البحث

عبارات مقترحة:

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

ظاهرة الرشوة

العربية

المؤلف عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المعاملات
عناصر الخطبة
  1. حب المال غريزة في النفوس .
  2. الفرق بين محبة الكافر وبين محبة المؤمن للمال .
  3. داء الرشوة .
  4. تحريم الرشوة .
  5. صور الرشوة .
  6. هدايا العمال .
  7. فضل الشفاعة الحسنة .
  8. الصحابة مضرب المثل في الأمانة .

اقتباس

فغيرُ المؤمن محبتُه للمال محبةٌ خارجة عن المعقول، محبةٌ تحمله عل طلبِ المال بأيّ طريقٍ كان، لا يبالي أتى المالُ من حلال أم من حرام، المهمّ الحصولُ عليه، وأما طرقُ الاكتساب والتحقّق منها فلا يبالي بذلك، حبُّ المال أعمى قلبَه، وأصمَّ أذنيه عن سماع الحق، فهو ساعٍ في طلب المال بأيّ طريق، لا يقدِّر قدرَه، وإنما يريد الوصولَ إليه، أما كونها حلالاً أم حرامًا أم مشتبهًا فتلك أمورٌ لا يبالي بها...

 

 

 

 

أما بعد: 

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.

عباد الله: حبُّ المال غريزةٌ في النفس، جُبلت النفوسُ على حبِّ المال، حكمةٌ عظيمة من ربنا -جل وعلا-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]، (وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8].

وأخبر تعالى أنَّ بالمال قوامَ حياة الناس: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْولَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا) [النساء: 5].

لكن تلك المحبة تختلف من إنسان إلى آخر، فغيرُ المؤمن محبتُه للمال محبةٌ خارجة عن المعقول، محبةٌ تحمله عل طلبِ المال بأيّ طريقٍ كان، لا يبالي أتى المالُ من حلال أم من حرام، المهمّ الحصولُ عليه، وأما طرقُ الاكتساب والتحقّق منها فلا يبالي بذلك، حبُّ المال أعمى قلبَه، وأصمَّ أذنيه عن سماع الحق، فهو ساعٍ في طلب المال بأيّ طريق، لا يقدِّر قدرَه، وإنما يريد الوصولَ إليه، أما كونها حلالاً أم حرامًا أم مشتبهًا فتلك أمورٌ لا يبالي بها، ولا يهتمّ بها، ولا يقيم لها وزنًا، وذاك بلاء عظيم.

أما المؤمن، فهو بخلافِ ذلك، هو محبٌّ للمال، حريصٌ على اكتساب المال، لكنه يقِف عند ما حُدَّ له، وينتهي إذا نُهي، ويفكّر في المكاسب: ما هذا المكسب؟! أحلالٌ فيقدم عليه أم حرام فيبتعد عنه؟! هو يحبّ المال، لكن لا تحمله محبتُه للمال أن يكتسبَه بالطرق غير المشروعة، بل يقف ويفكِّر في هذا المال الذي سيصل إليه: ما طريق الوصول؟! أمن حلال أباحه الله، أم من حرام حرمه الله؟! فإن يكن حلالاً فإنه يظفر به، وإن يكن حرامًا ابتعدَ كلَّ البعد عنه، وحمى نفسَه من الحرام، يعلم يقينًا أنَّ الله سائله عن هذا المال: من أين أتى؟! وأين ذهب؟! ويعلم أيضًا أنه سيرحل من الدنيا بأعماله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه سيخلِّف هذا المالَ بعده إلى من يحسن استعمالَه، فترتفع به درجاتُه عند الله، فيكون ذلك الوارثُ خيرًا منه؛ حيث استعمل المالَ فيما شرع الله، أم يستعمله مَن بعده فيما حرم الله عليه، فينضاف إلى وزر فعله أوزارُ من تسبّب في آثامهم والعياذ بالله.

إذًا فعلى المؤمن تقوَى الله في نفسه والتبصرُ في عواقب الأمور، وليعلمْ أن البركةَ في الطيّب النافع، وقد أمر الله المرسلين بالأكل من الطيبات فقال: (ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ) [المؤمنون:51]، وأمر المؤمنين بقوله: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ) [البقرة:172]، والطيّب ما أبيح وحلّ استعماله، والخبيثُ ما حرِّم وحرم تناولُه.

أيها المسلم: إنَّ مِن أكل الخبيث ومن المكاسب الخبيثة المحرمة أخذَ الرشوة، فالرشوة داءٌ عضال، ومرضٌ فتَّاك في مجتمع المسلمين، وبلاءٌ عظيم، ذلكم لسهولتها ويُسرها، وطريقُ اكتسابها يسيرٌ على بعض الناس، ولكن هذا المال المأخوذ بالرشوة مالٌ خبيث، سحتٌ محرّم على آخذه.

أيها المسلم: إن داءَ الرشوة داءٌ عضال، مرضٌ فتاك في مجتمع المسلمين، لا ينجو منه إلا من ملأ الله قلبه إيمانًا، وعرف عواقبَ الأمور، وتبصَّر في الواقع التبصّرَ الصحيح، فإن المالَ يغري ويحمل على كلّ سوء إلا من رزقه الله إيمانًا يردعه ويحجزه عن هذا الحرام.

داءُ الرشوة داءٌ عضال، أمرٌ محرَّم شرعًا بكتاب ربنا وبسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وبإجماع المسلمين، الله يقول في كتابه العزيز: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَكُمْ بَيْنَكُم بِلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188]، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِلْبَـاطِلِ) [النساء:29]، فالرشوة أخذُ مال بالباطل، وأخذ مالٍ بلا سبب، وأخذ مالٍ بلا موجب، وإنما هو ظلمٌ وعدوان وإساءةٌ ودناءة وسوءُ فعل، وهو سحتٌ كما قال الله في حق اليهود: (سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة:42]، فسَّر الصحابة السحت بأنه الرشوة، كما فسّره عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وأن قوله: (أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ) أن اليهود من أخلاقهم تعاطي الرشوة والسعي فيها، فالرشوة سحتٌ، والسحتُ خبيث، و"كلّ جلد نبت من سحت فالنار أولى به".

أيها المسلم: هذه الرشوةُ مالٌ أتاك بغير حق، مالٌ اكتسبته ظلمًا وعدوانًا، وتعدٍّ ومجاوزةٌ للحد، فهو ظلمٌ منك لمن أخذتَ منه، وبأيّ حق أخذتَ هذا المال؟! أخذتَه ظلمًا وعدوانًا، ذلكم أنَّ الرشوةَ يدفعها أحيانًا إنسانٌ ليُحكم له على خلاف الحقّ والعياذ بالله، وقد يدفعها ليُعطَى ما لا يستحقّ أن يعطَى إياه، يدفعها لمن يريدُ منه أن يعطيَه ما لا يستحقّه وما لا حقَّ له فيه وليس من أهل ذلك، يدفعُها لكي لا يؤخَذ الحقُّ منه أو يخفَّف عنه ما عليه من حق، يدفعُها أحيانًا ليقدَّم على من هو خيرٌ منه، ويقدَّم على من هو أفضل منه، هذه أسباب دفعِ الرشوةِ لمن يدفعها، والآخذ لها -والعياذ بالله- يظلمُ الناسَ ويبخسهم حقوقَهم، ويتوانَى في تنفيذِ الحقوق، ويماطل بالحقوقِ والقيام بالواجب.

فيا أيها المسلم: تفكّر في نفسك، واعلم أنَّ ما أخذتَه فإنَّ ذلك ظلمٌ وإساءةٌ منك إلى نفسك وإلى إخوانك المسلمين، بالرشوة هُضمت الحقوق، بالرشوة أُخِّرت الحقوق، وبالرشوة أخِّر ذوو الفضل، وبالرشوة عمّ الفسادُ إلا من عصم الله من الناس: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا) [الأعراف:56].

أيها المسلم: إن سنةَ نبينا -صلى الله عليه وسلم- دلّت على تحريم هذا البلاء في أحاديثَ رواها ثلاثة من الصحابة، فيذكر أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم"، ويقول عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي، ويقول عبد الله بن عمر: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي والرائش"، وهو الواسطة بينهما، كلُّ أولئك لعنهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، واللعنُ حقيقتُه الطردُ والإبعاد من رحمة الله.

أيها المسلم: فاتق الله في نفسك، اتق الله في العمل الذي أنت مسؤولٌ عنه يومَ القيامة، فإياك أن تجعلَ مسؤوليتَك وسيلةً لاقتناص أموال الناس بغير حقّ، تمنع الناسَ حقوقَهم إلى أن تساومَهم على حقوقهم بجزء منها وإلا فلا يأخذوا شيئًا، تمنع الناسَ حقوقَهم إلى أن تساومَهم على شيء منها وإلا وضعتَ العراقيلَ في طريقهم وماطلتَ بهم وأتعبتَهم حتى يخضعوا ويدفعوا وإن كانوا ساخطين عليك تبغضك وتلعنك قلوبُهم، ولكن لا محيصَ لهم عن واقعهم.

أيها المرتشي: اتق الله، فإنَّك تقدِّم من ليس كفؤًا للمكان لأجل رشوةٍ تنالها.

أيها المسؤول أيضًا: تفكّر في نفسك، فقد تتوانى في تنفيذِ الحقوق، وحملِ من عليه الحق على أداء الحقّ لأجل أمرٍ أخذتَه، لرشوة أخذتَها، فلا تبالي بمصالح الناس، إن أتاك من تظنّ أنه ينفعك بجاهه وماله قمتَ بالواجب خيرَ قيام، ونفَّذتَ المسؤولية، وأدَّيت الحقوقَ كاملة، ولكن إن أتاك من لا ترجو جاهَه ولا ترجو مالَه تناسيتَه وأعرضتَ عنه، وما كأنه ذو حق يستحقّ حقَّه، لماذا؟! لأن ضميرَك قد فسَد، قلبك قد ضعُف إيمانُه، فأنتَ لا تؤدّي الأمانةَ العملية، لا تؤدّيها إلا طمعًا ورجاءً، وإلا فأنت ألأمُهم وأقلُّهم دينًا ومروءة.

أيها المسلم: إياك أن تستغلَّ مسؤوليتَك في اقتناص ذلك المال، فوالله إنه مالٌ ممحوق البركة، وإنه مالٌ سيعود عليك بالضرر إن عاجلاً أو آجلاً، ومالٌ سيُفسد مالك الطيّب، ويفسد قلبَك، ويجعلك مريضَ النفس، لا تؤدِّي أمانَة، ولا تنفِّذ حقًا، ولا تقوم بواجب، فراقب اللهَ قبل كلّ شيء، وخَفِ الله قبلَ أن تخاف الخلق، راقب اللهَ قبل أن تراقبَ الناس، إنّ هذا الداءَ لا يمنع الإنسانَ منه إلا إيمانٌ صادق استقرَّ في قلب العبد، علم أن أمانةَ المسؤولية تنفيذُ الواجبات، والقيامُ بحق الأمانة خيرَ قيامٍ، أُعطِي أم لم يعطَ.

أيها المسلم: الرشوةُ تأخذ صورًا شتى وألوانًا متعددة، فبعضهم قد يصرِّح بطلبِها، وإن لم يصرِّح بطلبها حاولَ بكل وسيلةٍ أن يلمِّح ويشير لذلك الإنسانِ بطلبها بأيِّ صورةٍ كانت، إما هدية يعطاها، أو مراعاة في أسعار قيم سلعة يروّجها، أو تسهيل مهمّته أو تذليل الصعاب له في أيّ قضيةٍ ما، المهمّ أنه يساوم على تنفيذ الحقوق لمصلحة نفسه التي يرجوها، والمؤمن حقًّا يخاف اللهَ ويتقيه ويراقبه في كل أحواله.

أيها المسلم: إنَّ نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- يقول لنا: "من استعملناه على عمل، فرزقناه عليه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول"، ويقول مخاطبًا لعُمّاله: "هدايا العمّال غلول"، يحذّرهم من أن يقبَلوا الهدايا من الناس؛ لأنهم لم يُهدوا إليهم إكرامًا لذواتهم، ولا محبةً لهم، لكن لأجل مناصبهم ومواقعهم، أهدَوا إليهم ليستميلوا قلوبَهم، ويخدعوا نفوسَهم، ويذلُّوهم ويحطِّموا شخصيَّتَهم الإيمانيَة القويَّة، ولهذا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من أصحابه مزكِّيًا، فجاءهم وقال لهم: هذا لكم، وهذا أهدِي إليَّ، فخطب النبي أصحابَه قائلاً: "ما بالي أستعملُ الرجلَ منكم على العمَل، فيأتيني ويقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ؟! ألا قعد في بيت أبيه وأمِّه لينظرَ أتأتيه هديتُه أم لا؟!"، وقال أيضًا: "من استعملناه على عمل فكتمَنا منه مخيَطًا فما دونه جاء به يوم القيامة"، فقام رجل أسود من أصحابه فقال: يا رسول الله: اقبَل مني عملَك، قال: "ماذا؟!"، قال: سمعتُك تقول كذا وكذا، قال: "وأنا أقول: من كتمنا مخيَطًا فما دون جاء به يحمله يوم القيامة".

أيها المسلم: ما أخذتَه اليوم في الدنيا فإنَّك لا توفَّق فيه لخير، ولا تُعان فيه على طاعة، بل يكون سببًا لقسوة قلبك، وفساد دينك، ومحق بركتك، وإفشال الأمر في رزقك، فاحذَر ذلك أخي المسلم، وتوقَّ الحرامَ ما استطعتَ لذلك سبيلاً، أدِّ واجبَ الأمانة، أدِّ واجب المسؤولية في كلّ أحوالك لتكونَ سعيدًا يومَ لقاء الله، لتخرجَ من هذه الدنيا وأنت مطمئنٌّ على مكاسبك وأنَّها مكاسبُ طيبة، احذر المالَ الخبيث، ولا يهمّك كثرة المال، وإنما يهمّك حلُّه من حرمته.

فيا أيها المسؤول: اتق اللهَ وراقب الله، وعامل الناسَ جميعًا بالعدل، واتق الله فيما وُلّيتَ عليه، فإنَّ اللهَ سائل كلَّ راعٍ عما استرعاه.

أسأل الله أن يرزقَنا وإياكم القناعةَ بالحلال، وأن يحفظَنا من الحرام، وأن يعينَنا على أنفسنا، ويعيذَنا من شر أنفسنا والشيطان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِلْبَـاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.

عباد الله: روى أبو داود -رحمه الله- في سننه عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من شفع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديةً فقبلَها فقد أتى بابًا من أبواب الربا".

انظر -يا أخي- إذا شفعت لأخيك شفاعةً وأعطاك هديةً إكرامًا لك ولشفاعتك فلا تأخذْها، لماذا؟! لأنَّ ما فعلتَه أمرٌ أنت مطالبٌ به شرعًا، اللهُ -جل وعلا- أمرَ المؤمنَ أن يسعى في مصلحة أخيه المؤمن، ورغّب في الشفاعة الحسنة: (مَن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا) [النساء:85]، وأما أن تتَّخذ شفاعتَك وجاهَك وسيلةً إلى أخذ المال، فهذا المال الذي تأخذه مكسبٌ سيئ، قال بعض أئمة المالكية -رحمهم الله-: "من كان له جاهٌ عند مسؤول، فاتَّخذ جاهَه وسيلةً إلى أخذ المال عن طريق قضاء مصالح بعض الناس، فإن ذلك رشوةٌ ملعون فاعلُها"؛ لأن المسلمَ بجاهه ينفع إخوانَه المسلمين، ويسعى في نفعهم، وإذا لم تنفعهم فإياك أن تضرَّهم، لأنَّك إذا أخذتَ مكسبًا على تلك الشفاعة، فأنت بهذا خائنٌ لأمانتك، وأنت بهذا معطِّل ما يدعو إليه إسلامُك من سعيٍ في مصالح الأمة وعدم الاتجار بهذه الأمور.

فالمسلم إذا وفَّقه الله لنفع إخوانه المسلمين فليبذُل جهدَه بما يستطيع، وأما أن يساومَ على هذه المنافع، ويجعل جاهَه وسيلة إلى أخذ أموال الناس، أو يتغاضوا في أمور، فإنَّ ذلك حرامٌ عليك، ومالٌ أخذته بغير حقه، فتُب إلى الله منه، وتخلّص منه، وإياك أن تخدعَك الدنيا، فتهلكَك وتفسدَ دينك.

أيها المؤمن: إن الإيمانَ الصادقَ يمنع صاحبَه عن أكل الحرام، يحول بينه وبين المكاسب الخبيثة، هذا الإيمان الصادق، ومن ادعى الإيمانَ وهو لا يبالي بمكاسبه ولا يتقي الله فيها دلَّ على كذبه في دعوى صدق الإيمان.

أيها المسلم: إن أصحابَ محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين تربَّوا على يده وعلى توجيهاته العظيمة كانوا أصلحَ الناس، وأحسنَهم تعاملاً، وأبعدَهم عن الحرام بكل صوره.

بعث محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله بن رواحة إلى يهودِ خيبر ليخرِص لهم، فيُعطي النبيّ ما له ويعطيهم ما لهم، فكأنهم قالوا له: زدتَ علينا يا ابن رواحة، قال: ما أخذتُ لنفسي فخذوه أنتم، وما دفعتُه لكم فادفعوه إليّ، إني لم آتِ إلا لأنصفكم، فلمَّا رأوا ذلك منه أهدَوا له هدايا لأجل أن يتواضَع في الخرص، وهو واحدٌ ليس معه إنسان آخر، فقال: ما جئتُكم لأنتقص أموالَكم، ولكن جئتُ لأعدل بيني وبينكم، فقالوا: بهذا قامت السمواتُ والأرض.

أولئك القومُ الذين صدقوا اللهََ في إيمانهم، وصدقوا اللهَ في مسؤولياتهم، فحمَوا دينَهم، فصاروا أسعدَ الناس وأفضلَهم. قال بعضُ السلف: "والله، ما سبقَهم أبو بكر بكثرةِ صلاةٍ ولا صيام، ولكن بإيمانٍ صحيح وقرَ في قلبه"، ذلك الإيمان الصادق الذي تظهرُ آثارُه عند الامتحان وطغيان الدنيا وشهواتها، فالمؤمن الصادق الإيمان يحجزه إيمانُه عن سرقةٍ وعن ربًا وعن رشوة وعن استغلالِ منصبٍ فيما يعود على ثروته المالية، يمنعه إيمانُه ويحجزه عن الحرام، ويقيه شرَّ نفسه وطغيانَ شهواته. أسأل الله لي ولكم السداد في القول والعمل.

واعلموا -رحمكم الله- أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.

وصلوا -رحمكم الله- على محمد -صلى الله عليه وسلم- امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...