الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنَّ جريمةَ التحرُّشِ الجنسيِّ بالأطفالِ منَ القضايا الّتي تؤرقُ العالمَ أجمع، وتعدُّ منْ أخطرِ القضايا الاجتماعيةِ الّتِي يتمُّ التكتُّمُ عليها خشيةَ الفضيحةِ العائليةِ أو العارِ الاجتماعيِّ، دونَ بذلِ الجهودِ لاستئصالِها من مجتمعاتِنا ممّا يجعلُها ماضيةً في الاستفحالِ، غيرَ مستجيبةٍ لمَا يقدَّمُ حيالَها من حلولٍ، ممّا دفعَ بعضَ الدولِ لسنِّ قوانينَ رادعةٍ للمتحرشينَ بالأطفالِ.
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ؛ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)[آل عمران:102].
عبادَ الله: لقد اختصَّ اللهُ -جلّ وعلا- عصرَنا الحالي بأدواتٍ وثقافاتٍ وإمكاناتٍ لم يعهدْها آباؤنا ولا أمهاتُنا، فقد كانت حياتُهم بسيطةً غيرَ معقَّدةٍ، كان همُّهم طاعةَ اللهِ -جل وعلا- وكسبَ رضاه والسعيَ في طلبِ رحمتهِ وجنتهِ.
أمّا نحنُ فقدْ ظهرتْ عندنا وسائلُ التكنولوجيا والمخترعاتُ التي ساهمتْ بشكلٍ كبيرٍ في نفعِ الناسِ، لكنّها شغلتهمْ عن الغايةِ الكبرى التي خُلقوا منْ أجلِها، ألا وهي عبادةُ اللهِ -جل وعلا- وتوحيدهِ وتعظيمِهِ.
ومنْ أهمّ تلكَ المخترعاتِ التي سخّرها اللهُ لنا: شبكةَ الإنترنتِ العنكبوتيةِ، والّتي يسرَها اللهُ لنا من أجلِ توظيفِها فيما يُلبِّي حاجاتنا ومتطلباتنا، ويساعدُنا على الانتفاعِ بها في حياتنا.
وقدْ نفعَ اللهُ -تعالى- بهذا الانترنتِ البشريةَ نفعاً عظيماً، بزيادةِ سرعةِ التواصلِ بينَ الناسِ، وسهولةِ التّجارة، وتحصيلِ المعلوماتِ المفيدةِ، ومعرفةِ الكثيرِ من أمورِ الدولِ الأخرى في سائرِ أنحاءِ العالم.
وعلى الرغمِ من تلكَ الفوائدِ العظيمةِ إلا أن صنفاً من البشرِ قد استغلوهُ استغلالاً سيئاً، عن طريقِ تصميمِ برامجَ وقنواتٍ ساعدتْ في نشرِ ما يروّجونَ له من الإباحيّةِ، والجنسِ، والاختلاطِ، والشذوذِ، والفواحشِ والمنكراتِ، وصرفِ الناسِ عن دينهِم، وإشغالهِم بالدنيا عن الآخرةِ، حتى أصابَ ذلك بعضَ أبناءِ المسلمينَ، ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ.
ولقدْ أدَّتْ تلك البرامجُ والقنواتُ إلى تأثُّرِ كثيرٍ منْ أطفالِ المسلمينَ تأثّراً عظيماً بما يُعرض عليهمْ من ألعابٍ وصورٍ ومقاطعَ وأفلامٍ تحتوي على أمورٍ جنسيةٍ لمْ يعهدوها في حياتِهم من قبلْ، والتي يتمُّ استدراجُهم بها من خلالِ مواقعَ مخصوصةٍ لإفسادِ أخلاقهِم وصرفهِم عن دينِهم، مما ساعدَ على ظهورِ جريمةِ التحرشِ الجنسي بهم وتعريضِهم للوقوعِ في المحرماتِ والفواحشِ، والتعلِّق بأشياءَ خبيثةٍ غابتْ ثقافتُها عن حياتِهم.
أيُّها المؤمنونَ: لقد استغلَّ الأعداءُ تلكَ الوسائلَ في غزوِ أبناءِنا وبناتِنا، وإيصالِ هذا الكمّ الهائِلِ من تلكَ المؤثِّراتِ الّتي أشغلتْهُمْ، وأوْقعتْ بعضهمْ في حبائلِ الشّهواتِ، والسيرِ وراءَها، لنيلِ رغباتهمْ ونزواتهمْ بطرقٍ محرّمة وغيرِ شرعيّة.
فالأمرُ جدُّ خطيرٌ، ويحتاجُ ليقظةِ الجميعِ، والانتباهِ لما يُحاكُ بأولادِنا، وأنْ تتضافرَ الجهودُ من أجلِ التصدّي لهذهِ الأمورِ التي تعرضُ على أطفالِنا بمختلفِ الوسائلِ والطرق.
عبادَ اللهِ: إنَّ جريمةَ التحرُّش الجنسي بالأطفالِ، آفةٌ خطيرةٌ وداءٌ عضالٌ في مجتمعاتِ المسلمينَ، ومنْ أسبابِ وقوعِهَا:
أولاً: ابتعادُ كثيرٍ منَ المسلمينَ عن دينِهم، وضعفُ علاقتهمْ بربّهم، حيثُ فرّطوا في طاعةِ اللهِ، وقصّروا في الاستجابةِ لأمرهِ، ووقعوا في معصيتهِ، وغفلوا عن ذكرهِ وشكرهِ وتلاوةِ كتابهِ، وانشغلوا بالدنيا عن الآخرةِ، فتمكنَّ منهم الشيطانُ، فأرسلَ عليهم خيلَه ورجلَه وأصبح قرينَهم وصاحبَهم فصدَّهم عن الطريقِ القويمِ، وصدقَ اللهُ العظيمُ: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)[الزخرف: 36].
ثانياً: تقصيرُ بعضِ الآباءِ والأمهاتِ في تربيةِ أبنائِهمْ؛ وعدمُ القيامِ بالمسؤوليةِ المنوطةِ بهم؛ فلمْ يعرفوا مَن يجالسونَ، ومع مَن يخرجونَ، ولمْ يراقبوا تلكَ الأجهزةَ التي بين أيديهم، ولم يأخذوا بأيِّ سببٍ يساعدُهم على حفظِهم من تلكَ الفتنِ والشرورِ، بلْ تركوها بينَ أيديهم دونَ حسيبٍ أو رقيبٍ فدمَّروا أخلاقَهم، وحطَّموا الفضيلةَ في حياتِهم، يقولُ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-: "والرّجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ، والمرْأةُ راعيةٌ على بيتِ زوجِها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسئولٌ عنْ رَعِيّتِهِ"(متفق عليه).
ثالثاً: تركُ القيامِ بواجبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ؛ وعدمُ الوقوفِ أمامَ من يصنعُ تلكَ البرامجِ السيّئَةَ أو منْ يقومُ بتوزيعِهَا بين أبنائِنا، وعدمُ التّصدِّي لأصحابِ القلوبِ المريضةِ من المتحرشينَ، وتركُهم يقومونَ بارتكابِ تلكَ الجرائِمِ الخبيثةِ، دونَ الإبلاغِ عنهم للجهاتِ المسؤولةِ.
رابعاً: الرّفقةُ السيئةُ؛ والتي هي من أقوى أسبابِ وصولِ كثيرٍ من أطفالِنا إلى هذه الفواحشِ والمنكراتِ والوقوعِ فيها، وكما قال نبيُّنا -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-: "إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً"(متفقٌ عَلَيهِ).
خامساً: الإعلامُ بجميعِ وسائلهِ الخبيثةِ، وفسادُ النظمِ الرقابيةِ القائمةِ عليه، مما ساهمَ في تمريرِ صورٍ ومناظرَ وأفكارٍ مشوّهةٍ، تعملُ على إثارةِ الغرائزِ الجنسيةِ غيرِ الطبيعيةِ عند المتابعين، وتشويهِ الدينِ والأخلاقِ في مجتمعاتِنا المحافِظةِ، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[النور: 19].
عبادَ اللهِ: إنَّ جريمةَ التحرُّشِ الجنسيِّ بالأطفالِ منَ القضايا الّتي تؤرقُ العالمَ أجمع، وتعدُّ منْ أخطرِ القضايا الاجتماعيةِ الّتِي يتمُّ التكتُّمُ عليها خشيةَ الفضيحةِ العائليةِ أو العارِ الاجتماعيِّ، دونَ بذلِ الجهودِ لاستئصالِها من مجتمعاتِنا ممّا يجعلُها ماضيةً في الاستفحالِ، غيرَ مستجيبةٍ لمَا يقدَّمُ حيالَها من حلولٍ، ممّا دفعَ بعضَ الدولِ لسنِّ قوانينَ رادعةٍ للمتحرشينَ بالأطفالِ.
ومن اطَّلعَ على بعضِ تلكَ الجرائمِ الّتِي حدثتْ فلا بدَّ أنْ يهيبَ بالمجتمعِ أنْ يقفَ أمامَها ويصدَّ تيارهَا ويضعف قوّتَها حتى لا يصيبَنا اللهُ -تعالى- بعذابٍ بسببِها.
وقدْ وصلتْ صورُ الاعتداءِ على الأطفالِ عبر الإنترنتِ إلى مستوىً غيرِ مسبوقٍ؛ حيث يتمُّ نشرُ الآلافِ منها عن طريقِ الهواتفِ الذكيةِ، والشبكاتِ المشفَّرةِ لمرتكبي الجرائمِ الجنسيةِ دونَ أنْ يُكتَشفوا مما يُضيفُ تحدياتٍ إضافيةً إلى التحقيقاتِ الجنائيةِ والمحاكماتِ.
ويعدُّ التسلّطُ عبرَ الإنترنتِ مظهراً خطيراً من مظاهرِ العنفِ، وقدْ يرتبطُ بأشكالٍ مختلفةٍ من الاعتداءِ الجنسيِّ. وقدْ يشملُ عرضَ ونشرَ صورٍ ومشاهدَ ذاتِ طابعٍ جنسيٍ؛ أو تشجيعِ الترهيبِ والتسلّطِ عبرَ الإنترنتِ، بهدفِ الحصولِ على خدماتٍ جنسيةٍ من الضحيةِ أو إرغامِ الضحيةِ على أداءِ أفعالٍ جنسيةٍ "ابتزازٌ جنسيٌ".
وَصَدَقَ اللهُ العظيمُ: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[النور: 19].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهَ: واعلموا أنَّ كثيراً من الأطفال يتعلقونَ بتلك البرامجِ والألعابِ التي تُعرضُ عليهم، ولما لها من تأثيرٍ سلبيٍّ عليهم فهم يقومونَ في بعضِ الأحيانِ بتصويرِ أنفسهمْ صوراً أو مقاطعَ فيديو غيرَ أخلاقيةٍ، ثم يقومون بإرسالِ تلك الأشياءِ إلى بعضِ أصدقائِهم المقرَّبينَ أو البعيدينَ دونَ أنْ يضعوا في اعتبارِهم العواقبَ المترتبةَ على ذلك، وغير مقدِّرين خطورةَ تلك الأشياءِ التي يرسلونَها والتي قد تنتشرُ بسرعةٍ؛ ولا يدركونَ أنها قد خرجتْ عن طوعِهم وأصبحتْ لعبةً بين أيدي أصحابِ القلوبِ المريضةِ وعديمي الإيمانِ فيستغلّونَ تلك الصورَ أو المقاطعَ في ابتزازِ هؤلاءِ الأطفالِ، وإيقاعِهم في أمورٍ لا تُحمَدُ عقباهَا، فيترتبُ على ذلك إشكاليةٌ كبيرةٌ في حياتهمْ وعلى ذويهم، فيندمونَ حينما لا مندم.
فيجبُ على الجميعِ وخاصةً أولياءَ الأمورِ والمعلمينَ والمربينَ العملُ على وقايةِ وتوعيةِ الأطفالِ منْ خطورةِ التسلّط عليهمْ وابتزازِهم عبرَ البرامجِ والألعاب التي تَعرِضُ الجنس، وعواقبَهُ المقصودةَ وغير المقصودةَ.
ويجبُ أيضاً تربيتُهم على النهجِ الإسلاميّ في كيفيةِ تواصلهمْ عبرَ هذا الفضاءِ الإلكترونيّ، وتعزيزِ قيمِ التعاملِ والاحترامِ والاهتمامِ بالآخرينَ، وإشعارِهِمْ بالمسؤوليةِ في منعِ كل ما يؤثرُ على سلامتِهِمْ.
ويجبُ أيضاً تعليمهم كيفية ضمانِ حمايةِ خصوصياتِهم، والتعرُّفِ على أنواعِ المخاطرِ التي تُعرضُ عليهم عبرَ الإنترنتِ، وتوجيهُهم إلى تعزيزِ قدراتِهم على الصمودِ أمام تلك الضغوطِ، وتَجنُّبُ الحالاتِ التي قد تُشوَّه فيها صورُهم، أو يتعرضُ فيها شرفُهم وسمعتُهم للخطرِ.
وقد تبنَّت بلادُنا -حَرسَها اللهُ- حملَة توعويةً واسعةً ضدَّ هذا الوباءِ الاجتماعيِ المدمِّر -التسلطِ عبرَ الإنترنتِ- سعياً في حمايةِ أطفالِنا، عن طريقِ عملِ برامجَ تعليميةٍ وتربويةٍ تعالجُ أنماطَ السلوكِ والممارساتِ الخاطئةِ عندهم، وتُحقِّقُ الحمايةَ الذاتيةَ المتعلقةَ بتكنولوجيا المعلوماتِ والاتصالاتِ؛ ودعمهِم لإقامةِ علاقاتِ زمالةٍ إيجابيةٍ ومكافحةٍ للتسلطِ. وكذلك تقومُ إدارةُ مكافحةِ الجرائمِ المعلوماتيةِ بالأمنِ العامِ بِتَتَبّعِ المعرّفات وضبطِ من يقفُ خلفَها، والوصولِ إليهم ومحاسبتِهم.
أسألُ اللهَ أنْ يحفظَ أطفالَنا من كيدِ الكائدين وعبثِ العابثين.
هذا، وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى؛ فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا-: (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].