسمٍ مستعار أو يرمزُ ويلمزُ بكلامٍ!! ويتركُون بابَ المناصحة المشروعة والشفافيّة والوضوح ثم يدّعون الإصلاح!
وهذا دليلٌ على ثقافةِ تفاهةٍ منتشرةٍ في وسائل التواصل عندنا.. إشاعةٌ وإسرافٌ وترفٌ ينافي أبسطَ قواعد العقل والأخلاق والقيم؛ فأسرار البيوت أصبحت مكشوفةً عبرها ومعرضةً لاطلاع الغريب واختراق البعيد.. والفضيحة والتهديد.. والبنات يظهرْن فيها بتبرجٍ وسفور!! تافهين أغنياء يفاخرون بإسراف أموالهم وسياراتهم وطائراتهم الخاصة ليغيظون الفقراء.. أو بتصوير عبادتهم وطاعاتهم رياءً ومباهاة .. أناسٌ عبر السناب وغيره يُشغلون الأمةَ بالتفاهات ومتابعوهم يلاحقونهم -على ما فيهم من عوج-؛ ليتنافسوا بإظهار التوافه.. يتابعون خلال سنابه أو غيره أفعالاً خادشةً للحياء وقد تكون محرّمةً.. أقلُّ ما يقالُ عنها أنها لا تليق أن تُنشر أو تُشاهدَ؛ فكيف بانتشارها ومتابعة الصغير والكبير لها.. يكذب أحدهم فيشتهر ومع نفيها فالناس يصدّقونها! يُقلِّدونَ النساء! أفعالٌ هستيريّة لرجل كبير بلحيته أو لمجنون في عقله!
أفتريدون ثقافةً للتفاهة وضياعاً للهمم والعزائم أكثرُ من ذلك عبر وسائل التواصل؟!.. ألا يخشى المترفون والمستخدمون بتفاهة وترف ومباهاة لوسائل التواصل التي هي نعمة من الله حوّلوها بتصرفاتهم إلى نقمة أن يكونوا ممن حقَّ عليهم قولُ الله فيُدمَّرون (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل:112]؛ فمظاهر الإسراف والترف التي يظهرونها سببٌ للتدمير وفقد النعم!! (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[يوسف:21].
عباد الله: إنَّ دراسةً يسيرةً لما يُنشرُ في هذه الوسائل يبين أن أغلبه لا يرقى إلى ثقافةٍ حقيقيةٍ وعلمٍ يُنشرُ أو خُلقٍ يُقتدى به وإنما هو تفاهةٌ وترفٌ وتكرارٌ.. وكذبٌ وللوقت إهدار.. وإذا وُجدَ ما يَنشرُ القيم ويعرض النفع فسيُواجِهُه البعضُ باستهتار!! حتى الدول أصبحت تعاني من آثارها على الشعوب وقوة تأثيرها وسرعة انتشارها الخلل عبرها.. والجوال -أخي- بيدك أنت تتحكم به تنشر أو تستر.. إفراز المفيد مما يصلك فاستفد منه واكتم السيئ وامسحه..
بعضنا يتهاونُ برؤيةِ المحرمات ويعتادُها بكثرةِ المقاطع.. وظهورٍ لنساءٍ متبرجات وموسيقى وأغاني.. مشاهداتٍ مُخلة.. وكلُّها باسم لا يفتكم مشاهدته.. مقطعٌ غريب.. مقطعٌ مضحك.. وغيره من عناوين لامعةٍ جذّابة.. لا يُستثنى منها رجلٌ ولا امرأةٌ ولا أطفال أو غيرهم.. أسهل شيء فيها اتهامُ الناس والحديثُ بأعراضهم والتشفي بمصابهم والناس يُصدّقون الاستهتار برأي عالم وفتواه أو اتهامه في نيته بينما الله يقول (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[النور: 16] وكلُّ ذلك باسمِ متابعةِ وسائل التواصل!! وثقافتها الجذّابة بالتوافه المعروضة.. وكأننا لسنا محاسبون على ما نكتب ونقول ونشاهد (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)[الإسراء:36].
وسائل وتُعطي بطرحها صورةً عن المجتمع شئنا أم أبينا مع إضاعةٍ للوقت.. وتؤثر على التواصل والصحة والودِّ بين الأسر.. وكثرةُ استخدامها والتأثُّرُ بها تُبيِّنُ أهميةَ الحديث عنها وضرورةَ الاهتمام بها إضافةً لمخاطر أخرى حولَها تدعو للانتباه لها؛ فالبيوتُ مملوءةٌ ومتأثرةٌ باستخدامها.. والجرأةُ الزائدةُ بما يُعرض تَعدَّى الثوابتَ والقيم وأنظمة الدول مما يثيرُ الفتنة وينشر الفسادَ ويحتاج لوقفاتٍ حولَها.. اليوم أصبح كل أحد يرسل ما يأتيه لا يُبالِي إن كان مُحرَّماً أو صدقاً أو يناسبُ عقلاً أو يثيرُ إشاعة.. وكأن بعضَ الناس ضاعَ عقلُهم وتمييزهم بمتابعة هذه الوسائل ونشر ما فيها للمشاهير حتى انطبق عليهم قول الله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)[الأنعام:116].
إخوتي: نحن لسنا نُعمِّمُ الشرَّ والتفاهة كلا والله؛ فالخيرُ في هذه الأمة باقٍ بدعاةٍ ومُثقّفين وأناسٍ جادين.. يستفيدون ويفيدون في وسائل التواصل بتناولٍ راقي للفكر وعلاجٍ مناسبٍ للمشكلات ومتنفسٍ للهموم وصوتٍ مُعبرٍ للحق وعرضٍ لمآسي الأمة وآلامها شرقاً وغرباً.. وحديثٍ عن هموم الناس جعلت المسؤول يتجاوبُ معها.. وكذلك وعظاً ونصيحةً وإرشاداً وتذكيراً بالحق في وقته وذكراً لله وصلاة وسلاماً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأينا أثراً إيجابياً لها في الحفاظ على تماسك دول!! والمؤسف أن ذلك خيرٌ قليل أمام رُكامٍ كبيرٍ من تفاهةٍ تنتشر في هذه الوسائل.. وتلقى رغبةً وقبولاً ومتابعةً لا تستغرب معه قول القائل: "لا غرابة لكثرة متابعي الدجال فالوسائل بتفاهة ما يطرح بها وكثرة متابعيها تثبت صحة ذلك".
أحدُ عقلاء السناب ومشاهيره يقول: لو طرحت المواعظ وأكثرت منها لما تابعني الناس بها.. وهذا يدلُّ على حجم تفاهةٍ للمتابعين أصبح يقودُ استخدامَها!! يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطِّنوُا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا"(رواه الترمذي).
اللهم اهدنا للعقل والخير والهدى والصلاح، وأعطنا خير هذه الوسائل بما يرضيك، وجنبنا فيها ما يغضبك..
أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: وسائل التواصل -إخوتي- نعمةٌ من الله رزقنَا الله إياها قرَّبت البعيد؛ فالمسافرُ يُطمئِنُ أهلَه، وهي سبب للصلة والتواصل ولمعرفة أخبار الناس وأحوالهم وشجونهم وشؤونهم!! هي نعمة تستحقُّ منا الشكر!! وشكرُها باستخدامها بالمفيد.. وهي وسائل تؤكد أيضاً تؤكِّدُ معنىً إيمانيٍّ عظيم للرقابة الذاتية؛ فالله رقيبٌ عليك -يا عبد الله- في الجوال الذي بيدك تستخدمه بنفسك بخصوصية وأرقام سرية لا يعرفها إلا أنت.. أنت ترسل وأنت تستقبل وأنت من ينشر لا رقيب عليك إلا الله.. فإن أسأتَ تأثم وإن أصلحت تُؤجر!!
فاسعَ لأن تعبدُ الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. احرص أن تتعامل معها بما يُرضي الله عنك.. كما أنها وسائلُ أكَّدت مسؤوليةَ الدولةِ والأبِ والأسرةِ والمدرسةِ والتعليمِ بمجملهِ، والإعلام بأكملهِ، كلُّهم مسؤولون أمام الله بمراقبة هذه الوسائل ووضع الأنظمة الزاجرة والمؤدّبة لمن يُحاولُ العبثَ من خلالِها أو ينشرُ فيها ما يُسئُ لبلده أو للناس أو يتطاولُ على ثوابتِ الدين؛ فليس من المعقول انتشارُ مقاطع تؤثّرُ على أمننِا وبلادنِا وتشوّهُ سمعتَنا أو تتطاول بجرأة على ديننا وثوابتنا ثم يعتبرُ هذا الشخص نفسه حُراً لا يلمسه أحد فهذا غير صحيح.. نحتاجُ لأنظمةٍ رادعةٍ تُطبّقُ على المتطاولين من خلال هذه الوسائل لنحاربَ شرورَها ومخاطرَها.. ونحسنُ استخدامها..
نسأل اللهم ارزقنا شكر نعتمك واهدنا للخير والهدى والصلاح والتوفيق، واحفظ علينا أمننا، وأدم علينا النعم وارزقنا شكرها وباركها، وانصر جندنا المرابطين، ووحد كلمة الأمة وأنقذ مستضعفها، واكفنا شر الطغاة والمرجفين، وأصلح ولاة أمور المسلمين..
والحمد لله رب العالمين.