المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
وإذا أراد الله بعبده خيراً؛ أشهده مِنَّته وتوفيقه، وإعانتَه في كلِّ ما يقوله ويفعله، فلا يُعجب به، ثم أشهده تقصيرَه فيه، وأنه لا يرضى لربه به، فيتوب إليه منه ويستغفره؛ بل ويستحي أن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:
ينبغي للمسلم إذا شرع في الطاعة خصوصاً، وأيِّ عملٍ نافعٍ عموماً أن يُطالع مِنَّةَ الله عليه، وتوفيقَه له، وأنه بالله -تعالى- لا بنفسه، ولا بحوله وقوته؛ بل اللهُ هو الذي أنشأ له السمعَ والبصر والفؤاد والجوارح، وهو الذي يسَّر له الطاعة، واصطفاه لفعلها.
وإذا أراد الله بعبده خيراً؛ أشهده مِنَّته وتوفيقه، وإعانتَه في كلِّ ما يقوله ويفعله، فلا يُعجب به، ثم أشهده تقصيرَه فيه، وأنه لا يرضى لربه به، فيتوب إليه منه ويستغفره؛ بل ويستحي أن يطلب عليه أجراً، فالمُوفَّق هو الذي يعمل الطاعة لوجه الله -تعالى-، مُشاهِداً فضلَ اللهِ ومِنَّتَه وتوفيقَه، مستحيياً منه إذْ لم يُوَفِّه حقَّه، والجاهل يعمل العملَ لِحَظِّ نفسِه وهواه، ناظراً إلى نفسه، مانًّا على ربه بعمله.
فما هو العُجب؟ وما حكمُه؟ وهل ورد له ذِكْر في القرآن والسنة؟
العُجْبُ: هو الكِبْر والزُّهُوُّ، واستعظام النعمة، والركون إليها، مع نسيان إضافتها للمُنْعِم -سبحانه-. وقد سُئل ابن المبارك عن العُجْب، فقال: "أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرِك، لا أعلم في المصلين شيئاً شرّاً من العُجْب".
عباد الله: إنَّ العُجْبَ محرمٌ؛ بل هو من كبائر الذنوب، وعدَّه جماعةٌ من العلماء: من الشرك المُحبِط للعمل. وهناك علاقة بين العُجب والرياء: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ؛ فَالرِّيَاءُ: مِنْ بَابِ الإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ، وَالْعُجْبُ: مِنْ بَابِ الإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ، فَالْمُرَائِي: لاَ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: (إيَّاكَ نَعْبُدُ)، وَالْمُعْجَبُ: لاَ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ: (إيَّاكَ نَعْبُدُ) خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ، وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) خَرَجَ عَنْ الإعْجَابِ".
وقد سَمَى الشوكاني -رحمه الله- الحسد والكِبْر والرياء ومحبة الثناء؛ سمَّاها: الطواغيت الباطنة، والأصنام المستورة.
وهناك فرق بين العُجْب والكِبْر؛ فالعُجب باطن، والكِبر والخُيلاء والتَّعاظم ظاهر، فالعُجب من أعمال القلوب الباطنة، فهو من الأعمال التي لا يطَّلع عليها إلاَّ اللهُ -تعالى-، فإذا ظهرت آثار هذا العُجبِ الباطنِ على الجوارح -بالاختيال في المشي، أو غَمْطِ الناس، أو ردِّ الحقِّ- سُمِّيَ هذا الظاهِرُ على الجوارح كِبْراً وخُيَلاءً.
فالكِبْرُ يتولَّد من العُجب، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى)[البقرة:264]. فالمَنُّ نتيجةُ استعظامِ الصدقة، واستعظامُ العملِ هو العُجب.
أيها المسلمون: ذم الله -تعالى- العُجْبَ والكِبْرَ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه، وذمَّ كلَّ جبَّارٍ متكبِّر، مُعجبٍ بنفسه مُختالٍ فخور، قال -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[الأعراف:146]، وقال -تعالى-: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ)[غافر: 27]، وقال -تعالى-: (لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)[النحل: 23]، بل يُبغضهم أشدَّ البُغض، وسَيُجازيهم من جنس عملهم؛ كما قال السعدي -رحمه الله-.
وقال -سبحانه-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 34]، قال بعضهم: إنَّ أوَّل ذنبٍ عُصِيَ اللهُ به الكِبْر؛ فمَن استكبر على الحق -كما فعل إبليسُ- لم ينفعه إيمانُه.
قال ابنُ كَيْسَان في قوله -تعالى-: (وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)[المدثر: 6]: "لا تستكثرْ عملاً فتراه من نفسك، إنما عملك مِنَّةٌ من الله عليك، إذْ جعل لك سبيلاً إلى عبادته".
إخوتي الكرام: قد يُعجب الإنسانُ بعملٍ -وهو مخطئ، كما يُعجب بعملٍ- وهو مُصيبٌ فيه، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف: 104].
أيها الأحبة: وكذلك ورد ذِكرُ العُجب في السنة المطهرة؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا"(رواه مسلم)؛ أي: لا يقبل من الأعمال إلاَّ ما كان طيِّباً طاهراً من المفسدات كلِّها؛ كالعُجب والرياء، ولا يقبل من الأموال إلاَّ ما كان طيباً حلالاً، فإنَّ الطيِّب توصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات. قال الله -تعالى-: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10]؛ فيصعد إليه -سبحانه- القول الطيب الذي ليس فيه رياء، ولا سُمعة، ولا إعجاب، وكذلك العمل الصالح الذي خَلُصَ من هذه المُفسدات، فهو -تبارك وتعالى- طيِّب في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله، ولا يليق به إلاَّ الطيب من الأقوال والأفعال الصادرة من الخَلْق.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ، إِذْ خُسِفَ بِهِ الأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ -أي: يغوص في الأرض حين يُخسف به- حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"(رواه مسلم)، وقال أيضاً: "لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ؛ لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ: الْعُجْبَ الْعُجْبَ"(رواه البيهقي في "شعب الإيمان)، وعَنْ جُنْدَبٍ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ "أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ -تعالى- قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"(رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا"(رواه البخاري ومسلم)؛ فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تمنِّي لقاء العدو؛ لما فيه من صورة العُجب، والاتكال على النفوس، والوثوق بالقوة، وقلة الاهتمام بالعدو، وكلُّ ذلك يُخالف الاحتياط والأخذ بالحزم.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
عباد الله: كَثُرَ تحذير السلف الصالح من العُجب، وكان لهم مع هذا الداء أحوال وأقوال، من ذلك: قول الصديق أبي بكرٍ -رضي الله عنه-: "لا تحقرنَّ أحداً من المسلمين؛ فإنَّ صغير المسلمين عند الله كبير".
وقال الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "إنَّ الرجل إذا تواضع رفع الله حِكمتَه، وقال: انْتَعِشْ نعشَك الله، فهو في نفسه صغير، وفي أعين النَّاس كبير. وإذا تكبَّر وعَدَا طَوْرَه، وهَصَه الله إلى الأرض، وقال: اخسأْ أخسأك الله. فهو في نفسه كبير، وفي أعين النَّاس حقير".
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إنكم لَتَغفُلون عن أفضل العبادات: التواضع". وقيل لها: متى يكون الرجل مُسيئاً؟ قالت: "إذا ظنَّ أنه مُحسِن".
وبعد نزول براءتها في حادثة الإفك المشهورة، قالت -رضي الله عنها-: "واللهِ، ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله مُنَزِّلٌ في شأني وحياً يُتلى، وَلَشأْني في نفسي كان أحقرَ من أن يتكلَّم اللهُ فِيَّ بأمرٍ يُتلى، ولكنْ كنتُ أرجو أنْ يَرى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في النوم رُؤيا يُبَرِّؤني الله بها".
قال مُطرِّف -رحمه الله-: "لأَنْ أبيتَ نائماً وأُصبحَ نادماً؛ أحبُّ إليَّ من أن أبيتَ قائماً وأُصبحَ مُعجباً".
قال بعضهم: "أنين المذنبين أحبُّ إلى الله -تعالى- من زَجَلِ المُسبِّحين"؛ لأنَّ زَجَلَ المُسبِّحين ربما شابه الافتخار، وأنين المذنبين يُزيِّنه الانكسار والافتقار.
أيها الإخوة الكرام: مثل هذه النصائح والحِكَم تُوَجَّه للمعجبين بجمالهم، أو بذكائهم وفطنتهم، أو بأحسابهم وأنسابهم، أو المعجبين بأموالهم وثرواتهم ومناصبهم، أو المعجبين بأولادهم وعشائرهم وأقربائهم، أو المعجبين بعلمهم أو عباداتهم، فمثل هذا الموضوع فيه تربية للجميع المُتحدِّث والمستمعين، قال الله -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)[الأعلى: 14]، وقال -سبحانه-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 9، 10].
وصلوا وسلموا...